صادق البرلمان التونسي على منح الثقة للوزراء الجدد في حكومة هشام المشيشي بأغلبية مريحة، رغم اعتراض الرئيس قيس سعيد عليه لأنه “لم يحترم الإجراءات التي نص عليها الدستور”، فهل تكون اليمين الدستورية سبيل سعيد لتعطيل هذا التعديل؟
البرلمان مصدر الشرعية
شمل التعديل الوزاري الذي وافق عليه نواب البرلمان 11 حقيبة وزارية وهي: الداخلية والبيئة والثقافة والعدل وأملاك الدولة والشؤون العقارية والصحة والصناعة والطاقة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والفلاحة والتكوين المهني والتشغيل والشباب والرياضة. وهي الخطوة التي تأتي بعد عملية تقييم شاملة، بهدف تحقيق مزيد من النجاعة والانسجام في العمل الحكومي وتنفيذ خطط الحكومة.
هذا التعديل الحكومي أطاح بوزراء مقربين من رئيس الجمهورية قيس سعيد على غرار وزير الداخلية توفيق شرف الدين – مدير الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية – إضافة لوزراء الثقافة والعدل والصحة، وذلك لفرض مزيد من الانسجام على تركيبة حكومته.
وخلال كلمته التي ألقاها بمناسبة عرض وزرائه الجدد، قال هشام المشيشي إنه توجه لمؤسسة مجلس نواب الشعب التي اختارها الشعب لتكون مصدر الشرعية لطلب الثقة للتعديل الوزاري، بعدما منحته الثقة سابقًا، وذلك ردًا على قيس سعيد الذي أكد في وقت سابق عدم استشارته في التعديل، ورفضه إياه لأنه إجراء لم ينص عليه الدستور، بل النظام الداخلي للمجلس.
مسلسل التعديل الوزاري لم ينته بعد، فالرئيس قيس سعيد لم يقل كلمته النهائية في شأنه
في نفس الكلمة، أكد المشيشي أن تونس وضعت حد منذ ثورة 2011 مع الرأي الواحد ومنظومة الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وألمح إلى ما وصفه بالشعبوية في التعاطي بين مؤسسات الدولة وحل الخلافات، قائلًا: “الخطاب الشعبوي هدفه تسويق الأوهام وتسجيل النقاط السياسية وافتعال المعارك الزائفة التي فصلها الدستور ولم تعد تعني لشعبنا وشبابنا أي شيء”. وأضاف ”ما لم يتحقق الاستقرار السياسي وما لم تنضج الحياة الديمقراطية، وما لم تلتزم كل المؤسسات الدستورية بنواميس الدولة وضوابطها، وبحدود صلاحياتها الدستورية بعيدًا عن الاستعراض والإثارة، فلن تخرج تونس من الأزمة التي نعيشها”.
حزام سياسي أقوى
في سبتمبر/أيلول الماضي، حظيت حكومة هشام المشيشي بموافقة 134 نائبًا من أصل 217، إلا أن العديد من الخبراء أكدوا حينها أن ذلك لا يمتع المشيشي بحزام سياسي كبير، فالأحزاب التي صوتت لحكومته لا توافق كليًا التمشي الذي جاء من خلاله أصلًا، وبعد مرور أكثر من 5 أشهر، عاد المشيشي مرة أخرى إلى البرلمان لعرض تعديل وزاري واسع في حكومته، فنال الثقة من جديد لكن هذه المرة الحزام السياسي أقوى، فقد نال بعض وزرائه ثقة 144 نائبًا رغم أن النواب لم يكونوا موجودين جميعًا خلال الجلسة.
هذا الأمر له رسائل عدة، أبرزها أن الحزام البرلماني للحكومة أشد صلابة من ذي قبل، رغم حملات التشكيك التي طالته مؤخرًا من أطراف عدة على رأسها رئاسة الجمهورية، ومن الرسائل أيضًا أن الحكومة تخلصت من ضغط قصر قرطاج الممارس عليها ما أفقدها نجاعتها والانسجام بين أعضائها.
وهناك رسائل أيضًا من البرلمان إلى المناوئين، مُفادها أن حملات التشكيك والتعطيل للعمل البرلماني لم تُؤت أكلها، فهو صاحب الشرعية وهو من يمنح الحكومة الشرعية حتى تعمل وليست أي جهة أخرى عملًا بأحكام الدستور.
هذه الأغلبية المريحة يمكن للحكومة أن تستغلها لتمرير قوانين عديدة حتى تؤدي عملها على الوجه المطلوب، كما يمكن أن يستغلها الحزام الحكومي حتى يستكمل تشكيل الهيئات الدستورية كالمحكمة الدستورية حتى لا يبقى محل للاجتهاد وتعطيل مؤسسات الدولة بحجة “التأويل”.
اليمين الدستورية
مسلسل التعديل الوزاري لم ينته بعد، فالرئيس قيس سعيد لم يقل كلمته النهائية في شأنه، خاصة أنه أبدى رفضه له قبل عرضه على مجلس نواب الشعب، خاصة أنه يرى أن بعض المقترحين في التعديل الوزاري تتعلق بهم قضايا أو لهم ملفات تضارب مصالح، وهم الأشخاص الذين لا يمكنهم أداء اليمين، على اعتبار أنه ليس إجراءً شكليًا بل إجراء جوهري، مؤكدًا أنه لن يسمح بضرب الدستور، وأن لديه من الوسائل القانونية لحماية الدولة والثورة والشعب.
تواصل غياب المحكمة الدستورية من شأنه أن يزيد من حدة الأزمة السياسية في البلاد
هذا الموقف، بالجانب إلى غياب المحكمة الدستورية وضبابية النصوص الدستورية المتعلقة بإجراءات التعديل الحكومي ونيل الوزراء الجدد الثقة وأدائهم اليمين الدستورية، يفتح الباب أمام تأويل النصوص والاجتهاد في هذا الشأن، فهناك من الخبراء في القانون الدستوري من يرى أن مسألة أداء اليمين الدستورية للأعضاء الجدد في الحكومة أمام رئيس الجمهورية يعد إجراءً بروتوكوليًا وشكليًا، فيما يرى آخرون أن هذا الإجراء جوهري.
وفي حال أصر الرئيس قيس سعيد على موقفه، ستكون هذه الحادثة الأولى من نوعها في تونس ما بعد الثورة، ولا شك أنها ستزيد من حدة الأزمة السياسية في البلاد، لكن إلى الآن، تبين المعطيات أنه من الصعب على سعيد أن يعرقل هذا التعديل الوزاري خاصة بعد أن حظي بثقة أغلبية أعضاء البرلمان، وعجز النواب المتحالفون معه (الكتلة الديمقراطية) في إسقاط هذا التعديل.
الحاجة إلى المحكمة الدستورية
هذا الأمر يؤكد ضرورة استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية حتى تبدأ في مهامها، بعد أن عجز البرلمان في مرات سابقة عن انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وذلك بسبب غياب التوافق بين الكتل النيابية بشأن المرشحين، ففي مارس/آذار 2018، أجرى البرلمان التونسي ثلاث دورات انتخابية متتالية، انتخب خلالها مرشحة واحدة وهي روضة الورسيغني بعد حصولها على 150 صوتًا، فيما أخفق في انتخاب 3 أعضاء آخرين، ويشترط لانتخاب عضو واحد بالمحكمة الدستورية حصوله على أغلبية الثلثين من الأصوات (145 صوتًا من أصل 217).
وتضم المحكمة 12 عضوًا، 4 منهم ينتخبهم البرلمان و4 يختارهم المجلس الأعلى للقضاء (مؤسسة دستورية مستقلة) و4 يعينهم رئيس الجمهورية، ومن مهامها مراقبة مشاريع تعديل الدستور والمعاهدات ومشاريع القوانين والقوانين والنظام الداخلي للبرلمان، وتبت في استمرار حالات الطوارئ والنزاعات المتعلقة باختصاصي رئيسي الجمهورية والحكومة، كما تنظر في إعفاء رئيس الدولة في حالة الخرق الجسيم للدستور.
استمرار غياب المحكمة الدستورية، سيؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى تفاقم الأزمة السياسية في تونس، إذ إن كل الأطراف السياسية في السلطة والمعارضة على حد سواء تؤول النصوص الدستورية والقوانين وفق الرؤية التي تخدم مصلحتها.