يطغى حب البعض للعمارة التراثية على عمارة يومنا الحديثة، وهي العمارة التي تحمل رسائل ومعاني صمدت لمئات السنين، مقارنة بالمباني العصرية التي تشبه بعضها البعض حاملة رسائل مزعجة ومملة.
ومع هذا التصور الكثير من الأسئلة والأفكار التي قد يجانبها الصواب في الكثير من أطرافها، فالبعض يفترض أن “كل” المباني القديمة والكلاسيكية أفضل من “جميع” المباني الحديثة، على اعتبار أنها مرآة حقيقية تعكس ملامح عصرها، وهي تصورات خاطئة تمامًا، فلا يمكننا أن نفترض بأن كل المباني القديمة كانت من طراز واحد أو ذات جودة واحدة، وأن المباني الحديثة أيضًا ذات طراز وجودة واحدة، لأننا بذلك نغض أبصارنا عن الكثير من المباني القديمة القبيحة أو المباني الحداثية الجميلة.
ولا بد من الإشارة إلى أن المباني التي صمدت لمئات السنين هي الأمثلة الناضجة الناجحة والجميلة، وأنه في تلك العصور القديمة، كان هنالك الكثير من المباني الرديئة القبيحة التي اختفت مع الزمان ولم تصلنا منها أي آثار ولا نعرف الكثير عنها، فعندما نقارن المباني القديمة الجميلة بالمباني الحديثة، فإننا نرتكب خطأ فادحًا، فالمباني القديمة التي بقيت على قيد الحياة عادة ما تكون أروع نماذج عصرها، وليس من العدل أن نقارنها بالمتوسط أو حتى ببعض الأمثلة السيئة للحداثة، فهذا أشبه بمقارنة قصر ملكي بمنزل ريفي.
في مقالنا اليوم سوف نحاول نتعرف على الأسباب المحتملة لاختفاء العمارة الكلاسيكية أو بلغة بسيطة “عمارة العصور القديمة” وظهور عمارتنا الحديثة لتحل محلها.
أين اختفت العمارة الكلاسيكية؟
إجابة هذا السؤال متشابكة، فهنالك العديد من الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية المؤثرة في استبدال العمارة الحداثية بالكلاسيكية، فنمط العمارة الكلاسيكي لم يعد مناسبًا لحياتنا، لأن أنماط التصميم بوجه عام تعكس الثقافة والمجتمع الذي يصنعها، ومن الواضح أننا لم نعد نعيش في مجتمع كلاسيكي.
لذا فمن المنطقي ألا نرى هذا النوع من العمارة بصورة كبيرة، وإلا سيكون الأمر أشبه بالإصرار على ارتداء لباس عصر النهضة أو الملابس الفرعونية أو اقتصار ألوان الفنون على الطُرز اليونانية، متجاهلين التغيرات في التكنولوجيا والثقافة والمجتمع التي حدثت وأثرت على لغتنا المنطوقة والمكتوبة وطريقة معيشتنا وعملنا ونظرتنا للحياة. فالعمارة كائن متطور يتطور طبقًا لاحتياجات عصره، عاكسًا لقيم المجتمع الذي يحتضنه.
من الأسباب التي رجحت كفة العمارة الحداثية هي مقابلتها وتحقيقها لشروطنا الحياتية في عصرنا الحديث
من العوامل الرئيسية لاختفاء العمارة الكلاسيكية كذلك هو التكلفة الزمنية والاقتصادية الباهظة لإنشاء تلك المباني، وكذلك عدم عمليتها لعصرنا الحاليّ، فالطريقة التي نعيش بها وما يميزها من التقدم التكنولوجي وطريقة تصميم المباني وبنائها اختلفت كثيرًا عن تلك العصور التي مجدت فنون الصناعة اليدوية والمهارات الفنية والحسية.
إذ إن فترة الصناعات اليدوية قد ولت – سواء كنا من مُعجبيها أم لا -، مع تحول العالم إلى التصنيع ووضع القيمة في الإنتاج الضخم، ما أدى إلى تقلص العديد من الحرف وارتفاع تكاليف العمالة بشكل كبير.
بالإضافة إلى التقدم في استخدام الفولاذ والخرسانة المسلحة لتحقيق ارتفاعات أعلى للمباني أكثر مما يمكن تحقيقه من الحجر والطوب، ومن جانب اقتصادي بحت فإن تكلفة إنشاء قالب لصب الخرسانة يتطلب وقتًا ومهارةً أقل بكثير ويمكن تكراره بسرعة وبسعر زهيد في الموقع، أما المباني الكلاسيكية فبناؤها يتطلب الكثير من الوقت والكثير من المهارة والكثير من المال، أما الألواح الخرسانية مسبقة الصنع يمكنك ببساطة شحنها على متن شاحنة وإنشاءها بسرعة وبطريقة رخيصة في موقع الإنشاء.
ونظرًا لارتفاع تكلفة العمالة الماهرة بما يتناسب مع الميزانية الإجمالية للمباني، أصبحت جوانب العمالة المرتفعة للمباني مثل الزخارف والأعمال الحجرية أكثر صعوبة في الاستخدام، هذا أدى لرفض رواد العمارة الحديثة الزخرفة غير الوظيفية.
هناك أيضًا حجم البناء، حيث يوجد اليوم عدد أكبر من المباني التي يتم تشييدها أكثر من أي وقت مضى، ولم يكن عدد سكاننا بهذا الارتفاع كما هو عليه اليوم، إذ يمكن بناء ناطحات السحاب في غضون أشهر، كما هو الحال في الصين، أو حتى بضع سنوات في أي مكان آخر.
قارن ذلك بوتيرة بناء كاتدرائية العصور الوسطى، فقد بدأ بناء كاتدرائية كولونيا عام 1248م ولم تكتمل إلا عام 1880 (أدرك أن هذه حالة خاصة، حيث تم طرد الأسقف من المدينة وتعليق العمل عام 1473، ولكن لا يزال هناك 225 عامًا من البناء دون انقطاع ودون اكتمال).
ومن جانب آخر فإن المنحوتات والواجهات الكلاسيكية التي صممت من أجل إظهار عظمة صانعيها أو إظهار الجمال لأي سبب من الأسباب هي مفاهيم ناسبت عصرها الذي عظم مفاهيم مثل الأساطير أو تعظيم الملوك أو الأيقونات الدينية، التي لم يعد أي منها ذات أهمية في معظم البلاد الغربية التي يستقى منها العالم كله مفاهيمه المعمارية.
ومن الأسباب التي رجحت كفة العمارة الحديثة هي مقابلتها وتحقيقها لشروطنا الحياتية العصرية، فعلى سبيل المثال، تلك الحوائط الحجرية كانت سميكة لدرجة أنها تشغل حيزًا كبيرًا جدًا من الأرض التي كانت تُقام عليها، ما يضيع المساحات، وكانت النوافذ صغيرة لأسباب إنشائية وهذا يسبب ظلام الغرف وعدم وصول الشمس بشكل كاف إليها، أما بناء الزخارف والشكل الخارجي بطريقة مزيفة لا تخدم أي وظيفة فما ذلك إلا مضيعة للمال.
هذا بالإضافة إلى أنه بسبب التقييدات الإنشائية كان من الضروري أحيانًا أن تكون الغرف صغيرة جدًا حتى في بعض مباني العصور الوسطى الفخمة والقلاع، فغرفة نوم أحدنا في عصرنا الحديث قد تتخطى مساحة غرفة نوم أحد النبلاء في العصور الوسطى.
عصرنا
عصرنا الحاليّ يتميز بالسرعة والتغير، وهذا ما يجعل التشغيل قصير الأجل من أهداف البناء، فدورة حياة المبنى في عصرنا الحديث قصيرة للغاية، ما يجعل توفير التكلفة الاقتصادية منطقي للغاية، فالمباني الحدثية سريعة وسهلة البناء، موفرة ماليًا، ويمكن تغيير استخدامها بسهولة بسبب مرونة تخطيطها المعماري الذي توفره نظم الإنشاءات الحديثة، وهو ما لم يكن موجودًا في طرق البناء القديمة.
عندما نتحدث عن جمال المباني القديمة فإننا نتحدث في الأغلب عن عمارة الطبقات العليا والمباني العامة، أما أغلبية الشعب فعاشوا في أحياء فقيرة
وهذا يجعل إنشاء أو إعادة بناء مُدن كاملة لتوطين السكان المتزايدين أمرًا لا يستغرق الكثير من الوقت مقارنة بالطرق التقليدية القديمة للبناء. وكما يقول جون روسكين في كتابه سبعة مصابيح معمارية:
“من المستحيل بقدر استحالة إحياء الموتى استعادة أي شيء كان رائعًا أو جميلًا في الهندسة المعمارية. ما أصررت عليه باعتباره حياة الكل، لا يمكن استدعاء تلك الروح التي لا تمنح إلا باليد والعين من العامل” أي أنه إذا أردنا حتى استعادة تلك العمارة فإنه من المستحيل فعل ذلك لأن ذلك الصانع الذي صنعت روحه هذا الجمال الذي نراه لم يعد هو ولا روحه موجودين في عصرنا الذي قطع الصلة بالماضي تمامًا.
أي عمارة كلاسيكية؟
عندما نتحدث عن جمال المباني القديمة فإننا نتحدث في الأغلب عن عمارة الطبقات العليا والمباني العامة، أما أغلبية الشعب فعاشوا في أحياء فقيرة، حيث كانت الهندسة المعمارية الكلاسيكية الجميلة باهظة الثمن بالنسبة للرجال العاديين، وكانت العمارة الحديثة هي الحل الحقيقي الوحيد آنذاك للقضاء على الأحياء الفقيرة الموبوءة، لذا فإن رواد الحداثة أرادوا التمرد ورفض القديم والتركيز على وظيفة المبنى والنفعية ونادرًا ما صبوا اهتمامهم على جماليات المبنى.
يتم تصفية معظم المباني القديمة القائمة حسب الوقت، فهُدِمت السيئة منها واستبدلت بأخرى، وحدثت هذه العملية مرارًا وتكرارًا، ففي كل مرة تستبدل بالأقل جودة، وكما ناقشنا في المقالات السابقة وقبل بضعة عقود فقط، هُدِمت الأمثلة السيئة مثل بروت إيجو وبلمار وغيرها.
أما المباني التي لا تزال قائمة منذ مئات السنين هي تلك التي تم بناؤها جيدًا، وكُرس الكثير من الجهد والاهتمام لها، وكان هناك العديد من المباني التي شيدت في الماضي ولم تكن مبنية بشكل جيد ولم تكن مبهجة من الناحية الجمالية، وليس من المستغرب أنها لم تنج.
والعمارة الحدثية ما زالت في طور التجارب، ومع ازدياد الوعي بالوظيفة الجمالية، فإنها بدأت في التطور والاهتمام بالجماليات وخلق عمارة أكثر إنسانية في العقود الأخيرة.
أما العودة للعمارة الكلاسيكية فهو طريق مسدود، وخيار غير منطقي، فهي كمن يطالبك بالعودة إلى التنقل والسفر مستخدمًا عربات الخيول والتخلي عن سيارتك الحديثة، وعندما نقارن المباني الحديثة التي لا تعجبنا في عصرنا الحاليّ، فعلينا مقارنتها بما يماثلها في العصور القديمة في أوروبا التي لم تكن مثالية بأي حال، تلك المباني التي انتشرت منها الأوبئة والأمراض، غير الآمنة، وغير المرفهة كمبانينا في عصرنا الحاليّ.
باختصار، إن معظم مباني العصور الوسطى غير عملية لمتطلبات السكن اليوم التي من المفترض أن تؤمن للسكان العيش في منازل صحية ومشمسة وعملية وبأسعار معقولة لعدد أكبر بكثير من الناس.
هل هذا يعني أن عمارتنا جيدة؟
دعوني أوضح أن مقالي هذا ليس للدفاع عن طراز ما بخلاف طراز آخر، لكن لتوضيح أسباب اختفاء الطرز القديمة لتحل محلها الطرز الحديثة، وقد يطرأ على بالكم سؤال له محله، ألا وهو: لماذا إذن تبدو المباني قبيحة في عصرنا الحاليّ؟
السبب أن معظم تلك المباني قد بُنى بثمن بخس، والمعماريون مجبرون على تسليم التصميمات بشكل سريع جدًا لتلبية الطلبات المتزايدة، بالإضافة للمقيدات المادية والاجتماعية والسياسية، فعصرنا الحاليّ لا يعترف إلا بالمادة، فالمادة هي كل شيء، والتكلفة هي أهم جوانب البناء بوجه عام.
وقد ناقشنا في مقالنا السابق أن العمارة القديمة كانت جميلة لارتباطها بقيم ومُثل عليا، أما الآن فعلمنة العمارة سلبتها التصميمات القديمة التي صممها رجال مؤمنون سواء كانوا مؤمنين بالله أم بأي قيم أخرى، يقول روجر سكرتون: “من يستطيع أن يشك عند زيارة البندقية أنها متجذرة في الإيمان وتروبها دموع التوبة”.
أما الآن فمجتمعنا بما فيه من مفكريه ومعماريه حُرم من شيئين: اللغة، إذ حُرِمت من القدرة على النقل ومن قواعدها الرمزية وكونها رسالة فضلًا عن كونها وسيلة للتواصل، أما الثاني فالسياق، فمدننا المعاصرة لا توفر إطارًا متماسكًا لأجزائها، فمدننا لا تعبر عن النسيج الاجتماعي ولا تخلق بطبيعة حالها أي حالة من حالات التمدن.
وعمارتنا تعكس ثقافتنا، وثقافتنا تعكس قيمًا يغلب عليها السرعة والفعالية والأكل السريع، ثقافتنا المتأثرة بالاستهلاكية والاستبدال، لكن يظل الوضع ليس بهذا السوء الذي قد يظنه البعض.
فقد ذكرنا في مقالنا أن تلك المباني الحديثة تُبنى أسرع بكثير وبعدد عمال أقل، بالإضافة للمزيد من خيارات مواد البناء، حيث كان الماضي يعتمد على ما يمكن استخراجه من أرض الموقع أو قطعه من الغابات المجاورة، بالإضافة إلى المزيد من الضوء والمساحة والطول والتوفير الاقتصادي، وكذلك الجودة الأفضل التي توفر متانة أقوى إذا روعيت شروط البناء بالطبع وخاصة في بلدان الشرائط الزلزالية.
وكما ذكرت، فإن التجارب الأولية تبوء بالفشل والتكرار، ومتتبع التطورات المعمارية في العالم الغربي يجد أن هناك تطورًا واضحًا في تلك الأساليب الحديثة التي تسعى لتحسين عمارتنا للوصول بها إلى منتجات أكثر عمليةً وجمالًا ومخاطبةً للإنسان واحتياجاته.