“لقد مات بربروس، ولم يعد لتركيا من يقود سفنها البحرية وألويتها إلى طريق النصر ومن يحفظ لها كرامتها في البحر الأبيض المتوسط”.. هكذا علق قنصل البندقية في الدولة العثمانية على رحيل قائد البحرية العثمانية الشهير خير الدين بربروس في يوليو/تموز 1546.
عمت أنحاء أوروبا فرحة عارمة بوفاة بربروس الذي طالما أرعب البحرية الإسبانية والبرتغالية في البحر المتوسط وشمال إفريقيا على وجه التحديد، متوهمين أن الأسطول العثماني ليس به من يخلف الأمير الراحل، فيما انتاب البعض المخاوف من فقدان الإمبراطورية العثمانية نفوذها بالمتوسط بعد هذه الضربة المؤلمة.
في كتابه “الإسبان وفرسان القديس يوحنا في طرابلس“، يصف المؤرخ عمر محمد الباروني حجم الانتشاء الأوروبي لوفاة خير الدين الذي كانت تخشاه معظم دول القارة العجوز لما كان يمتلكه من أسطول قوي كان يتخذ من الجزائر مقرًا له، وبات السؤال الذي يفرض نفسه على ألسنة العثمانيين والأوروبيين على حد سواء: من البديل؟
أمام هذه الحالة المتأرجحة بين الفرح والقلق ظهر على السطح قائد جديد، تورغوت ريس، اليد اليمني لبربروس وساعده الأقوى وزوج ابنته، الذي استطاع حمل راية الجهاد ليكمل ما بدأه قائده، وبالفعل استطاع أن يقدم نموذجًا فريدًا في القتال البحري.
ركوب البحر مبكرًا
عشق تورغوت منذ ولادته في إحدى القرى الواقعة في موغلة (جنوب غرب تركيا) عام 1485م البحر ركوبًا وإبحارًا، وهو ما دفعه لأن يتطوع في البحرية العثمانية ليصبح ملاحًا على إحدى السفن ومجدفًا كذلك، وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وقد أظهر مهارة فائقة في الملاحة ومعرفة البحر.
كان طورغوث (هكذا كان يطلق عليه الليبيون) المولود لأبوين فقيرين، شغوفًا بالمغامرات البحرية، ساعده على ذلك عمله على مدفعية الأسطول العثماني، وعصاميًا من الطراز الأول، وكان محبًا لعمله، مخلصًا له، ما سمح له بالإبداع والتفنن فيه، ما أثار إعجاب قادته والمقربين من أمراء البحر العثمانيين في هذا الوقت.
بعد فتح القسطنطينية عام 1543 وطرد الإسبان من الأندلس بدايات 1482، تحول البحر المتوسط إلى ميدان للتصارع وبسط النفوذ بين الدولة العثمانية والإسبانية البرتغالية
ومع بدايات القرن السادس عشر، اقتحم البحار الشاب ميدان القرصنة، منضمًا إلى فريق من البحارة الأتراك، ذاع صيتهم بعدما بسطوا أيديهم على شرق المتوسط، وبثوا الرعب في نفوس الإيطاليين والبندقيين، هذا بخلاف الانتصارات التي حققها بين الحين والآخر على السفن البرتغالية.
وبعد فتح القسطنطينية عام 1543 وطرد الإسبان من الأندلس بدايات 1482، تحول البحر المتوسط إلى ميدان للتصارع وبسط النفوذ بين الدولة العثمانية كقوة مهيمنة على شرق البحار، والإسبانية البرتغالية ككيان مهيمن على غرب المتوسط، ومن هنا كان صراع النفوذ بين القوتين على أشده، وقد أبلى تورغوت في هذه الفترة بلاءً حسنًا حتى وصل صيته إلى خير الدين بربروس الذي أعجب به فضمّه إلى أسطوله، وجعله ساعده الأيمن في غزواته البحرية.. لتبدأ مرحلة جديدة من حياة تورغوت ريس.
علاقته بالأخوين بربروس
تطورت علاقة تورغوت بالأخوين بربروس، عروج وخير الدين، فكان رجل المهمات الصعبة لهما في معاركهما بالمتوسط، ووصلت ثقتهما به بأن تزوج ابنة خير الدين، ليصبح أحد أركان الأسرة البربروسية ذائعة الصيت في عالم البحرية.
خاض القائد الشاب العديد من المعارك في المتوسط من شرقه إلى غربه، كما ساهم في نقل عشرات آلاف المسلمين من الأندلس إلى شمال إفريقيا، بعد أن أنقذهم من بطش محاكم التفتيش الصليبية التي أقامها الإسبان بحق غير المسيحيين، محققًا العديد من الانتصارات ضد الأسطول الأوروبي في البندقية ونابولي ورودوس.
في كتابه “ليبيا منذ الفتح العربي إلى سنة 1911″، يستعرض المؤرخ إتوري روسي بعضًا من المعارك التي حقق فيها تورغوت انتصارات ساحقة على الأسطول الصليبي في المتوسط، وعلى رأسها معركة بروزة التي وقعت عام 1538 على السواحل اليونانية.
في هذه المعركة استطاع أسطول خير الدين إلحاق هزيمة مذلة بالأسطول الأوروبي المكون من 600 سفينة، ولم تستمر المواجهة أكثر من خمس ساعات فقط، حتى تساقطت سفن أوروبا في أيدي العثمانيين، وكان لتورغوت دور محوري في تلك المعركة التي رفعت اسمه عاليًا بين أمراء البحر العثمانيين.
وحين استُدعي خير الدين بربروس لإسطنبول للإعداد لقيادة الأسطول العثماني كلف زوج ابنته القائد الفذ بتولي مهمة قيادة أسطوله الخاص في شمال إفريقيا، وخلال فترة وجود بربروس في عاصمة الخلافة كانت انتصارات البحار الماهر على شواطئ إسبانيا وإيطاليا تطرب الآذان.
تورغوت أسيرًا
أثارت الهزائم المتتالية التي تلقاها الأسطول الأوروبي على أيدي تورغوت غضب القيادات الأوروبية التي حثت قائد الأسطول أندريا دوريا على الثأر في أسرع وقت من القائد المسلم بعدما انتشرت قصص وحكايات انتصاراته في كل مكان.
مكث القائد العثماني في الأسر أربع سنوات كاملة، كان يعمل خلالها جدافًا على إحدى سفن الأسطول الأوروبي
وعلى الفور وضع دوريا أمير البحر العثماني على رأس قائمة الأسماء المطلوب أسرها للانتقام منها، ومحاولة تحقيق انتصار معنوي من خلال هذه العمليات لحفظ ماء الوجه، وبالفعل وبعد محاولات عديدة للبحث عن تورغوت تم إيقاعه في الأسر عام 1540.
مكث القائد العثماني في الأسر أربع سنوات كاملة، كان يعمل خلالها جدافًا على إحدى سفن الأسطول الأوروبي، إلا أن السلطان العثماني سليمان القانوني أمر قائده خير الدين بفك أسر تورغوت بأي ثمن، ليتوجه بأسطول بحري هائل أمام السواحل الإيطالية ويرسل رسالة تهديد لحكومة جنوة – حيث كان يوجد البحار الأسير – بضرورة تسليمه وإلا الهجوم وتدمير المدينة بالكامل.
وبعد مناوشات استمرت عدة أيام بين الأسطول العثماني وحكومة جنوة، اضطرت الأخيرة في نهاية الأمر إلى الإذعان لتهديد العثمانيين وإطلاق سراح تورغوت، ليعود مرفوع الرأس مرة أخرى إلى تونس، عاقدًا العزم على مواصلة الجهاد في سبيل الله رغم تجاوزه الستين من عمره.
واليًا على طرابلس
لم يمكث تورغوت في فترة النقاهة والراحة عقب الأسر طويلًا، إذ قرر الزحف مع أسطول بربروس إلى الجزائر بعد ضمها رسميًا للدولة العثمانية في 1519، وهو التحرك الذي أقلق الأوروبيين الذين سارعوا لإنشاء منظمة “فرسان مالطا” أو كما يعرف داخل أوروبا “فرسان المعبد”.
كانت مالطا مقر تلك المنظمة التي بدأت كمؤسسة خيرية ثم سرعان ما تحولت إلى عسكرية تمارس أعمال القرصنة والابتزاز على السفن العثمانية في المتوسط، لكن بعد سيطرة الدولة العثمانية على الجزائر طلب القديس يوحنا من الملك شارل الخامس نقل مقرها إلى طرابلس بعد تسلمها من الإسبان من أجل مواجهة النفوذ العثماني هناك.
أثارت سيطرة فرسان مالطا على طرابلس قلق ومخاوف الجزائريين الذين طلبوا من السلطان العثماني سليمان القانوني، العون والحماية مقابل الولاء، وهنا لم يتأخر السلطان، وعلى الفور طلب من القائد تورغوت قيادة أسطول ضخم وفتح طرابلس تحت قيادة مراد أغا وسنان باشا.
خرج القائد على رأس أسطول مكون من 120 سفينة، بجانب مئات المجندين، واستطاع في وقت قصير جدًا أن يلحق الهزيمة بفرسان أوروبا رغم ما كانوا يتمتعون به من قوة وعتاد، وفي منتصف أغسطس/آب 1551 تحررت طرابلس وباتت إيالة عثمانية بحرية في شمال إفريقيا.
كافأ السلطان، مراد باشا، قائد معركة التحرير، بأن ولاه على ليبيا، واستمر في الحكم خمس سنوات ثم اعتزل العمل السياسي عام 1556، أما تورغوت فكان يحلم بولاية طرابلس، هذا الحلم الذي طالما راوده كثيرًا وفق ما ذكرت العديد من الروايات، وبالفعل تحقق له ما حلم به، إذ عينه السلطان واليًا على المدينة عام 1553، كما ذكر الطاهر الزاوي في كتابه “ولاة طرابلس من بداية الفتح العربي إلى نهاية العهد التركي“.
خلال إقامته في طرابلس حقق القائد العثماني العديد من الانتصارات على الأساطيل الأوروبية في كثر من معركة
يصف الكتاب حجم الترحاب الذي قوبل به تعيين تورغوت واليًا على طرابلس، إذ كان يتمتع بشعبية وجماهيرية كبيرة للدور الذي كان يقوم به في نقل مسلمي الأندلس وإنقاذهم من بطش الإسبان، وهو ما ساعده في تحقيق العديد من الإنجازات داخل الولاية بمساعدة الأهالي.
استطاع القائد العثماني في وقت قصير أن يرمم التخريب الذي قام به “فرسان مالطا” في طرابلس، فأعاد البناء والتشييد وأدخل طرق مستحدثة في الزراعة وأنعش الحركة التجارية وازدهرت البلاد في عهده ازدهارًا لم تشهده منذ عقود طويلة، حتى قبل أن تسقط في أيدي الإسبان.
وخلال إقامته في طرابلس حقق العديد من الانتصارات على الأساطيل الأوروبية في أكثر من معركة، أبرزها معركة بونزا البحرية التي وقعت قبيل توليه الحكم بعام واحد فقط، ودمر خلالها أسطول جنوة وأسر العديد من السفن والجنود.
ثم عاود فتوحاته المتعددة على شريط البحر المتوسط من الناحية الغربية، فحرر مدينة قفصة التونسية، ثم كاتانيا وجزر صقلية، وبعدها كورسيكا التي حرر بها 7 آلاف مسلم كانوا في الأسر هناك، هذا بخلاف معركة جربة الشهيرة عام 1560، التي استطاع خلالها تلقين أساطيل إسبانيا والبندقية وفرسان المعبد أحد أبرز فنون القتال البحري في التاريخ.
وخلال انضمامه للأسطول العثماني في حصار مالطا، يوليو 1565، دفع تورغوت ثمن الخطأ الذي وقع فيه القائد الأعلى للجيش العثماني مصطفى بيالي باشا، الذي ترك المرتفعات التي تحيط بالجزيرة دون حماية، ما دفع فرسان المعبد لاستخدامها في المعركة، الأمر الذي تسبب في إصابة تورغوت بشظية قوية في رأسه توفي على إثرها، ليتسلم الراية في المعركة القائد قليج علي باشا الذي استطاع أن يدمر جيش مالطا بالمدفعية.
وهكذا غادر تورغوت ريس الحياة، ممسكًا بزمام الجهاد والقتال، رافضًا أن يسلم الراية وهو صاحب الثمانين عامًا، ليُنقل الجسد إلى طرابلس حيث دفن هناك بعد أن ترك تاريخًا مشرفًا من الانتصارات العديدة على جيوش أوروبا في غرب المتوسط.