أقر مجلس العموم الكندي (البرلمان) بالإجماع، مذكرة تطالب وزير الهجرة ماركو مينديسينو استخدام سلطته التقديرية لمنح الجنسية الكندية إلى الناشط السعودي رائف بدوي، وفقًا للقانون “من أجل معالجة حالة خاصة وأليمة بشكل غير معهود”.
رئيس كتلة نواب كيبك (انفصالية) إيف-فرانسوا بلانشيت، المعدل الأول لتلك المذكرة، حث الحكومة الكندية على التحرك الفوري لمنح الجنسية للناشط السعودي، قائلًا: “الآن وقد أصبح هذا طلبًا رسميًا من مجلس النواب، يجب على جاستن ترودو والوزير ماركو مينديسينو التصرف”، مضيفًا “كل يوم مهم لبدوي في وقت تواجه فيه صحته في السجن خطرًا دائمًا”، علمًا بأن زوجته (إنصاف حيدر) وأبناءه الثلاث حصلوا على الجنسية الكندية.
يقبع بدوي (مؤسس الشبكة الليبرالية السعودية) البالغ من العمر 36 عامًا، في سجون السعودية منذ 2012 على خلفية تغريدات نشرها على مدونته الإلكترونية، حكم ضده بسببها في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، بالسجن عشرة أعوام بعد إدانته بالإساءة للإسلام، بجانب 1000 جلدة، بواقع 20 جلدةً أسبوعيًا، وهو ما أثار انتقاد العديد من المنظمات الحقوقية في العالم.
وتعاني العلاقات السعودية الكندية تدهورًا ملحوظًا منذ صيف 2018، حين طالبت حكومة أوتاوا من السلطات السعودية الإفراج عن نشطاء حقوقيين معتقلين، وهو ما اعتبرته المملكة تدخلًا غير مقبول في شؤونها الداخلية.. فهل يزيد قرار منح الجنسية الكندية للناشط المعتقل من تأزم العلاقة بين البلدين؟
ماذا يعني هذا التحرك؟
حين طالبت كندا قبل عامين ونصف الإفراج عن الحقوقيين المعتقلين داخل السجون السعودية وكان من بينهم رائف بدوي، كان رد المملكة أن هؤلاء مواطنون سعوديون، وأن مسألة سجنهم ومحاكماتهم شأن داخلي بحت، ولا يحق لأي جهة التدخل أو التعليق على الإجراءات الأمنية أو المحاكمات القضائية.
لكن حين يمنح بدوي الجنسية الكندية فإنه في هذه الحالة يصبح مواطنًا كنديًا، وعليه سيكون أي تحرك من جانب حكومة أوتاوا في هذا المسار تحركًا قانونيًا شرعيًا، دفاعًا عن مواطنها المعتقل داخل سجون دولة أخرى، حتى لو كان يحمل جنسية السعودية.
وعليه فمن المتوقع في حال استجابة الخارجية الكندية لطلب البرلمان في هذا الشأن أن يتم مخاطبة الرياض بصورة رسمية للإفراج عن الناشط الحقوقي، وهو ما يمكن أن يعمق الأزمة بين البلدين، خاصة أن الأمور ستسير في اتجاه التصعيد بهذه الطريقة، ولا سيما في حال رفض الرياض.
تعميق للأزمة
تعود الأزمة بين البلدين إلى 2 من أغسطس/آب 2018 حين وجهت سفارة كندا في الرياض انتقادات للسلطات السعودية بسبب حملة الاعتقالات التي شنتها ضد نشطاء المجتمع المدني وحقوق المرأة، فيما طالبت الخارجية الكندية بإطلاق سراحهم فورًا، بجانب المعتقلين الآخرين في القضايا الحقوقية.
الأمور توترت أكثر مع إعادة السفارة الكندية نشرها تغريدة الانتقاد عبر صفحاتها على منصات السوشيال ميديا في الـ5 من نفس الشهر، لكن هذه المرة باللغة العربية، وهو ما استفز الجانب السعودي الذي اتخذ بعض الإجراءات السياسية القاسية كرد فعل على هذا الموقف.
وكانت أبرز تلك الإجراءات استدعاء السفير السعودي في أوتاوا، واعتبار سفير كندا في الرياض “شخصًا غير مرغوب فيه” وإمهاله مدة أربع وعشرين ساعة لمغادرة البلاد، هذا بخلاف تجميد العلاقات الاقتصادية بين البلدين، مع تلويح السعودية بإجراءات أخرى قد تتخذها مستقبلًا.
التزمت الحكومة الكندية بضبط النفس حيال التصعيد السياسي والإعلامي السعودي، رافضة تقديم الاعتذار الذي طالبت به خارجية المملكة، إذ عبر رئيس الوزراء الكندي أن الملف الحقوقي بالنسبة لبلاده مسألة أخلاقية من الطراز الأول وليس لها أبعاد سياسية أو نوايا التدخل في شؤون الغير.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تنتقد فيها كندا الأوضاع الحقوقية في السعودية، فالأمر يعود إلى عام 2012 حين هربت زوجة بدوي إلى لبنان بعد اعتقاله في 2012، ومنها توجهت إلى العاصمة الكندية حيث التقت رئيس الوزراء الذي تدخل لمنحها جنسية بلاده.
وتعد كندا الوجهة الثانية بعد الولايات المتحدة لطالبي اللجوء من النشطاء السعوديين والمعارضين، حيث بلغ إجمالي عدد طلبات اللجوء التي تقدم بها سعوديون 212 طلبًا، قُبل منهم 87 طلبًا، وهي نسبة القبول الأعلى بين الدول التي تقدم لها سعوديون بطلبات لجوء.
التصعيد السعودي ضد كندا الذي ربما يكون الأقوى من بين الدول التي تنتقد الأوضاع الحقوقية في المملكة، حمل رسالة ردع واضحة ضد أي تدخلات خارجية في الشأن الداخلي، لكن السؤال كان حينها: لماذا كندا على وجه التحديد التي اختارت الرياض أن توجه لها تلك الرسالة رغم أنها ليست الدولة الوحيدة التي انتقدت السعودية؟
التفسيرات وقتها ذهبت إلى أن الرياض رأت في أوتاوا هدفًا سهل التصويب تجاهه، مستغلة حالة التوتر بين حكومة ترودو وإدارة الرئيس الأمريكي – آنذاك – دونالد ترامب، حليف ولي العهد السعودي في ذلك الوقت، التي اتضحت بشكل كبير خلال قمة الدول الصناعية السبعة الأخيرة في كندا في يونيو/حزيران 2018، فضلًا عن التصريحات الأمريكية التي حملت اللوم على كندا في طريقة انتقادها للملف الحقوقي السعودي.
هل تعلمت كندا الدرس؟
في مقال له بصحيفة “مكة” تحت عنوان “لعل كندا تعلمت الدرس” أشار الكاتب السعودي عبد الله العلمي، إلى أن الحكومة الكندية رضخت للضغوط الاقتصادية والسياسية التي مارستها المملكة ضدها خلال العامين الماضيين، وأنها لم تتحمل التداعيات الناجمة عن توتير العلاقات مع السعودية.
العلمي لفت إلى أن استئناف أوتاوا لتصدير الأسلحة للسعودية في أبريل/نيسان 2020 وفق العقود المبرمة بين حكومتي البلدين، بعدما لاح في الأفق قبل هذا التاريخ تفكير الحكومة الكندية في إلغاء عقد توريد الأسلحة للرياض عقبة أزمة 2018، هو دليل واضح على تعلم كندا الدرس، على حد قوله.
وبعيدًا عن البعد الاقتصادي البرغماتي في قرار السلطات الكندية استئناف تصدير الأسلحة للرياض، يبدو أن حكومة ترودو غير مستعدة لتقديم أي تنازلات في هذا الملف، معتبرة أن ما قامت به قبل عامين موقفًا أخلاقيًا عالميًا، لا يرتبط بمفهوم التدخل في شؤون الغير ولا ينتقص من السيادة الدولية.
التحرك البرلماني الأخير بالمطالبة بمنح بدوي الجنسية الكندية خطوة ربما تزيد الوضع تأزمًا وتمد في أجل الأزمة بين البلدين لوقت طويل، وإن كان ذلك يتوقف على طبيعة التحرك للإفراج عن الناشط المعتقل، ورد فعل الرياض لا سيما بعد المستجدات التي شهدتها الساحة الدولية مؤخرًا.
الضغوط التي من المتوقع أن تتعرض لها الرياض مع إدارة جو بايدن لا سيما فيما يتعلق بالملف الحقوقي ربما تدفع الجانب السعودي لإعادة النظر في بعض المواقف، ومن جانب آخر فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ستسعى لترميم الشروخات التي أحدثتها إدارة ترامب في جدار العلاقات الأمريكية مع الدول المجاورة، بما قد يقود إلى تحسين العلاقات الأمريكية الكندية وهو ما سيكون له تأثير – نسبي – على مستقبل العلاقات السعودية الكندية.
تتعامل الرياض في الآونة الأخيرة – تماشيًا مع التحديات الإقليمية والمستجدات الدولية – مع العديد من الملفات الساخنة بمنطق براغماتي بحت، بعيدًا عن المواقف الأيديولوجية المتشددة التي كانت تتخذها في السابق بدعم أو تحريض من بعض الأنظمة الحليفة صاحبة الأجندات الإقليمية، ولعل الأزمة الخليجية أكبر دليل على ذلك، وهو ما يمكن أن ينسحب على بعض القضايا الأخرى مثل علاقاتها مع كندا.