في الذكرى السابعة للمصادقة على الدستور التونسي وفي السنة الحادية عشرة للثورة التونسية تمت المصادقة على تعديل وزاري مثلما يجري في كل الحكومات بالعالم، لكن تزامن التعديل مع ذكرى إصدار الدستور التونسي كان بمثابة استفتاء على نجاعة النص الدستوري وقدرته على تحديد معالم النظام السياسي وتثبيت أركان الحكم رغم حدة التجاذبات بين مكونات المشهد السياسي.
لم تصل التجاذبات إلى المساس بمحتوى الدستور، فأعيد رسم حدود الفاعلين وإلزامهم بأدوارهم، وعلى الأرض ينتظر التونسيون أن تمر الحكومة المعدلة إلى الإنجاز، فهي أمام استحقاقات مصيرية ومستقبلها معلق بنجاعة فعلها لا بسلامة النص التي ارتقت فوق نوايا العبث والأهواء الفردية، فهل سنشهد فعلًا فترة استقرار سياسي وشروع فعلي في إصلاح ما أفسدته التجاذبات؟
ثلثا البرلمان وقفا مع الاستقرار السياسي
كان من المتوقع أن يمر التعديل الحكومي بأغلبية 109 نواب اللازمة للمصادقة، لكن نسبة التصويت على التعديل فاقت التوقعات، فقد قبل بعض الوزراء بعدد 144 نائبًا ولم تقل عن 128 نائبًا للبعض منهم. حيث إن المصادقة تتم على كل وزير على حدة، وهو ما كشف هوى جماعيًا داخل البرلمان فضل الاستقرار السياسي في هذه المرحلة على خيار إعادة تشكيل حكومة أخرى تحمل البلد إلى فترة اضطراب طالت حتى انعدم الشعور العام بوجود حكومة.
الملاحظ أن من صوتوا على التعديل ليسوا على قلب رجل واحد في أمور كثيرة، فهم طرائق قددا وإن كان الثقل السياسي في البرلمان لحزب النهضة الإسلامي ولحليفه الليبرالي قلب تونس اللذين يشكلان الحزام المتين للحكومة قبل التعديل، لقد التحق آخرون بحزام حكومة المشيشي وكانوا في الأصل معارضين لها أو خجلين من الدفاع عنها، كان الخيار واضحًا إما قبول التعديل وغض الطرف عن الخلاف بشأن الأشخاص المقترحين وكفاءاتهم وإما الدخول في مرحلة عبث سياسي بلا أفق.
نرجح أن المنضمين إلى حزام الحكومة وجدوا في الاعتراض على التعديل محاولة للمساس بالدستور فاختاروا سلامة الدستور وأيضًا سلامة النظام شبه البرلماني الذي أرساه منذ سبع سنوات، ومأتى هذا التفكير الدفاعي في جوهره أن الاعتراض الأكبر على التعديل جاء من الرئيس المنتخب الذي استبق التصويت بخطاب مفزع أنتج رعبًا في البرلمان، وما عبر عنه الرئيس من تهم موجهة لبعض الأسماء المقترحة بقي في مستوى التهم الظنية دون دليل، ما أفقده مصداقيته فارتد عليه قوله خاصة وهو رجل قانون يعلّم الناس (أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته).
استهان النواب بموقف الرئيس فدفعوا التعديل بأغلبية الثلثين تقريبًا، بما أوقف الرئيس عند حده وألزمه الدستور لا يتجاوزه في قادم الأيام
لقد انكشف من اعتراضه على الأسماء وعلى التعديل عدم قبوله بحدود سلطته المرسومة بالدستور وبان بالكاشف أنه يريد أن يسيطر على السلطة التنفيذية برأسيها، ولقد أوهن موقفه أنه هو الجهة التي اقترحت المشيشي رئيس حكومة ضمن فكرة حكومة الرئيس.
لقد قال الجميع إن الرئيس يريد وزيرًا أولًا يقف حيث يحدد له الرئيس، فإذا هو رئيس حكومة يدافع عن منطقة نفوذه طبقًا للدستور، فاستهان النواب بموقف الرئيس فدفعوا التعديل بأغلبية الثلثين تقريبًا بما أوقف الرئيس عند حده وألزمه الدستور لا يتجاوزه في قادم الأيام.
هل سيتحول حزام الحكومة إلى تحالف سياسي ثابت؟
لا شيء يمنع ذلك نظريًا، لكن على الأرض مرة أخرى نميل إلى الاعتقاد أن درجة التوافق بشأن الاستحقاقات الدستورية واستحقاقات الحكم لن يكون بمثل قوة التصويت على التعديل الحكومي، فالاستحقاق الأهم الذي يفرض نفسه على كل مكونات المشهد السياسي والبرلماني هو التصديق على إنشاء المحكمة الدستورية التي لم يتوافر لها النصاب القانوني (الثلثين) لتكون.
في غياب المحكمة الدستورية يبقى الدستور منقوصًا، وهناك شعور عام بذلك، لكن لا نزال نتحسس هروبًا من هذا الاستحقاق خاصة من الفريق النيابي الذي يوالي الرئيس، خشية أن تظهر سلطة لها نفوذ عليه ويمكنها أن تعزله في صورة الخطأ الجسيم. ثمة هنا نوايا مضمرة بين الفرقاء تخفي/ تظهر عمق خلافاتهم التي حددت مواقفهم من المصادقة على الحكومة.
هل سيبقى حزام الحكومة الحاليّ متوافقًا ومتماسكًا إلى حين المرور إلى تشكيل المحكمة؟، لقد طرح السؤال في لحظة المصادقة على الحكومة، وظن البعض أن هذا ممكنًا، لكننا نرجح العودة إلى التجاذبات بشأن الأشخاص من جديد وهو السبب الذي عطل إنشاء المحكمة في الدورة النيابية السابقة (14-19).
التوتر السياسي بل الصراع العميق بين حزب النهضة (التي لها رئاسة البرلمان) ورئيس الدولة يخيف الكثيرين فيذهبون إلى أن وجود المحكمة سيكون ورقة إضافية في يد حزب النهضة لتعزل بها الرئيس فيتسع نفوذ الحزب أكثر، وهذه الريبة ليست من فراغ، فيتهم حزب النهضة بالهيمنة لكن متهميه يغفلون أن هيمنته من ضعفهم لا من قوته، فلم يشكلوا قوة معادلة وبقوا على تشتتهم فاتهموه بالسعي إلى الهيمنة واعتمدوا فقط خطاب الضرائر الأيديولوجية بمن فيهم بعض من صادق معهم على التعديل الحكومي.
إذا أفلحت الحكومة في إنجاز محترم فإن توترات كثيرة ستخف من تلقاء نفسها
احتمال تفتت هذا التحالف سيرتفع إذا عاد مقترح تعديل القانوني الانتخابي بفرض عتبة انتخابية لأن كثيرًا من النواب ممن صادق على الحكومة وصل البرلمان بالقانون الحاليّ (قانون أكبر البقايا) فإذا وضعت العتبة سينقطع أملهم في العودة إلى البرلمان، بل سيفتح بابًا واسعًا لهيمنة حزب واحد قادر على التقدم في كل الدوائر.
لقد صار قانون أكبر البقايا سببًا لحفظ وجود الأضعف والأقل نصيرًا، بما يخفض سقف الأمل من تغيير المشهد السياسي في المستقبل القريب، وهنا يكون التحالف الحاليّ تحالفًا عابرًا لا يعتد به، لقد أنقذ الحكومة الحاليّة لكنه غير قادر على إنقاذ البلاد من مشهد سياسي هش.
الأمل معلق بقدرة الحكومة
إذا أفلحت الحكومة في إنجاز محترم فإن توترات كثيرة ستخف من تلقاء نفسها ويتحول التركيز على الإنجاز، فأمام الحكومة استحقاقات كثيرة تسير متزامنة، أولها الشروع الجدي في محاربة بؤر الفساد في الإدارة وفي المحيط الاقتصادي (خاصة في المؤسسات العمومية)، وكلما ظهرت نتائج الحرب على الفساد ستزداد شرعية الحكومة وتثبت في مكانها.
هناك حوار مؤجل بين الحكومة والنقابة لا يتعلق بتحسين الوضع الاجتماعي بل برسم حدود العمل النقابي أي إلزام النقابة حدودها النقابية ومنعها من فرض الخيارات السياسية لبعض قادتها عبر هرسلة المؤسسات العمومية (النقابة لا تتحرك في القطاع الخاص بل تتواطأ ضد القوة العاملة فيه)، وهذا استحقاق جوهري لا يمكن التقدم من دونه.
ونرى أن رفض الحوار الوطني الذي تحاول النقابة فرضه سيكون مقدمة فعالة للجم النقابة، فهي ليست في الموضع القوي الذي كانت عليه في 2013 وما تقترحه الآن من حلول نسمعها من الحكومة أكثر مما نسمعها من النقابة، لذلك فإن سد الذريعة النقابية الكاذبة سيعتبر نقطة قوة للحكومة وحزامها السياسي.
المشيشي يسير رغم حزامه القوي على أرض زلقة وعليه عدم الاكتفاء بالحزام البرلماني الهش
في بداية السنة الحادية عشرة للثورة وبعد مصادقة الأغلبية على الحكومة لم يعد هناك من عذر لتأخر الإنجازات المطلوبة وكل تأخير في الإنجاز سيرتد على حزامها السياسي فيتفتت لأن كثيرًا من مكونات الحزام لن تتحمل الدفاع عنها إذا تراخت أو فشلت (فهو حزام هش ومؤقت رغم التغني بقوته الظرفية)، خاصة أن التحركات الأخيرة في الشارع رفعت مستويات التوتر الاجتماعي ووضعت الحكومة تحت ضغط إضافي لا يمكن الاستهانة به (بقطع النظر عمن حاول توجيهه وقطف نتيجته بعد أن تحرك).
المشيشي يسير رغم حزامه القوي على أرض زلقة وعليه عدم الاكتفاء بالحزام البرلماني الهش، بل تثبيت حكومته بالإنجازات المحسوسة التي يجد الناس أثرها في جيوبهم لا في صفحاتهم على الفيسبوك التونسي المضطرب، والناس في وضع انتظار قلق.
سيظل هناك دومًا من يقف ضد الحكومة لأن فيها مكونًا إسلاميًا، لكن هؤلاء الاستئصاليين يتراجعون عددًا وفكرًا، لكن سيقف آخرون ضدها إذا لم يروا منها خيرًا قريبًا، فالعقلاء الآن في وضع ننتظر ونرى وعلى الحكومة أن تكسبهم بسرعة فهؤلاء هم الحزام الحقيقي المتين.