شهدت مدينة طرابلس في شمال لبنان للّيلة الرابعة على التوالي حركة احتجاج قام بها شبّان من المدينة ومحيطها تحت عنوان التعبير عن الحالة المعيشية المتردّية التي وصلتها المدينة جراء الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمواطنين، إضافة إلى قرار السلطات بفرض إغلاق عام حتى تاريخ 8 شباط/فبراير المقبل، وهي الخطوة التي من شأنها أن تزيد من سوء الأوضاع المعيشية في البلاد.
غير أنّ حركة الاحتجاج التي بدأت في ساحة النور بمجموعة شبّان سرعان ما تحوّلت إلى صدامات واشتباكات دامية مع قوى الأمن الداخلي وشرطة مكافحة الشغب والجيش، حاول فيها المحتجون أنّ يدخلوا إلى “سرايا المدينة”، كما أحرقوا مخفر التّل التابع لقوى الأمن الداخلي، فضلاً عن إحراق بعض السيارات العائدة لهذه القوى، وقد سقط خلال الليالي التي شهدت مواجهات أكثر من أربعمئة جريح، وقتيل واحد، فضلاً عن آخر إصابته حرجة للغاية.
كما استخدمت القوى الأمنية والعسكرية القنابل المسيلة للدموع ومرشّات المياه وحتى الرصاص الحي، فيما قالت قوى الأمن الداخلي إنّها تعرّضت لإلقاء ثلاث قنابل يدوية حربية تسبّبت بجرح عدد من العسكريين والضباط، بينما تحدّثت معلومات عن استخدام بعض المحتجين لأسلحة حربية في مواجهة القوى العسكرية والأمنية.
الأحداث والاحتجاجات وطبيعة ما جرى من مواجهات بين القوى الأمنية والشبّان أقلق شخصيات سياسية ومرجعيات مهمّة في المدينة
وعلى وقع ما جرى في طرابلس، تحرّك بعض المحتجين في مدينة صيدا جنوب لبنان وفي بعض مناطق البقاع ولكن بشكل خجول، وقطعوا الطرق ليلاً لبعض الوقت بالإطارات المشتعلة ومستوعبات النفايات.
إلاّ أنّ الأحداث والاحتجاجات وطبيعة ما جرى من مواجهات بين القوى الأمنية والشبّان أقلق شخصيات سياسية ومرجعيات مهمّة في المدينة وعلى مستوى لبنان، إذ رفضت غالبيتها استغلال حاجة الناس وفقرهم واستخدام ذلك في البازار السياسي العام، فرئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، حذّر من استغلال سياسي لمطالب الناس المحقّة في المدينة، ومن حرف التظاهرات عن مسارها الطبيعي لتتحوّل إلى مواجهات مع القوى الأمنية.
وكذلك فعل الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، سعد الحريري، الذي حذّر بدوره من أي استغلال لأوجاع الناس وآلامهم، وألقى باللائمة على السلطة التي لم تعمل من أجل تأمين لقمة عيش كريمة لأهالي طرابلس وكل لبنان.
وبدوره حذّر رئيس الحكومة الأسبق، وابن مدينة طرابلس، نجيب ميقاتي، من اسغلال حاجة الناس والوضع الاقتصادي المتردّي وقرار الإقفال العام، واستثماره في غايات ومآرب سياسية تصب في صالح أطراف داخلية أو خارجية.
محرّك غير معروف
الشيء الملفت للجميع أنّه على الرغم من محاولات معرفة الجهة التي تقف خلف تحريك الناس، والشبّان في مدينة طرابلس على وجه التحديد والدفع بهم لمواجهة الجيش وقوى الأمن، إلاّ أنّ تلك الجهة المحرّكة ظلّت خلال الأيام الماضية غير معروفة.
ولكن جرى توجيه أصبع الاتهام لمجموعات شبابية تدعمها ما يُعرف بـ “المنتديات” التي كانت تابعة لشقيق الرئيس سعد الحريري، بهاء الحريري، غير أنّ هذه المنتديات أصدرت بياناً نفت فيه المسؤولية عمّا جرى ويجري، وأكّدت على رفضها لكل أشكال المواجهة والاعتداء على الجيش وقوى الأمن، مع الإشارة إلى أنّ شهود عيان أكّدوا تواجد شبّان تلك المنتديات في الاحتجاجات.
كما جرى توجيه اصبع الاتهام لمجموعات ترتبط بـ “بهاء الحريري” خاصة على المستوى الإعلامي، وجرى الحديث عن مجموعات إعلامية محلية وناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي تقف خلف نقل الأحداث من ناحية، وتعمل على تحريض الشبّان على الاحتجاج والتجمّع في ساحة النور من ناحية أخرى.
طالت الاتهامات أيضًا حزب سبعة، وهو حزب ينشط في إطار حركة الاحتجاجات على الفساد وعلى السلطة ويطالب برحيل كل الطبقة السياسية. فضلًا عن مجموعات تابعة أو منشقة عن تيار المستقبل، أو أخرى تابعة لما يُعرف بـ “سرايا المقاومة” المدعومة من حزب الله، أو حتى مجموعات فلسطينية غير معروفة.
وفي كل هذه الحالات تتقاطع المعلومات عن دفع أموال للمشاركين، وتتراوح في الغالب أعمارهم ما بين 16-25 سنّة، بمقدار عشرين ألف ليرة للشخص، وخمسين ألف ليرة للمحرّك.
أخطر ما ذهب إليه البعض في تفسير ما يجري بالقول إنّ ذلك يأتي جزءاً من مخطط كامل لاستغلال الوضع المعيشي الصعب للمواطنين في شمال لبنان من أجل دعشنة هذه المنطقة
وفي مقابل ذلك، انتشرت أحاديث عن تصفية حسابات بين قادة أمنيين وعسكريين في مناصب مختلفة وعلى خلفيات كثيرة، في حين تحدّث البعض عن وقوف أحد المراجع الرئيسية في البلد خلف ما يجري على خلفية الأزمة السياسية التي تتعلق بفشل تشكيل الحكومة ورفْض سعد الحريري رئيسًا لها.
في مكان آخر، يرى البعض أن ما يجري يدخل في إطار دفع الجيش اللبناني إلى مواجهة مفتوحة مع الأهالي في الشمال، وهم في أكثريتهم ينتمون إلى المسلمين السنّة في البلد، بما يعني حرمان الجيش من البيئة الحاضنة، وتوجيه ضربة قوية لقائده، جوزيف عون، بعدما أقدم على اتخاذ بعض القرارات التي لا ترغب بها القوى الفاعلة والمهيمنة في لبنان.
غير أنّ أخطر ما ذهب إليه البعض في تفسير ما يجري بالقول إنّ ذلك يأتي جزءاً من مخطط كامل لاستغلال الوضع المعيشي الصعب للمواطنين في شمال لبنان من أجل “دعشنة” هذه المنطقة، وبالتالي استخدامها كجزء من عمليات التفاوض أو التخويف أو الاستثمار قبل الذهاب إلى أية مواجهات حقيقية في لبنان أو على مستوى المنطقة.
الثابت في كل ما جرى ويجري حتى الساعة أنّ حركة الاحتجاجات في طرابلس وإن كانت تعبّر عن مستوى ما بلغته ووصلت إليه حالة الناس في المدينة من بؤس، غير أنّها ليست انفجارًا اجتماعيًا بوجه السلطة وإن كان البعض يحاول تصويرها على هذه الصورة، إنّما هو حراك يعبّر عن الحاجة ولكن يتمّ اسغلاله ودفعه إلى مسارات تخدم أجندات سياسية لقوى في السلطة أو خارجها، لقوى في الداخل اللبناني أو خارجه، لدول لها حساباتها الخاصة التي يمكن أن تحرق الأخضر واليابس من أجل تحقيق تلك الحسابات والمصالح.