أثار استيلاء المتمردين الحوثيين في اليمن على العاصمة صنعاء ردود أفعال مختلفة لدى دول وحكومات المنطقة، لكن أحد أهم ردود الأفعال كان الرد السعودي، فالسعودية آثرت أن تصمت رسميًا على تغول أعدائها القدامى وتوغلهم في اليمن ونجاحاتهم المتتالية في إضعاف ثم إسقاط الحكومة اليمنية.
يعد مضيق باب المندب على الساحل الغربي لليمن، بوابة البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وحينما استطاع حلفاء إيران الشيعة في اليمن، أنصار الله، أو الحوثيون السيطرة على صنعاء وتسليم المفتاح لطهران، التي تسيطر بالفعل على مضيق هرمز، بوابة الخليج العربي، فقد قدموا هدية لا تقدر بثمن لإيران التي ستصبح حارس الممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
إلا أنه على الرغم من أهمية السيطرة على باب المندب، فإنها لا يمكن أن تقارن بالنسبة لإيران، بكونها قد أصبحت تلعب دون منازع تقريبًا في الفناء الخلفي للمملكة العربية السعودية من خلال وكيلها اليمني.
“عبد الله الشمري” وهو دبلوماسي سعودي سابق كتب يقول في موقع المونيتور “ما حدث في اليمن أمر غريب”، وأضاف “إنه يعكس أحد أمرين: إما الغياب الكامل للدبلوماسية السعودية من الأحداث في جنوب المملكة العربية السعودية، أو أن المملكة سعيدة بما يحدث، رغم أن ذلك قد يكون صعب التصور”.
غير أن هناك بالفعل أسباب تدفع للاعتقاد بأن ما يصعب تصوره قد يكون في الواقع هو الحقيقة، وهو أن المملكة العربية السعودية، لسبب ما، لا تشعر بالتهديد من جانب الحوثيين الذين حاربتهم مع حليفها علي عبد الله صالح لسنوات! فالاجتماع الذي جمع وزير الخارجية السعودي “سعود الفيصل”، ونظيره الإيراني “محمد جواد ظريف”، في نيويورك يوم 21 سبتمبر الماضي، وموقف السعودية من الاتفاق اليمني، تعد مؤشرًا واضحًا على أن الوضع قد لا يكون مقلقًا للملكة كما يعتقد الكثيرون.
بعض المحللين يتحدثون أن السعودية وإيران وجدا أنفسهما في موقف يضطران فيه إلى الوقوف معًا على نفس الجبهة، لمواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة، لاسيما مع صعود داعش.
ويبدو أن الرياض أدركت أنها تحتاج إلى إيران كحليف على حدودها، فبعد أن خاضتا حروبًا بالوكالة لسنوات وحتى الآن، في البحرين والعراق ولبنان وسوريا واليمن، يبدو أن الحل الوحيد يكمن في تحسين العلاقة الثنائية بين البلدين.
“محمد ماراندي” وهو عضو هيئة تدريس بجامعة طهران كتب يقول إن “إيران مستعدة للذهاب لصفقة كبيرة مع السعوديين في المنطقة، وأن المملكة العربية السعودية يجب أن تأخذ ذلك على محمل الجد”، وتابع “يمكن للحوثيين الحد من التهديد الذي يشكله المتطرفون على الأراضي اليمنية (مثل تنظيم القاعدة) على المنطقة”.
لكن هل هكذا يبدو المشهد فعلاً؟
يعتقد الكثيرون أن السعودية ليس لديها أعداء خارج المنطقة العربية، ويبدو هذا الأمر منطقيًا بالنظر إلى التقارب السعودي الإيراني الأخير، وإذا نظرنا إلى اليمن، فإن الصمت السعودي، الذي سيفسره الإسلاميون في اليمن على أنه تواطؤ مع “الشيعة” ضد أهل السنة في “جنوب الجزيرة” قد يأتي في صالح تهدئة الأوضاع بشكل نسبي مع إيران، لكن لا الحوثيون، ولا إيران، ولا السعودية بطبيعة الحال، ستكون قادرة على إيقاف الرد المتوقع من الإسلاميين في اليمن، لاسيما تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعلى السعودية أن تقلق من تنظيم القاعدة!
إذا فكر الإيرانيون أن الحوثيين سيكون باستطاعتهم القضاء على تنظيم هرمي في بعض الأماكن (مثل أبين ومحافظة شبوة) وريزومي بطبيعته (أي يعتمد على المجموعات الصغيرة المرتبطة إيديولوجيًا وغير المرتبطة تنظيميًا) مثل القاعدة، فسيكونون واهمين، وجود تنظيم القاعدة في اليمن يختلف عن وجود التنظيم في أي مكان آخر، فالقاعدة استطاعت السيطرة على مساحات واسعة من الأرض الوعرة، وتمركزت فيها، وأثبتت قدرة على تطوير أدائها العملياتي، ومع اتساع دوائر المتضررين من صعود الحوثيين، لاسيما من الإسلاميين المقربين من حزب الإصلاح اليمني، ومع انتشار السلاح في اليمن، فإن الحل الأمثل للتعامل مع الموقف بالنسبة للعديد من الشباب اليمني سيكون باختصار: التعاون مع القاعدة.
رغم الاختلافات الكبيرة بين القاعدة وبين القطاعات الغالبة من المسلمين، أو من ذوي الانتماء لجماعات الإسلام السياسي، إلا أن النموذج السوري يؤشر على ارتفاع احتمالات التقارب بين منتمي القاعدة وبين السكان المحليين، ففي الوقت الذي بدأت فيه الطائرات السعودية والإماراتية بشن الغارات على مقرات جبهة النصرة واغتيال قادتها، خرجت تظاهرات عفوية تدين ذلك وتدعم فرع القاعدة في سوريا، الأمر كذلك قابل للتكرار في اليمن، لكن الوضع اليمني يبقى أكثر تعقيدًا.
في مطلع 2009، وفي أعقاب عدد من النجاحات للقاعدة، أعلن التنظيم، بجناحيه اليمني والسعودي، عن عملية دمج في إطار تنظيم واحد، أطلق عليه “تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب”، الأمر قد لا يعني الكثير إذا كنا نتحدث عن تنظيمات شبكية تستطيع أن تعمل خلاياها الأصغر بكفائة كبيرة بدون الحاجة إلى توجيهات آنية من قيادة التنظيم، إذ يكفي بالنسبة لمنتسبي القاعدة أن يدركوا الأهداف الاستراتيجية للتنظيم ولقيادته، والتنسيق لاحقًا بين مستويات قيادية أقل كثيرًا، لتنفيذ المهام التي تخدم تلك الاستراتيجية، مع حرية اتخاذ المواقف التكتيكية على أساسها.
لكن الحالة اليمنية السعودية لها وضع خاص، ففي إطار محاولة السعودية تقليل النفوذ الشيعي (الإيراني بطبيعة الحال) في جنوب المملكة، قررت الرياض تغيير ديموغرافية المنطقة الجنوبية على الحدود اليمنية في مناطق عسير ونجران، هذا كان يعني تغيير بنية المنطقة العرقية والدينية، ولذلك بدأت السعودية برنامجًا سريًا لتسكين القبائل اليمنية السنية من محافظة حضرموت في السعودية ومن ثم تجنيسهم.
علاوة على ذلك، أعطت السلطات كل الصلاحيات للسنة في هذه المنطقة، بما فيها السماح لهم بحمل السلاح، وغض الطرف عن الأزمات المتكررة مع السكان المحليين من الشيعة، في 2006 قدم مجموعة من الشيعة السعوديين عريضة للملك عبد الله تطالبه بوقف تسكين 10 آلاف شخص يمني في السعودية وخاصة على طول الطرق الرئيسية المحيطة بمدينة نجران، وطلبوا منه وقف هذا المشروع المتعمد الذي يهدف إلى تذويب الأقلية الشيعية في أغلبية من أهل السنة.
يمكن اعتبار هذا الحل حلاً ذكيًا، لكن المسار الذي انتهجته السعودية أدى لمشاكل من نوع آخر، فهذه القبائل التي جنستها السعودية كانت هي نفسها التي جندت منها القاعدة معظم عناصرها والتي ارتكبت عمليات داخل المملكة لاحقًا.
نحن نتحدث هنا عن عشرات الآلاف من الشباب ذوي الأصول اليمنية، الذين حصلوا على الجنسية السعودية بهدف مواجهة الشيعة، قبل أن تتحول السعودية للتحالف مع شيعة اليمن ضد أهل السنة فيها! هذا التفسير يبدو للكثيرين منطقيًا، وتبعاته ستكون شديدة الخطورة على السعودية.
قاعدة اليمن لم تنتظر كثيرًا بعد استيلاء الحوثي على صنعاء، فقد وجه تنظيم القاعدة في اليمن بيانًا تحذيريًا قبل أكثر من أسبوعين إلى مسلحي جماعة الحوثي، توعدهم فيها بـ “جعل رؤوسهم تتطاير” واتهمهم بـ “استكمال المشروع الرافضي الفارسي في اليمن”، ودعا السنة في البلاد إلى حمل السلاح وتجنب دخول العملية السياسة لتكرار التجارب مع رئيس الوزراء العراقي السابق ذو التجربة الطائفية، نوري المالكي والرئيس العسكري المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح بحكم الإخوان المسلمين في مصر.
وتوجه البيان إلى السنة في اليمن بالقول: “يا أهل السنة آن لكم أن تقوموا من رقادكم وأن تستفيقوا من سباتكم فقد ولى زمن التحزبات الجاهلية التي لم تزدادوا بها إلا ضعفًا .. فالله الله بالجماعة والوحدة تحت راية أهل السنة، وإياكم أن تعيدوا تجربة العراق التي جعلت طارق الهاشمي يفر هاربًا من العراق ومحكومًا بالإعدام، وإياكم أن ترضوا بسيسي أو مالكي جديد واختصروا الطريق واعتبروا بمن سبقكم فقد آن لأهل السنة أن يجتمعوا ويوحدوا صفوفهم”.
الرغبة السعودية المحمومة في تكرار النموذج المصري يؤكد أن جميع أعدائها الاستراتيجيين يقعون داخل المجال العربي، لكن الضغط المستمر على جيران السعودية من قبل الرياض لن يأتي في صالح المملكة، فالآن، تتصارع إيران وداعش على حدود السعودية الشمالية، وفي الجنوب تتصارع إيران والقاعدة، وفي الشرق تتصارع السعودية مع نفسها بقمع الشيعة السعوديين والبحرينيين، كل هذا يقول إنه عما قريب قد لا ترى السعودية أصدقاء في الأفق!
الحوثيون استخدموا خطابًا أقل طائفية بالفعل أثناء تظاهراتهم، لكن عددًا من التصرفات الاستفزازية – مثل الاحتفال الصاخب الذي قام به الحوثيون أمس بمناسبة عيد الغدير الشيعي في قلب صنعاء – قد تسهم في زيادة الاستياء بين السنة، ودفع كرة الثلج ناحية الشمال.
من المصادر: المونيتور + التقرير