ترجمة وتحرير نون بوست
في سنة 2002، توجه محمد بكري، أحد أشهر الممثلين الفلسطينيين، إلى جنين بعد اطلاعه على تقارير بشأن حدوث مجزرة. وقد أمضى بكري خمسة أيام هناك يصور آثار الهجوم الإسرائيلي ويجري مقابلات مع العديد من الناجين. وفي وقت لاحق من تلك السنة، صدر فيلمه “جنين ـ جنين” ومدته 54 دقيقة ليُعرض في “سينماتك” القدس. وقد أدرك بكري آنذاك كم كان ساذجًا عندما اعتقد أن الإسرائيليين المتعاطفين مع الفلسطينيين قد يتقبلون هذا الفيلم وأنه قد يفوز بجوائز لنقله الشجاع والخالي من الندم لروايات شهود عيان فلسطينيين؛ بيد أن هذا الفيلم أثار حفيظة الإسرائيليين.
وصف النقاد في “إسرائيل” فيلم بكري الوثائقي بأنه “فرية الدم” واتُهم بالترويج لدعاية “فلسطينية”. وبعد عدد قليل من العروض العامة في القدس وتل أبيب، تدخلت السلطات لتحظر الفيلم. ومن الواضح أن جرائم الحرب والمذابح مقبولة، أما توثيقها خطيئة لا تغتفر.
ظن الكثيرون أن بكري قد أفل نجمه بسرعة. كان بكري لما يقرب من عقدين من الزمن من أحد الوجوه العربية الأكثر شهرة في السينما الإسرائيلية. وفي السنة التي سبقت إصدار ذلك الفيلم الوثائقي، وقع ترشيح بكري لواحدة من أعرق جوائز السينما الإسرائيلية عن دوره كيهودي شرقي ناطق بالعبرية في فيلم “ساحة ديسبرادو”. ولكن تغيرت الأمور بعد صدور فيلم “جنين ـ جنين”.
لقد تبين للجمهور الإسرائيلي أن “العربي الطيب” كان فلسطينيًا أكثر مما يظنون، ونتيجة لذلك، سرعان ما وقع اتهام بكري بالخيانة في قاعة الكنيست ووُصف بأنه متعاطف مع الإرهاب في الصحافة الإسرائيلية.
وعد بكري بمواصلة النضال ضد قرار “إسرائيل” بمنع فيلمه “جنين ـ جنين” من العرض.
بعد معركة قانونية دامت قرابة سنتين حول الفيلم، ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية الحظر. بات أخيرًا بإمكان أي شخص شراء أو عرض فيلم “جنين ـ جنين” في “إسرائيل” دون ارتكاب عمل إجرامي. مع ذلك، لم تنته الطعون القانونية المعقدة عند هذا الحد، وأصبح الفيلم منذ ذلك الحين موضوع دعاوى تشهير متعددة.
في وقت سابق من هذا الشهر، نجحت إحدى هذه القضايا بإعلان محكمة في اللد حظر الفيلم مرة أخرى، مع تعليمات بمصادرة النسخ الموجودة وإتلافها، وفُرضت على بكري غرامة قدرها 175 ألف شيكل (حوالي 55 ألف دولار) – تُدفع لأحد الجنود الإسرائيليين الذين ظهروا لدقائق معدودات في الفيلم. ومن جهته، توعّد بكري بالطعن في الحكم.
لا ينبغي التغاضي عن مستوى الخطاب العنيف المحيط بهذه القضية. في “إسرائيل”، أصبح بكري من رموز الدفاع عن الفلسطينيين وهو ما جعله محل نقد لاذع ويُستهدف بانتظام بالتهديدات وخطاب الكراهية، ويمكن رؤية بعضها في فيلمه الوثائقي لسنة 2005 “منذ أن رحلت”. كما أخبر أحد محامي بكري مؤخرًا صحيفة “هآرتس”: “لم أتكفل قط بقضية كان فيها الجو سامًا وعنيفًا مثل هذه القضية”.
مع استمرار تعرض بكري لعقوبات شديدة بسبب فيلمه الوثائقي الذي يعود إلى 18 سنة، حان الآن الوقت لتقييم مسيرته السينمائية الطويلة والمستمرة.
واصل بكري التمثيل في فترة كانت فيها الأدوار المقنعة للعرب نادرة للغاية، ولا ينبغي الاستهانة بإنجازاته. على مر السنين، عمل بكري على إيجاد فرص للظهور على الشاشة، وأصبح من أبرز الشخصيات السينمائية في فلسطين.
لسوء الحظ، العديد من مساهمات بكري مهددة بأن تصبح طي النسيان. وحتى في عصرنا الرقمي المعتمد على الطلب، الذي يكون الترفيه فيه عادة على بعد نقرة واحدة على فأرة الحاسوب، تظل العديد من أفلام بكري غير معروفة ويصعب العثور عليها.
فيما يلي، نظرة عامة موجزة وتثمين لمسيرة بكري المهنية، مع الإشارة تحديدًا إلى عشرة من أفلامه التي لا يجب أن تفوتها.
فيلم “حنا ك” (من إخراج كوستا غافراس، 1983)
كان أول ظهور لبكري على الشاشة لافتًا. في سن الثلاثين، وقع اختياره للعب الشخصية الفلسطينية الرئيسية في إنتاج دولّي كبير ألا وهو فيلم “حنا ك” الذي أخرجه كوستا غافراس في سنة 1983. استنادا إلى سيناريو كتبه مؤلف فيلم “معركة الجزائر”، يوري فيلم “حنا ك” قصة المحامي المدعو حنا الذي يستمر موكله الفلسطيني سليم (الذي لعب دوره بكري) في التعرض للاعتقال بسبب عبوره إلى “إسرائيل”.
يدعي سليم أنه يريد فقط العودة إلى منزله، بينما تتهمه “إسرائيل” بالإرهاب. ونظرا لأن الفيلم صدر في أعقاب فيلم الإثارة السياسي “مفقود” لكوستا غافراس والحائز على جائزة، كان يُتوقع أن يحقق فيلم “حنا ك” إيرادات أفضل في شباك التذاكر.
عندما صدر الفيلم، سعت الجماعات الموالية لإسرائيل لمعارضته. حتى أن منظمة “بناي بريث” ورابطة مكافحة التشهير وزعتا نقاطا للنقاش على أعضائهما، لإرشادهم حول كيفية الرد على مزاعم الفيلم. ونتيجة لهذا الضغط، أصبح فيلم “حنا ك” طي النسيان. كانت مبيعات الفيلم في شباك التذاكر محدودة بشكل ملحوظ، وحتى يومنا هذا، لا يزال من بين أفلام كوستا غافراس الوحيدة التي لم تصدر في شكل قرص فيديو رقمي في أمريكا الشمالية.
في فيلم “حنا ك”، تظل شخصية بكري غامضة إلى حد ما. نحن لا نعرف أبدا على وجه اليقين ما إذا كان سليم متورطا في العنف سرًا أم لا. ومع ذلك، وقع تبجيله باستمرار في الفيلم مقارنة ببقية الشخصيات الذكورية. يظهر سليم وهو يهتم بطفل حنا أكثر من والده الفعلي. وبينما يصرخ الآخرون في الفيلم ويطلقون أحكامًا ويسارعون إلى الغضب، يظل سليم لطيفا وهادئا في مواجهة الإساءات، وهو يركز بحزم على هدفه: العودة إلى المنزل ببساطة.
في بداية الفيلم، يقول بكري إحدى أكثر إقتباسات الفيلم الراسخة في الأذهان. عندما سأله حنا لماذا لم يختر الدفاع عن نفسه، أجاب سليم: “لأنهم لن يستمعوا إلي. على العكس من ذلك، لن يصغوا إلي”. وهذا يعني أنه يمكن رؤية الفلسطينيين وسماعهم، لكن لن يفهمهم أحد أو يدرك مطالبهم. إنها رؤية مهمة لا تزال تعكس بشكل ملحوظ وضع الفلسطينيين اليوم – أي أنه عندما يطالب فلسطيني بالمساواة، لا يسمع المدافعون عن “إسرائيل” سوى أصوات العنف والإرهاب.
رغم الإشادة المبدئية بالفيلم من أمثال إدوارد سعيد، فإن فيلم “حنا ك” ليس راديكاليا كما قد يتخيله البعض. ومع ذلك، يجب أن ننزل الفيلم في السياق الذي ظهر فيه. لقد عُرض “حنا ك” خلال حقبة ما قبل الانتفاضة، في الوقت الذي كانت فيه الصور الإيجابية للفلسطينيين، أو القضية الفلسطينية، شبه غائبة تمامًا في الغرب. ظهر فيلم “حنا ك” في دور السينما قبل أقل من سنة من أن يصبح كتاب جوان بيترز سيئ السمعة “من الزمن السحيق: أصل الصراع اليهودي الفلسطيني على فلسطين” – الذي يتعارض مع وجود الفلسطينيين – من أكثر الكتب مبيعًا. يعتبر “حنا ك” فيلما بارزا. وبالنسبة للكثير من الجماهير في الغرب، كان وجه بكري على الأرجح أول وجه فلسطيني رأوه على الإطلاق يقع تصويره بشكل إيجابي.
ما وراء القضبان (من إخراج أوري بارباش، 1984)
لم تكن فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أفضل وقت لتكون ممثلا عربيًا لا في “إسرائيل” ولا على المستوى الدولي. فالأدوار القليلة التي كانت متوفرة غالبا ما كانت مقتصرة على الشخصيات النمطية: العربي كإرهابي أو انتحاري. مع استثناءات قليلة، تمكن بكري من تجنب تقمص هذه الأدوار، وفي بعض الحالات، تمكن حتى من اقتراح طرق لتحسين شخصياته.
فعلى سبيل المثال، في فيلم “ما وراء القضبان”- وهي دراما السجون الإسرائيلية المرشحة لجائزة الأوسكار لسنة 1984 – يلعب بكري دور عصام، زعيم مسجون من حركة فتح ينتهي به المطاف بالعمل مع عصابة من المجرمين اليهود لتنظيم إضراب ضد حراس السجن الفاسدين.
كان من المفترض في الأصل أن ينتهي فيلم “ما وراء القضبان” بكسر عصام للإضراب لكي يُسمح له برؤية زوجته وابنه الصغير، إلا أن بكري لم يوافق على هذا النهج وجادل بأن مثل هذه النهاية من شأنها أن “تقتل المدينة الفاضلة”، على حد تعبير إيلا شوحط في كتابها “السينما الإسرائيلية”.
بعد تصوير المشهد في الاتجاهين اقتنع المخرج بوجهة نظر بكري. في المشهد النهائي، رفض عصام كسر الإضراب والحفاظ على التضامن. إنها لحظة مقاومة سينمائية مهمة، لحظة تضحية شخصية من أجل القضية الجماعية.
خلال هذه المرحلة من حياته المهنية، لعب بكري أدوارًا في عدد من الأفلام الإسرائيلية. غالبا ما كان يلعب دور المقاتلين العرب، لكن في بعض الأحيان لعب أدوارا يهودية بل وأدى أدوارا باللغة العبرية – وهو انعكاس مثير للاهتمام للممارسة المعتادة المتمثلة في اختيار الممثلين اليهود المشارقة للعب دور الإرهابيين العرب الأشرار.
نهائي الكأس (من إخراج عيران ريكليس، 1991)
لعل الفيلم الأكثر إثارة للاهتمام من هذه الفترة هو “نهائي كأس” من إخراج عيران ريكليس الصادر في سنة 1991. تدور أحداث الفيلم في سنة 1982، حيث يتبع خطوات مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان الذين تمكنوا من أسر جنديين إسرائيليين. ويسرد الفيلم رحلة عودتهم إلى بيروت، وعلى الرغم من أنهم لم يصبحوا أصدقاء حقا، إلا أن العلاقة بين الفلسطينيين والأسرى الإسرائيليين طورت قدرا كبيرا من التعاطف وحتى التفاهم المتبادل.
“نهائي الكأس” هو فيلم إسرائيلي بكل معنى الكلمة؛ فقد أخرجه إسرائيلي وكتبه إسرائيلي وموّله إسرائيليون. ومع ذلك، فإن ما يتجلى حقا في هذا الفيلم هو مجموعة الفلسطينيين. يلعب بكري دور الزعيم، زياد، ويؤدي ممثلون فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية من تلك الفترة أدوار بقية أعضاء المجموعة، مثل سليم ضو ويوسف أبو وردة وسهيل حداد.
إن الصداقة التي تتطور بين أعضاء المجموعة جذابة للغاية – تتخللها أحيانا روح الدعابة، وأحيانا تكون مخيفة، وأحيانا مبكية وحزينة. ومن المدهش رؤية المسلحين الفلسطينيين يعاملون بهذه الدرجة من التعقيد. ويقدم بكري أفضل أداء في الفيلم بتجسيده دور زياد. في أول ظهور له، يبدو وكأنه رامبو عربي – حيث يمسك ببندقية في يد وسيجارة في اليد الأخرى. وبدلا من أن يظل بكري متمسكا بمفاهيم ذكورية عن الشجاعة والبطولة الذكورية، فقد جسّد شخصية زياد بفروق دقيقة وعمق، حتى أنه يقدم العديد من اللحظات الرقيقة والحساسة.
تدور أحد أبرز مشاهد الفيلم في صالة ألعاب اختبأت فيها المجموعة، أين تحدى زياد أسيره الإسرائيلي في لعبة البلياردو، وبدأ الفلسطينيون بشكل عفوي في إطلاق الأسماء على جميع كرات البلياردو لتأخذ كل كرة اسم مدينة فلسطينية: جنين ونابلس والخليل وحتى القدس. فجأة، تتحول لعبة البلياردو الودية لتصبح أكثر من مجرد لعبة بسيطة، ويزداد التوتر مع كل كرة ينجح الجندي الإسرائيلي في تسديدها.
درب التبانات (من إخراج علي نصار، 1997)
رغم مشاركات بكري الرائدة في أفلام على غرار “ما وراء القضبان” و”نهائي الكأس”، إلا أن تنوع أدواره كان محدودًا للغاية. وكأن القدر شاء أن تقتصر مهمته على لعب أدوار الأسرى والمقاتلين فحسب. لكن مع ظهور السينما الفلسطينية المستقلة في أواخر الثمانينيات والتسعينيات بدأت مسيرة بكري تأخذ منحى آخر. مع انطلاق الإنتاج الفلسطيني، ظهر بكري في عدة أفلام لمخرجين فلسطينيين صاعدين، من بينهم حنا إلياس وميشال خليفي ورشيد مشهراوي ونجوى نجار. من خلال هذه الأفلام، تمكن الفلسطينيون أخيرًا من لعب أدوار أكثر تنوعًا وإنسانية.
كان دور بكري في فيلم علي نصار “درب التبانات” الذي صدر سنة 1997 من بين أكثر الأدوار رسوخا في الذاكرة. تدور أحداث فيلم درب التبانات في قرية فلسطينية في منطقة الجليل خلال سنوات الحكم العسكري الإسرائيلي، وقد ضم طاقم الممثلين الفلسطينيين فقط. حتى الجنود الإسرائيليين الذين ظهروا في الفيلم كانوا ممثلين فلسطينيين.
إلى جانب عمله كمنتج تنفيذي للفيلم، لعب بكري كذلك دور أكثر الشخصيات إقناعًا: محمود الحداد. في المرة الأولى التي يظهر فيها محمود، كان في ورشته جالسا بجوار النار حيث كان بصدد صنع منجل. وكانت هذه الرمزية كافية لتخمين ميوله السياسية، وسرعان ما علمنا أن اللون المفضل لدى محمود هو الأحمر.
وعلى الرغم من أن الصور الاشتراكية قد تكون قمعية بعض الشيء، إلا أن محمود بطل لا يُنسى، ويواجه نوعا مختلفا من الأعداء. فخصومه المباشرون ينحدرون من المجتمع الفلسطيني نفسه: المسؤولون الفاسدون والتقاليد الهرمية.
حيفا (1996) وعيد ميلاد ليلى (2008) من إخراج رشيد مشهراوي
تعاون بكري مع المخرج السينمائي المولود في غزة رشيد مشهراوي في العديد من الأفلام، من بينها فيلم “حيفا” (1996) وعيد ميلاد ليلى (2008). في فيلم حيفا، لعب بكري دور رجل مجنون يركض حول مخيم للاجئين في غزة وهو يصرخ بكل حماس مرددا أسماء البلدات التي تم احتلالها: “يافا، حيفا، عكا!”.
يعكس فيلم حيفا الأحلام التي سُحقت. وطوال الفيلم الذي يستغرق 75 دقيقة، يلاحظ المشاهد أن كل بصيص من الأمل وقع محوه، خاصة في الشخصية البسيطة التي جسدها بكري. وكان الفيلم بمثابة لائحة اتهام خطيرة لاتفاقيات أوسلو التي أتت بعد فوات الأوان لتقدم الفتات للفلسطينيين.
صُوّر فيلم “عيد ميلاد ليلى” بعد أكثر من عقد من الزمن، وهو يطرح نفس القضايا السابقة. إذا كانت حيفا قد رثت بداية فترة أوسلو، فإن عيد ميلاد ليلى هو رد على إضفاء الطابع المؤسسي عليها وفشلها الذريع.
تدور أحداث الفيلم على مدار يوم واحد في حياة أبو ليلى (بكري)، وهو قاض أصبح سائق سيارة أجرة في رام الله. إن الفيلم عبارة عن سلسلة من الإحباطات المتزايدة، حيث يواجه أبو ليلى العراقيل في كل اتجاه يقصده سواء كانت حركة المرور، أو المسؤولين الفاسدين، أو العقبات البيروقراطية، أو العملاء المتهورون، أو عنف الفلسطينيين فيما بينهم.
في النهاية، سئم أبو ليلى، وختم الفيلم بمشهد مذهل في محطة وقود، حيث أمسك بميكروفون سيارة الشرطة، وشرع في الصراخ موجها الأوامر إلى العالم الفوضوي والفاسد من حوله.
دفعت الفوضى في الضفة الغربية المحتلة الرجل الأكثر عقلانية في المنطقة إلى حافة الجنون. ورغم التوترات المتصاعدة، احتفظ أبو ليلى بجانبه الحقيقي الدافئ والحنون تجاه ابنته الصغيرة ليلى، وقد تنقل بكري بحنكة بين هذه المشاعر المختلطة التي تجمع بين الحب والجنون والنقاء.
1948 (من إخراج محمد بكري، 1998)
رغم تأثير فيلم “جنين – جنين” على مسيرته، لم يتراجع بكري عن مواصلة إخراج الأفلام. وقد تزامن إصدار فيلمه “1948” مع الذكرى الخمسين للنكبة، ليعود بذلك إلى الساحة التي كان غائبا عنها منذ أول فيلم وثائقي أخرجه.
لطالما كانت النكبة حاضرة في أغلب الأفلام الفلسطينية، لكن نادرًا ما وقع تصويرها بشكل مباشر. وكان فيلم 1948 عبارة عن مقابلات مع ناجين من النكبة، بمن فيهم أشخاص فروا من مجازر دير ياسين والدوايمة ولاجئين من قرى مدمرة مثل صفورية.
كانت ضيفة المقابلة الأولى في الفيلم امرأة عجوز، إحدى الناجيات من دير ياسين. وأخذت تغني أغنية رثائية أمام الكاميرا بينما كان العلم الإسرائيلي يرفرف خلفها بشكل ساخر.
إلى جانب الناجين من النكبة، يعرض فيلم 1948 أيضًا صورا من الأرشيف ومقابلات مع مؤلفين فلسطينيين مشهورين (الشاعر طه محمد علي والروائية ليانا بدر) ومشاهد من مسرحية بكري الفردية، “المتشائم” (استنادا إلى رواية إميل حبيبي).
يتضمن الفيلم أيضًا محادثات مع العديد من الإسرائيليين، بما في ذلك جندي تحول إلى ناشط سلام شارك في ما يسمى بحرب الاستقلال الإسرائيلية، واثنين من اليهود العراقيين الذين يعيشون الآن في قرية كان يسكنها فلسطينيون سابقًا.
يؤطر بكري الفيلم في سياقه التاريخي من خلال إجراء مقابلات مع صحفي إسرائيلي، وقد تكون هذه الخطوة من أهم أسباب نجاح فيلم 1948 على عكس “جنين – جنين”. ينتقد كلا الفيلمين الوثائقيين “إسرائيل” بشدة، لكن فيلم 1948 قدم أصواتا إسرائيلية موثوقة، بينما اقتصر فيلم “جنين – جنين” على تبليغ أصوات الفلسطينيين المنكوبين فحسب.
خاص (من إخراج سافيرو كوستانزو، 2004)
مع صدور فيلم “جنين – جنين” في سنة 2002، أصبح بكري شخصًا غير مرغوب فيه في الدوائر الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، اتّجه نحو الإنتاج الدولي. تدور بعض هذه الأفلام حول نضالات المجتمعات الأخرى، بما في ذلك الأرمن والأكراد. كما قال ذات مرة في مقابلة: “أحب أن أصنع أفلاما عن المضطهدين لكي يشاهدها بقية المضطهدين”.
فعلى سبيل المثال، في فيلم “مزرعة القبرة”، يلعب بكري دور فلاح تركي فقير يندم على قراره بخيانة أرباب عمله الأرمن خلال الإبادة الجماعية. وظهر بكري في أعمال دولية أخرى مثل “زهور كركوك” الذي يتناول مذبحة الأكراد على يد نظام صدام حسين في الثمانينات.
اهتمت بعض إنتاجات بكري العالمية بالقضية الفلسطينية. ومن أهم الأمثلة على هذه الفئة، الفيلم الإيطالي “خاص” الذي صدر في سنة 2004 وفيلم الرسوم المتحركة النرويجي “البرج” لسنة 2018.
يمثل فيلم “خاص” الظهور الأول للمخرج الإيطالي سافيريو كوستانزو. ولعب فيه بكري دور رجل تقطن عائلته في منزل كبير في منطقة ريفية في الضفة الغربية. ذات ليلة نهضت العائلة في حالة ذعر إثر اقتحام الجنود الإسرائيليين لمنزلهم. وبدلا من الاقتصار على طرد الأسرة الفلسطينية، يفرض الإسرائيليون تقسيم المنزل إلى ثلاثة أجزاء – وهو تشبيه واضح لتقسيم الضفة الغربية إلى مناطق أ، ب، ج.
البرج ( من إخراج ماتس غرورد، 2018)
“البرج” هو فيلم رسوم متحركة باستخدام دمى متحركة، ويتبع ثلاثة أجيال من عائلة هربت من فلسطين وتعيش الآن في مخيم برج البراجنة للاجئين في لبنان. عمل بكري كأحد الممثلين الصوتيين. في الحقيقة، كان لماتس غرورد، المخرج النرويجي للفيلم، علاقة شخصية بالقصة. ففي الثمانينيات، تطوعت والدته للعمل كممرضة في بعض المخيمات، وعمل لاحقا كأستاذ لغة إنجليزية.
تم إصدار “البرج” بعدة لغات، وظهر صوت بكري في شخصية الجد في النسخة الإنجليزية. من الغريب أن تسمع الشخصيات الفلسطينية تتحدث بلغة غير العربية. ومع ذلك، كفيلم رسوم متحركة دولي، يمكن أن يصل “البرج” إلى جماهير عالمية لم تصل إليها الأفلام الأخرى، وبالتالي فهذه المشاركة تعتبر مهمة للغاية للسينما الفلسطينية.
واجب (من إخراج آن ماري جاسر، 2017)
مع اقتراب نهاية العقد الرابع من أعمال بكري السينمائية، بدأت مسيرته تشهد القليل من التباطئ. لقد تجاوزت مساهمته في السينما الفلسطينية أعماله الخاصة، وقد أصبح ثلاثة من أبنائه – صالح وزياد وآدم – ممثلين في حد ذاتهم.
في وقتنا الحالي، يبدو أن كل فيلم فلسطيني جديد له صلة بمحمد بكري. في بعض الأحيان، كان أبناء بكري يشاركون في أفلامه – ظهر صالح في مشهد قصير في فيلم عيد ميلاد ليلى، على سبيل المثال، وأخرج زياد فيلما قصيرا في سنة 2011 من بطولة والده، “صياد الملح” – وزادت أعمال بكري ازدهارا إثر عمله مع آن ماري جاسر.
يعد فيلم “واجب” من بطولة بكري ونجله صالح، من أحد المعالم البارزة في مسيرة بكري المتميزة. تدور أحداث الفيلم في مدينة الناصرة، وتروي قصة والد ظهر وهو يقود سيارته مع ابنه لتوزيع الدعوات لحضور حفل زفاف ابنته. الأب، أبو شادي، معلم في مدرسة تحاول التكيف تدريجيا مع واقع الحياة في “إسرائيل” المعاصرة. في المقابل، انتقل ابنه المتطرف الذي يدعى شادي إلى إيطاليا.
يجدر بنا مقارنة دور بكري الأكبر هنا مع بعض أعماله السينمائية السابقة. في إحدى مشاهد الفيلم، اتصل بكري على الهاتف بوالد صديقة نجله في إيطاليا، وهو عضو مسن في منظمة التحرير الفلسطينية. للحظة وجيزة، يبدو الأمر كما لو أنه يتحدث إلى إحدى شخصياته السابقة – المتطرفين والمتشددين من أفلام مثل “ما وراء القضبان” أو “كأس النهائي”. عندما يسأله عضو منظمة التحرير الفلسطينية المتعطش لصور الوطن عما ينظر إليه حاليًا، يكذب أبو شادي ويخبره بأنه يرى بستانا جميلا من أشجار البرتقال بينما في الحقيقة ينظر إلى سوق للسلع الرخيصة والمستعملة يبيع أدوات عيد الميلاد الرخيصة.
يلخص هذا المشهد الفكاهي أحد أهم موضوعات الفيلم: التناقض بين صورنا الرومانسية لفلسطين والواقع الدنيوي المرير. فلسطين جميلة، لكنها عادية أيضًا. وطوال مسيرته المهنية، سلط بكري الضوء على أغلب جوانب هذا التناقض.
المصدر: ميدل إيست آي