لم تفصح بعد حادثة الطرد البريدي المشبوه ومحاولة تسميم الرئيس التونسي قيس سعيد عن كل أسرارها وتفاصيلها، فكل مرة تخرج رواية جديدة تفند الأولى، ما زاد الغموض بشأنها وجعل البعض يتساءل هل نحن أمام هجوم حقيقي يهدد صحة الرئيس وأمن تونس العام أم مجرد مسرحية فشل القصر في كتابة أدق تفاصيلها؟
بداية الانتشار
نعود قليلًا إلى الوراء، تحديدًا إلى الأربعاء الماضي، مساء ذلك اليوم، تداولت مواقع إعلامية وصفحات تواصل اجتماعي تونسية خبرًا عن محاولة تسميم الرئيس قيس سعيد، نقلًا عن إحدى الصفحات المعروفة بقربها منه، التي قالت إنه تعرض لمحاولة تسميم عبر طرد بريدي يحتوي على مادة الريسين السامة.
الصفحة التي تحمل اسم “الأستاذ قيس سعيد”، أكدت حينها أنه يتم حاليًّا إجراء اختبار وفرز جميع رسائل البريد الخاصة بالقصر الرئاسي، فيما كتب شقيق الرئيس نوفل سعيد على صفحته الخاصة في “فيسبوك”: “الرئيس بخير الحمد الله”.
معروف أن عملية وصول طرود بريدية إلى قصر الرئاسة مهما كان مصدرها، تخضع عادة لعملية مراقبة مشددة من مصالح الأمن الرئاسي
بعدها بوقت وجيز قالت الرئاسة الجزائرية في بيان لها إن الرئيس عبد المجيد تبون “أجرى هذا المساء مكالمة هاتفية مع أخيه رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد للاطمئنان على وضعه، بعد نبأ محاولة تسميمه”، وأضافت “تبون حمد الله على سلامة شقيقه الرئيس قيس سعيد، بعد أن طمأنه على صحته”.
كل ذلك ولم تصدر الرئاسة التونسية بيانًا رسميًا بشأن الحادثة، لكن بدأت حرب التصريحات، فكل مرة تنشر وسيلة إعلامية خبرًا عن مصدر مسؤول في الرئاسة يؤكد الحادثة لكن الروايات مضطربة، ما جعل بعض التفاصيل تغيب.
بيان
أجرى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، هذا المساء مكالمة هاتفية مع أخيه رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد للاطمئنان على وضعه، بعد نبأ محاولة تسميمه.
وقد حمد رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون الله على سلامة شقيقه الرئيس قيس سعيد، بعد أن طمأنه على صحته. pic.twitter.com/XRKILspbFk
— الإذاعة الجزائرية (@radioalgerie_ar) January 27, 2021
بعض الأخبار قالت إن عونًا في الأمن الرئاسي هو من فتح الظرف المشبوه، ومنهم من قالت إن مديرة الديوان نادية عكاشة هي من فتحته، لكن أحدًا لم يؤكد وجود إصابات، فالجميع أكد فقط فشل محاولة تسميم الرئيس سعيد.
الرئاسة تنشر بعض التفاصيل
صباح الخميس، أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بيانًا توضيحيًا طال انتظاره بعد أن بدأ الشك يغلب التونسيين، أكدت فيه “حادثة محاولة تسمم الرئيس”، وجاء في البلاغ أن الرئيس قيس سعيد بخير وصحته جيدة، وأوضحت الرئاسة التونسية – في بيانها – أن الرسالة المشبوهة وصلت إلى ديوان الرئاسة يوم الإثنين الماضي، ولم يتسن حتى الآن تحديد طبيعة المادة التي تحويها.
وأوضح البيان الرسمي أن رئاسة الجمهورية لم تنشر الخبر في اليوم الذي جرت فيه الحادثة، تجنبًا لإثارة الرأي العام والإرباك، وفي التفاصيل، أفاد البيان أن الوزيرة مديرة الديوان نادية عكاشة، تسلمت الإثنين ظرفًا لا يحمل اسم المرسل، وتولت فتحه لتجده خاليًا من أي مكتوب، لكن بمجرد فتحها للظرف تعكر وضعها الصحي وشعرت بحالة من الإغماء وفقدان شبه كلي لحاسة البصر، فضلًا عن صداع كبير في الرأس.
يهم رئاسة الجمهورية أن توضح ما يلي : تلقت رئاسة الجمهورية يوم الإثنين 25 جانفي 2021 حوالي الساعة الخامسة مساء بريدا…
Publiée par Présidence Tunisie رئاسة الجمهورية التونسية sur Jeudi 28 janvier 2021
أشار البيان إلى أن أحد الموظفين بكتابة رئاسة الديوان كان موجودًا عند وقوع الحادثة، وشعر بالأعراض نفسها لكن بدرجة أقل، وقد تم وضع الظرف في آلة تمزيق الأوراق، قبل أن يتقرر توجيهه إلى فرق وزارة الداخلية، ولم يتسن إلى هذه الساعة تحديد طبيعة المادة التي كانت في الظرف، وأكد أن مديرة الديوان الرئاسي توجهت إلى المستشفى العسكري لإجراء الفحوص اللازمة والوقوف على أسباب التعكر الصحي المفاجئ.
واستغربت الرئاسة مطاردة من تولى تناقل خبر محاولة التسميم هذه، عوض البحث عمن قام بهذه المحاولة البائسة، في إشارة لعملية إيقاف محلل بقناة خاصة نشر خبر محاولة التسميم وتأكيده امتلاك معلومات مؤكدة عن الحادثة (تم إطلاق سراحه فيما بعد).
عقب ذلك، اتصل رؤساء وقادة دول عربية بالرئيس التونسي للاطمئنان على صحته، كما عبروا عن إدانتهم المطلقة لمحاولة تسميمه وتضامنهم مع تونس، كما عبرت رئاسة البرلمان والحكومة عن تضامنها مع الرئيس، ونفس الشيء بالنسبة إلى العديد من الأحزاب والمنظمات التي استنكرت محاولة تسميم الرئيس.
النيابة تفند رواية الرئاسة
بعد يوم من بلاغ الرئاسة، جاء بلاغ ثانٍ هذه المرة من النيابة العامة، أكدت فيه أن الطرد البريدي المشبوه الذي تلقته رئاسة الجمهورية لا يحتوي على أي مادة مشبوهة سامة أو مخدرة أو خطرة أو متفجرة.
وذكر البلاغ أن مصالح رئاسة الجمهورية أحالت على الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية بتونس بتاريخ 26 من يناير/كانون الثاني الحاليّ ظرفًا ممزقًا، وطلبت إجراء الاختبارات الفنية اللازمة عليه، وقد أرجعت الإدارة المذكورة الظرف الممزق لمصالح رئاسة الجمهورية بنفس التاريخ بعد إجراء الاختبارات الفنية المطلوبة.
حكاية الظرف أصبحت محل تندر التونسيين، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي ينشر فيها خبر بشأن تسميم الرئيس قيس سعيد
أكدت النيابة العمومية في بلاغها، أنها أذنت للإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية بتونس بإضافة ذلك التقرير لملف البحث واعتباره ورقة من أوراقه، مبينة أنها وجهت الخميس مكتوبًا رسميًا لمصالح رئاسة الجمهورية لتمكين الوحدة الفنية المكلفة بالبحث في الظرف المشبوه، ولم ترد عليها الإجابة إلى حد الآن.
تشكيك متواصل
بالتزامن مع بلاغ النيابة العامة، عبر عدد من الذين عملوا سابقًا في مؤسسة الرئاسة عن استغرابهم من الرواية الرسمية التي نشرتها الرئاسة بشأن محاولة تسميم الرئيس وإصابة مديرة ديوانه وكيفية وصول ظرف مجهول المصدر إلى القصر.
رضا بلحاج مدير الديوان السابق في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، قال في تصريح إعلامي إن الطرود البريدية والمراسلات الواردة على القصر لا يتسلمها مدير الديوان، ويتم على الأغلب إعلامه بمحتواها من مكتب الضبط.
ولفت بلحاج إلى وجود عدة نقاط غامضة ومتضاربة بشأن التفاصيل الواردة في بيان الرئاسة، ولم يستبعد أن تكون هذه الحادثة مفتعلة بهدف تحويل الأنظار عن المأزق الذي يواجهه الرئيس بشأن موقفه الرافض للتغيير الوزاري الذي صادق عليه البرلمان.
إحساسي العميق بناء على ما يتواتر من انباء ان رئاسة الجمهورية مقبلة على فضيحة كبرى او ربما عدة فضائح بسبب فبركة قصة الطرد…
Publiée par Yadh Elloumi sur Jeudi 28 janvier 2021
معروف أن عملية وصول طرود بريدية إلى قصر الرئاسة مهما كان مصدرها، تخضع عادة لمراقبة مشددة من مصالح الأمن الرئاسي التي يشهد الجميع بحرفيتها العالية، وفق ما أكده عدد من العاملين هناك.
من جهته، اتهم النائب عن “قلب تونس” عياض اللومي في تدوينة له مؤسسة الرئاسة بفبركة قصة الطرد المسموم، ونزه اللومي المؤسسة الأمنية والأمن الجمهوري عن ارتكاب أخطاء كهذه، وأن “تتجاوزهما الطرود المزعومة وتصل إلى مديرة الديوان دون أن يتفطن لها أحد” حسب قوله، داعيًا الجميع لتحمل مسؤولياتهم.
ويرى العديد من المتابعين أن مسألة محاولة تسميم الرئيس ما هي إلا مسرحية الهدف منها حفظ ماء وجه قيس سعيد بعد الهزيمة التي مني بها في البرلمان حين صادق نواب الشعب بأغلبية كبيرة لفائدة التعديل الوزاري الجديد رغم معارضته له.
محل تندر مواقع التواصل
حكاية الظرف أصبحت محل تندر التونسيين، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي ينشر فيها خبر بشأن تسميم الرئيس قيس سعيد، ففي أغسطس/آب الماضي، راجت إشاعة بشأن اعتزام عامل بفرن يزود القصر الرئاسي بالخبز، وضع مواد سامة في مادة الخبز.
محاولة تسميم قيس سعيد طلعت “فشنك”…#تونس https://t.co/zagyNKtw5V
— د. ابراهيم حمامي (@DrHamami) January 29, 2021
الإعلامية عايدة بوقرة، كتبت في صفحتها الخاصة على موقع فيسبوك: “على قيس سعيد أن يوضح للشعب حقيقة فضيحة الظرف أو أن يستكين ويلزم مكتبه لحين انتهاء الأربع سنوات المتبقية ويرحمنا من العنتريات الصورية.. إن كنت ندًا فاقبل وإن استحال عليك اللحاق ولم تتحمل المقارعة فاغمد سيفك واصمت”.
فيما اختار الصحفي علي القاسمي السخرية من حادثة محاولة تسميم الرئيس قيس سعيد بطريقته، حيث كتب جملة من التدوينات على حسابه الخاص في الفيسبوك، جاء في واحدة منها “ما فماش (لا يوجد) حتى فيلم هندي يحتمل سيناريو كيف هكا (مثل هذا)”.
ما فماش حتى فيلم هندي يحتمل سيناريو كيف هكا .
Publiée par Ali Guesmi sur Jeudi 28 janvier 2021
بدوره كتب سرحان الشيخاوي “الآن وبعد أن أثبتت النيابة العمومية زيف رواية الظرف المسموم، واتضح أن الرئيس ومديرة ديوانه والمقربين من القصر، غارقون في نظرية المؤامرة وتعمدوا نشر سيناريو لا أساس له من الصحة.. نقاط كثيرة تُطرح في مستقبل العلاقة بالرئيس”.
الان وبعد ان اثبتت النيابة العمومية زيف رواية “الظرف المسموم” ،واتضح ان الرئيس ومديرة ديوانه والمقربون من القصر، غارقون…
Publiée par Sarhane Chikhaoui sur Vendredi 29 janvier 2021
الرئيس مستهدف
حتى إن كانت رواية الرئاسة غير صحيحة، فإن ذلك لا ينفي أن الرئيس قيس سعيد تستهدفه العديد من الأطراف، خاصة من بعض مستشاريه الذين أثبتوا فشلهم في المهمة التي كلفوا بها وأصبحوا عبئًا على الرئاسة منذ دخولهم قصر قرطاج.
تستهدفه أيضًا بعض قوى الثورة المضادة في الخارج، فهذه القوى ترى أن استهداف الرئيس سيوتر الوضع أكثر في تونس وسيربك البلاد ويدخلها إلى متاهات كبيرة، لها أن تعجل في انهيار الدولة وفشل عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد.
من أجل ضرب الثورة التونسية، لا تستبعد هذه القوى عمل أي شيء، فالمهم عندها أن تفشل تونس وتنزلق إلى العنف والفوضى والخراب أسوة ببعض الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات، حتى يتوقف قطار الربيع العربي.
هذا الأمر يؤكد ضرورة كف الرؤساء الثلاث في تونس عن التصعيد في حربهم الثلاثية وتغليب مصلحة البلاد عوض الزج بها في صراعات جانبية، فهذه الصراعات لا تخدم إلا قوى الثورة المضادة التي تتربص بالبلاد وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها.