يعد التيار السلفي في مصر أحد أبرز الظواهر المثيرة للجدل خلال السنوات العشرة الماضية، لذا كان بؤرة اهتمام الكثير من الدراسات والأبحاث التي تناولت تلك الظاهرة بتفاصيلها كافة، لا سيما أن ثورة يناير 2011 كشفت الكثير من الجوانب الخفية في أيديولوجية هذا التيار.
وتعد الثورة المجيدة وما تلاها من أحداث وتطورات سريعة، المنعطف الأخطر الذي يواجه السلفيين، إذ فتحت الباب على الكثير من التحديات والاختبارات القاسية التي أسقطت القناع عن حزمة الشعارات الفكرية والعقدية التي طالما تشدق بها رموز السلفية في المحروسة.
غياب الإعداد الجيد وعدم وجود الخبرات السياسية الكافية والرضوخ لمغريات المشهد دون دراسة والعزف على أوتار المواءمات بجانب الانقسامات الداخلية الحادة، كانت على رأس الأسباب التي أحدثت شروخات غائرة في جسد التيار السلفي الذي كان قبل عدة سنوات أحد أبرز مكونات المشهد.
وبعد مرور 10 سنوات على ثورة يناير، شابت الخريطة السلفية العديد من التطورات التي أعادت تشكيل ملامحها جملة وتفصيلًا، فقادتها من الحفاظ على مكتسبات الاحترام الشعبي في السنوات الأخيرة من حكم مبارك إلى نفوذ سياسي غير متوقع خلال أيام الثورة وصولًا إلى السقوط المدوي في بئر الإقصاء والتهميش.
قبل الثورة.. زحف شعبي
حقق السلفيون منذ بدايات الألفية الحاليّة نجاحات متعددة المسارات على المستوى الشعبي، فكانوا نجوم الشباك الأبرز حضورًا لدى الشارع المصري، وكانت مؤلفات وبرامج وأشرطة كبار شيوخهم تملأ الأسماع والأذهان، وذلك بعد الشهرة الكبيرة التي حققوها، التي نافسوا بها كبار المطربين ومشاهير السينما ونجوم الرياضة.
استغل هذا التيار حالة العطش المجتمعي للوجبات الدينية المكثفة بعد انتشار السلوكيات غير السوية، والأعمال التي تتعارض مع سمت المصريين الأكثر ميلًا للمحافظة، ساعدهم على ذلك ما كانوا يتمتعون به من مهارات الخطابة والحضور الجذاب.
وحتى عشية الثورة كان قادة السلفيين، محمد حسان وأبو إسحاق الحويني وحسين يعقوب ومحمود المصري، هم الأكثر شهرة وقربًا ومكانة لدى المصريين، ويكفي أن في خطبة أحدهم تعلن المحافظة حالة الطوارئ القصوى استعدادًا للحشد الجماهيري الحاضر لتلك الخطبة، الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى غلق شوارع رئيسية وطرق عامة بالساعات بسبب عشرات الآلاف التي تأتي من كل محافظات مصر للحضور.
الخطاب الرسمي لهذا التيار في ذلك الوقت كان كغيره من الجماعات الإسلامية الأخرى، خطابًا دعويًا في المقام الأول، لا مجال فيه للسياسة، إلا في بعض الاستثناءات، إلا أن الأمن كان يتعامل معها بشدة، ولذا لم تر دولة مبارك في هذا التوجه أي خطورة، بل على العكس في كثير من الأحيان كانوا داعمين للأنظمة انطلاقًا من القاعدة الفقهية “طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليهم”.
ويعود تأسيس التيار السلفي عام 1977 تحت اسم “المدرسة السلفية” على يد الشيخ محمد إسماعيل المقدم، لكن سرعان ما تلقت ضربتها الأولى في سبتمبر/أيلول 1980 حين زج برموزها داخل السجون بجانب رموز كل التيارات الإسلامية الأخرى وعلى رأسها الإخوان.
ثم تغير اسم الجماعة إلى “الدعوة السلفية” عام 1982 لتبدأ معها مرحلة الانتشار والتوسع، حتى تلقت ضربتها الثانية في 1992 حين اعتقل العشرات من قادتها بجانب وقف مجلة “صوت الدعوة” الصحيفة الرسمية للجماعة، بجانب غلق معهد إعداد الدعاة وحل المجلس التنفيذي وبقية اللجان الفرعية.
في تلك الفترة خرج العديد من شباب الجماعة لتلقي العلوم الشرعية على أيدي مشايخ السعودية، على رأسهم عبد العزيز بن باز ومحمد صالح العثيمين، وفي اليمن على يد مقبل بن هادي الوادعي في مدينة دماج، كذلك محمد ناصر الألباني في الأردن.
وعاد هؤلاء الشباب ليصبحوا قادة التيار ورموزه التي لا تزال موجودة حتى اليوم، محققين شهرة كبيرة لم يحققها شيوخ وعلماء أي تيار إسلامي آخر، ليُحدثوا حالة من الزخم الدعوي في الشارع المصري، وباتت خطبهم تنافس أشهر الأغاني في نسبة المبيعات في سوق الكاسيت في مصر والعالم العربي.
ثورة يناير.. بين الفتنة والاحتفال
جاءت ثورة يناير كأول اختبار رسمي للتيار السلفي صاحب الشعبية الجارفة، في البداية كان يرى السلفيون الثورة فتنة تهدف إلى تدمير البلاد وتقوض استقرارها، مع التأكيد مرارًا وتكرارًا على عدم جواز الخروج على الحاكم، وهو الموقف الذي تبناه الأزهر بداية الأمر.
وبينما كانت صرخات الثوار تزلزل ميدان التحرير كان رموز السلفية، حسان ويعقوب والمصري، يطالبون الشباب بالتراجع والعودة للمنازل حقنًا للدماء، وهو الموقف الذي وضع الجماعة السلفية في موقف حرج جدًا مع الإرادة الشعبية، الأمر الذي ترتب عليه تداعيات سلبية على مكانة السلفيين شعبيًا.
وما إن تنحى مبارك في 11 من فبراير/شباط 2011 حتى غيرت الرموز مواقفها، وبدلًا من دعوات التراجع نزلوا هم بأنفسهم لميدان التحرير وشاركوا الثوار فرحة انتصار الموجة الأولى بتنحي الديكتاتور، فيما شكل قادة السلفية “مجلس شورى العلماء” لدراسة الموقف وتطوراته في محاولة للانخراط في المشهد الثوري.
ورغم الخلاف بين الإخوان والسلفيين، فإن الأخير رأى أن الساحة الآن بحاجة إلى بناء علاقات جيدة مع كل التيارات الإسلامية لتوحيد الصف من أجل إنجاح الثورة، فأقام التيار علاقات جيدة مع جماعة الإخوان باستناء السلفية المدخلية التي ظلت على مواقفها السابقة بشأن رؤيتها أن الإخوان من “الفرق المبتدعة النارية”.
خلافات المكاسب
وما إن هدأ شراع الثورة قليلًا حتى بدأ التوتر يخيم على الأجواء بين السلفيين وبقية التيارات المشاركة في المشهد، تعاظم أكثر إبان الانتخابات البرلمانية 2012 حيث اتهمت الدعوة السلفية الإخوان بالتحالف مع تيارات وأحزاب سياسية الأخرى (مدنية وليبرالية) فيما لم تنسق مع بقية التحالفات الدينية.
ورغم فوز حزب النور، الذراع السياسية للدعوة السلفية، والنجاح في الحصول على نسبة 24% من مقاعد مجلس النواب عام 2012، وهو الذي يشارك للمرة الأولى في ظل تواضع الخبرات السياسية والجهل بدهاليز العمل البرلماني، فإن هذه النسبة لم تكن مرضية لأنصاره.
خصومة السلفيين للإخوان دفعتهم للانحياز إلى المرشح عبد المنعم أبو الفتوح في الانتخابات الرئاسية 2012، في محاولة لتقزيم دور الجماعة التي يراها التيار السلفي سحبت البساط من تحت أقدامه، غير أنه بعد انحسار المنافسة بين مرسي وأحمد شفيق، لم يجد الحزب بديلًا عن انتخاب المرشح الثوري في مواجهة مرشح نظام مبارك “الفلول”.
ومنذ الوهلة الأولى لتولي مرسي مقاليد الحكم بدأ “النور” في اختلاق الأزمات والمشاكل، فبعد شهر تقريبًا من دخول قصر الاتحادية أصدر الحزب السلفي بيانًا استنكر فيه عدم اختيار الرئيس وزراء ومحافظين من بين صفوفه، وهو ما دفع مرسي آنذاك إلى اختيار رئيس الحزب، عماد عبد الغفور، والقيادين بسام الزرقا وخالد علم الدين، ضمن الفريق الاستشاري له.
وصل الخلاف قمته بتحالف التيار السلفي ممثلاً في حزب النور مع جبهة الإنقاذ، وهي الكيان الذي جمع بعض الأحزاب المدنية والعلمانية في مواجهة الرئيس وحزبه السياسي (العدالة والتنمية)، كان الهدف المعلن وقتها إسقاط حكومة هشام قنديل التي عينها مرسي، لكن الهدف الخفي الذي تكشف بعد ذلك كان إسقاط الرئيس وجماعته.
المشاركة في 3 يوليو
في المقعد الخلفي على يسار وزير الدفاع – آنذاك – عبد الفتاح السيسي (الذي اختاره مرسي بنفسه خلفًا للمشير حسين طنطاوي وهلل له أنصاره )، كان يجلس أمين عام حزب النور، جلال مُرة، في أثناء إلقاء بيان انقلاب 3 يوليو 2013، تزامن هذا مع اعتصام المئات من حلفاء السلفيين القدامى في ميداني رابعة والنهضة.
بالعودة للوراء قليلًا نجد أن عداء السلفيين للإخوان دفعهم للانخراط – بقصد أو دون قصد – في حلف الثورة المضادة، الذي كان يهدف للإطاحة بمرسي بحجة إحكامه على مقاليد الحكم وسيطرة جماعته على المشهد في مقابل تهميش وإقصاء شركاء الثورة، ومن ثم كانوا شركاءً أساسيين في الإعداد لمشهد 30 يونيو.
المشهد حينها كان يشير إلى أن السلفيين اختاروا طريقهم بصورة برغماتية واضحة، متخلين عن شعارات الثورة وأهدافها المزعومة، فالساحة كانت مغرية آنذاك لحصد الحزب الناشئ الكثير من المكاسب السياسية، متوهمًا أنه بالإطاحة بالإخوان سيكون الطريق ممهدًا نحو الريادة والقيادة، وهي نفس أوهام التيارات السياسية الأخرى التي صنعت مشهد الانقلاب.
حاول الحزب مستميتًا أن يغازل الجيش ووزير دفاعه (الذي نجح في خداع الكثير بشأن ولائه للرئيس الذي عينه) بشأن سلمية الحراك، وذلك من خلال بيان أصدره في اليوم التالي لبيان الانقلاب قال فيه: “إن جيش مصر الوطني عهدنا معه ألا يفرط أبدًا في الشريعة وموادها في الدستور والهوية الإسلامية، ولقد وفّى دائمًا بما تعهّد به منذ الثورة بعدم إطلاق رصاصة واحدة ضد الشعب، والحفاظ على حرمة الوطن والمواطنين بجميع طوائفهم، الذين لا نقبل ولا يقبل جيشنا الوطني وشرطتنا أي تجاوز في حقوقهم وحرياتهم وحرماتهم حتى المخالفين لقرارات القوات المسلحة، فلن تعود أبدًا صورة العهد البائد من الظلم والعدوان على الشعب”.
ورغم إدانة الحزب للمجازر الدموية التي قامت بها السلطات المصرية ضد المعارضين في الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة العدوية والنهضة، لم يتخذ أي إجراء سياسي واحد ضد السلطة الجديدة، مكتفيًا بعدم التعاون والتنسيق وفقط، رغم تأييده لكل القرارات التي اتخذتها تلك السلطة وكانت على أشلاء وجثث المعارضين الذين في أغلبهم كانوا حلفاءً للسلفيين وشركاء لهم في مسيرتهم الدعوية والدينية.
تهميش وإقصاء
مر الحزب بمراحل ومحطات مهمة في مسيرته السياسية منذ انتخابات مجلس الشعب (البرلمان) التي عقدت على ثلاث مراحل بدأت في الـ28 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وانتهت في الـ19 من يناير/كانون الثاني 2012، وأسفرت عن حصول حزب النور السلفي على 96 مقعدًا محتلًا المرتبة الثانية، وصولًا إلى انتخابات مجلسي الشورى والنواب التي لم يفز الحزب فيهما إلا ببضعة مقاعد تعد على أصابع اليد الواحدة.
وفي أول اختبار سياسي للحزب بعد الانقلاب، انتخابات النواب 2015، خسر السلفيون 80% من حصتهم البرلمانية التي حصلوا عليها في 2012، حيث تراجعت أعداد المقاعد التي فازوا بها من 96 إلى 12 مقعدًا فقط، ثم تأتي انتخابات 2020 لتحمل شهادة الوفاة الرسمية لهذا التيار سياسيًا.
أيقن السلفيون والمتابعون أن استقطاب الحزب ليكون ضمن خلفية المشهد السياسي للنظام الحاليّ في تقديم نفسه للشارع الذي يميل أغلبه للتدين، لم يكن سوى توظيف سياسي بحت، لا علاقة له بالتوجه الديني لدى السلطة الجديدة التي أرادت مغازلة الشارع بجناحيه الدينيين، الإسلامي والمسيحي، وبما يعوض غياب الإخوان عن المشهد.
التنازلات التي قدمها السلفيون ووصل بعضها إلى عمق الدين وصلب الأحكام التي كانت بمثابة مناطق محظور الاقتراب منها قديمًا، لم تشفع لهم لدى نظام الجنرالات الحاليّ، الذي يسعى بكل قوة لوأد كل ما يمت للإسلام السياسي بصلة، لا سيما أنه يراه منافسه الأقوى الذي يهدد بقاءه.
في دراسته المعنونة بـ”مصر: السلفيون البراغماتيون” حاول الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية في باريس (Sciences Po) والباحث في مركز الدراسات والأبحاث الدولية (CERI)، تفسير التقلبات المزاجية للحزب السلفي في مصر خلال سنوات الثورة.
سقوط جميع مرشحي حزب النور في انتخابات مجلس الشيوخ
ازاي كده يبقي مجلس شيوخ ومفيش شيوخ ميصحش كده pic.twitter.com/zozP1RHXaR— ✒روزم أوجاع (@muhbirati) August 20, 2020
الباحث في دراسته أشار إلى أن “حزب النور يقدم أنموذجًا نادرًا لحزب شديد البراجماتية في مواقفه السياسية، متشدد للغاية في آرائه الدينية، وقد ظهر التوازن بين هاذين السمتين في خطاب الحزب عبر التغيرات التي طرأت على قيادته”، لكن الكثير من ملامح التغيير بدأت تطرأ عليه بهدف تحقيق المكاسب السياسية.
لكن يبدو أن لاكروا كان مستندًا في دراسته التي نشرها في 2016 إلى الخريطة السياسية المصرية في هذا التوقيت، التي كان للسلفيين مكانة نسبية بداخلها وإن لم تكن كما كانت في 2012، لكن لو أراد اليوم أن يعيد نشر تلك الدراسة فبلا شك ستكون النتائج مختلفة تمامًا، فبراغماتية الحزب أسقطته سقوطًا مدويًا بعدما ضرب الحزب بمرتكزاته الدينية والفكرية عرض الحائط من أجل المكاسب السياسية، فلا هو حافظ على مبادئه ولا حصد نتائج التنازل عنها.
الأعوام الخمس الأخيرة على وجه التحديد مُنع رموز السلفيين من الدعوة، بحجة عدم حصولهم على تصاريح الخطابة “المسيسة”، ففقد التيار أحد أبرز ركائزه الشعبية، فيما تم ملاحقة صحفييه ووسائل إعلامه، وفي الأخير هناك أحاديث تشير إلى مساع لحل حزب النور رسميًا بدعوى أنه على أساس ديني ويتعارض مع توجهات الدولة الجديدة.. ليواصل التيار السلفي تجريده من كل أوراق ستر العورة.
وبعد 10 سنوات على ثورة يناير لم ينجح السلفيون إلا في استعداء التيارات كافة، فقد خانوا حلفاء ثورتهم ابتداء فخسروا دعمهم، ثم هُمشوا سياسيًا من النظام الحاليّ بعدما حصل منهم على مبتغاه، ليتركهم على حافة العمل السياسي بلا ظهير أو داعم، اللهم إلا بعض المؤدلجين داخل الحزب المنفذين لتعاليمه بالأمر المباشر.