إن الشعر الشعبي المغاربي الذي يقوم على اللهجة العامية أو الدارجة هو كما حال نظيره في العالم العربي حيث يُعرف بالشعر النبطي في العراق والبدوي في الشام أو الشعر الصعيدي في مصر، يُعد مدرسة أدبية وفنية كبيرة لها أعلامها ومشاهيرها وكذلك روادها الكبار، فهو شعر شفوي متجذر في مسار تطور الشعوب وثقافتهم ونتاج تلاقحها وتقاربها، حيث امتزجت أزجال وموشحات الأندلسيين مع أشعار الهلاليين خاصة في القرن الخامس هجري.
شعر ملحون
الملحون هو أحد أنواع الشعر وعلى الأغلب عرفته كل الثقافات والمجتمعات باختلاف لغاتها، وسمي بالملحون لأنه يقوم أساسًا على خروج الكلام الفصيح عن مجرى الصحة في بنية الكلام أو التركيب أو الإعراب والنحو وذلك من فرط الاستعمال بين الناس، حيث تسربت إلى اللغة الصحيحة لهجات ومصطلحات متداولة بين مكون اجتماعي مرتبط بذات المعجم الكلامي، ويقابله في اللغة العربية الفصحى “الشعر الموزون”.
ومن الشعر الملحون نجد الزجل، وهو كما عرفه صفي الدين الحلي، بأنه فن قولي “لا يلتذ به حتى يغنى به ويصوت”، أي أن رواجه مرتبط بالغناء والترديد والجريان على ألسن عامة الناس.
هذا الفن عرف في المغرب العربي بلهجاته المتنوعة، ويختلف من منطقة إلى أخرى حسب الخصائص الثقافية والاجتماعية وكذلك الجغرافيا (شمال جنوب)، فالشعر الملحون وأغراضه المتعددة يعد من صميم الإرث التاريخي وهو حجر الزاوية للموروث الشفوي.
وإضافة إلى كونه فنًا إبداعيًا وإنتاجًا ثقافيًا مليئًا بالصور والتعبيرات الشعرية القائمة على الخيال والوصف وترتيب الكلمات والألفاظ، فهو أيضًا مادة نفكك من خلالها الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وجوانب مهمة من تاريخ المنطقة، حيث تذكر أغلب الأشعار الملاحم والشخصيات والأحداث الفارقة التي شهدها المغرب العربي.
الأدبة التونسية
الأدبة هي مرويات فنية تصور الواقع الاجتماعي وتنقل قصص الحب والعشق والهيام وتؤرخ للبطولات والملاحم والانتصارات سواء كانت على الحاكم الجائر أو الغازي الغائر، هي ذاكرة الإنسان الريفي والبدوي احتفظت بها الأجيال المتعاقبة لقرون طويلة، وهي الفعل الفني الثقافي المتأصل في الجذور الأولى للأرض يقوم على أداء قصائد طويلة من شعر “الملحون”، تمتزج فيها اللهجة العامية بالعربية الفصحى، وغالبًا ما تكون مصحوبة بإيقاع موسيقي خفيف.
في تونس، يقدم شعراء الملحون أنفسهم على أنهم أدباء، أما شعرهم فهو “الأدبة” أي تصغير لكلمة أدب ولا تعني الصيغة هنا التحقير والتهميش والدونية، بل جاءت للتمييز وإعلاء الشأن والفخر، ومن بين الشعراء الكبار الذين عرفوا بقصائدهم المتميزة وسلاسة تعبيرهم القائمة على قوة الصورة وفصاحة اللسان، نجد أحمد ملاك وأحمد البرغوثي وأحمد بن موسى والعربي النجار ومحمد الصغير الساسي الذي اشتهر زمن الاستعمار وبعد الاستقلال.
لهذا الشعر المنظوم باللهجة العامية أو الدارجة قوانينه وأصوله التي تضبط طرائق كتابته وأغراضه المتفق عليها منذ قرون، ويعد “الأخضر” من أهم الأغراض الشعرية يقابله الغزل في الشعر الفصيح ويعتمد الوصف الصريح والواضح لجمال جسد المرأة.
ومن الأغراض أيضًا “وصف الطبيعة” وهنا يتم التركيز على “الضحضاح” وهو السراب في الصحراء و”الكوت” وهنا يتفنن الشاعر في وصف الفرس والنوق و”النجعة” ويصف فيها الشاعر عملية الارتحال من أجل الكلأ والبحث عن الماء و”البرق” وهو عنوان لتباشير المطر والخصوبة.
أما أوزان هذا النوع من الشعر التونسي البدوي فقد قسمها الشاعر محيي الدين خريف إلى أربعة أصول وهي:
– القسيم وهي قصيدة بأبيات تتحد قوافي أقسامها الأولى كما تتحد قوافي أقسامها الأخيرة وليس له طالع ولا مكب ولا رجوع:
شير عقاب اللـيل ياما أحسنه في المزن كيف شعل
ربي عليه وكـــيل أذن على باب الســـــــــماء ينحل
غم الوطا بالسيل تملت المناقع كــــــــــــل واد حمل
– الموقف وسمي كذلك لأنه لا يقال أو يغنى إلا وقوفًا وهو عبارة عن قسيم مربع أي أبياته تتركب من أربعة أقسام تتحد في ثلاث قوافي والشطر الرابع تختلف قافيته إلى آخر القصيد:
يا مدرجحه سالفك طول على الكتف مسبول
ظليم القفز حــــيره زول بين الكدى والقطافي
– الملزومة وهي الأكثر تداولًا وشيوعًا لها طالع ذو غصنين أو ثلاثة أو أربعة أدوار تتركب من أغصان ثلاثة فما فوق تتحد قافيتها وتختم بغصن ترجع قافيته إلى قافية الطالع:
سكن كن دايا في الضمير مخفه لو كان نشكي للحجر نشفه
– مسدسة وهي قصيرة ومكثفة ومليئة بالإيحاء والحكمة تتركب من طالع ثلاثي يتحد في القافية وله أدوار تتركب من ستة أغصان في الغالب الأربعة الأولى متحدة القافية والأخيران لهما نفس قافية الطالع:
أنا القلب حاير ودايخ وهايم ** فيض مرايم ** سهران لا نرقد النوم دايم
هذا النوع من الشعر يغنى إلى الآن في الأعراس والاحتفالات التي تقام في البوادي والأرياف التونسية وتسمى السهرة “النجمة” التي يأتيها “الغناي” ومعه “السفعات” (منشدان اثنان) وتغنى أغلب الأغاني بطلب من الحضور.
المغرب
قدم فن الملحون إلى المغرب مع موجات هجرة المورسكيين إلى شمال إفريقيا، حيث استقرت أغلب جوق الملحون في مدن فاس ومكناس وطنجة، وجذبت إليها الأعيان الذين انضموا إلى الحفلات، ما ساهم في انتشار هذا الفن الذي يعتمد على الكلمة أي الشعر سواء كان فصحى أم “وسطى” التي تمزج بين العربية الصحيحة واللهجة الدارجة، وتكون الموسيقى المصاحبة منخفضة في أثناء إلقاء الشاعر لأبياته.
ويرتكز شعر الملحون المغربي على بنى نصية متماسكة تجمع بين الأصوات والمقاطع والكلمات المعجمية المتنوعة ومستويات الإيقاع والأوزان، وتمتزج فيها الأساليب السردية والصور الشعرية بطبيعتها الرمزية والتجريدية والذِهنية.
أَرَحْمِي يَاراحةْ لَعَقلْ تَرْحامِي
مَنْ جْفَاكْ طَالْ سْقَامِي
كِيفْ نبْقى حايَرْ وَنْتِ مْسَلْيا
رُوفِي يَالُغْزالْ فاطْمة
مع مرور الوقت، طور المغاربة هذا الفن وأضافوا إليه الآلات الموسيقية التقليدية مثل الوتر، ونوعوا مقاماته الموسيقية، وقسموا الكلمات أي الشعر إلى نوعين: أولهما المدح ويستند إلى المعجم الديني وتنصب كلماته في مدح الرسول والتوسل إلى الله وحمد نعمه، والثاني يميل إلى الغزل وهو “العشاقي” أي طرب أهل الهوى.
الملحون الجزائري
أما في الجزائر المجاورة، فشكّل الشعر الملحون الثوري أهم الصور الفنية التي استوعبت النضال التحريري والكفاح المسلح، من خلال توظيف الشاعر الشعبي والراوي هذا النمط الثقافي لحفظ وأرشفة الأحداث والبطولات في شكل وثائق تاريخية، فالشعر الملحون على تشتت نصوصه، ظل الخزينة الوحيدة للذاكرة الجماعية.
ومن المعلوم أن الشعراء الجزائريين أدوا دورهم الوطني كاملًا بعد أن شدوا عضد السياسيين والمناضلين في جبهات القتال بالوسائل المتاحة لهم، ونذكر من بينهم المجاهد محمد جغاب والشاعر التومي الحاج سعيدان الذي نظم الأبيات التالية:
يا صحراوي شوف حال جيشك يضـفر وأنت راقد عار كــــــــــي الذمي تتقول
تتلقى الأخبار تصوط وتزيد اتـــــــــــكرر سوس الغبرة خير كــــون واعي متعقل
عام ونصف الشعب قال شــاهي يتحرر وأنت رازح فيق حالتك مــــــا تتحول
الشبان جميع شوف عنـــــك تتحــــــــير جاوبهم بالكلام قول لهـــم نـا نخصل
أصلي عربي وجنسنا بيه نتفــــــــــــــــخر ديني مسلم مــــــــــــــــــــــــا نحبه يتبدل
من جهة ثانية، يزخر الأدب الشعبي الجزائري بمجموعة كبيرة من شعراء الشعبي نذكر بعضًا منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر سيدي لخضر بن خلوف الذي تبدو مجمل أعماله مخصصة لحياته بجوانبها الصوفية والدينية، ومحمد بن مسايب الذي اشتهر في شبابه بقصائده الغزلية وترك أشعارًا رائعةً في المديح الديني لا سيما قصيدته الشهيرة ”مدح الرسول”، بالإضافة إلى سي محند وعيسى الجرموني.
الشعر والتصوف
يرتبط الشعر الشعبي والملحون بالتصوف ارتباطًا وثيقًا، فتاريخ استخدام الشعر باللسان العامي أو الدارج (أو ما سمي الزجل) في الرقائق الصوفية والوعظ والمديح يرجعه المؤرخون لأبي الحسن الششتري الأندلسي (توفي سنة 668 هجري) أول من نظم الزجل الصوفي.
والملحون الصوفي بوصفه تجربة ذوقية روحية، لا تقل قيمةً ولا شأنًا من الشعر الصوفي الكلاسيكي الذي كتب باللغة العربية المعيارية أو إن الصح التعبير المشرقية (الحلاج والسهروردي)، فهذا المنتج لا تنقصه دعائم البلاغة أو مقومات الجمال الشعري والفني.
والدارس لفن الملحون يكتشف أن الشاعر الشعبي الصوفي متأثر بالثقافة الدينية والشعبية التي أخذها من محيطه والوسط الذي عاش فيه، فهذه الثقافة تعتبر زادًا معرفيًا متنوعًا تقدمه المساجد والزوايا، لذلك فإن معظم شعراء الملحون المغاربيين إن لم نقل جميعهم هم من الصوفية ونذكر من بينهم سيدي لخضر بن خلوف وعبد العزيز المغرواي والحاج محمد النجار والحاج عيسى لغواطي والشيخ عبد الرحمن المجدوب المغربي الذي أنشد في إحدى قصائده مناجيًا الرسول بالقول:
أنا قلبي مشتاق لزيارة خير الأنام
رحل الركب وساق خلاني حاير منامي
قولوا له مشتاق لزيارتك عبدُ السلام
أنا قلبي مشتاق..
لزيارة خير الأنام..
سال الدمع دفاق..
يسكب على روس الميامي..
حرقني الأشواق..
بيك يتقوى يا غرامي ..
– مولانا عبد السلام
— Moneem El-Faitory (@m20_el) June 9, 2017
وأخرى أنشدها في أثناء سياحته لجبل زغوان بتونس مستغيثًا بالأقطاب والصالحين خاصة سيدي عبد القادر الجيلاني:
يا فارس بغداد آه يا جيلاني … أحضر يا صداد بالك تنساني
أزمة ذاكرة
إن ما تعيشه المنطقة المغاربية الناتج عن تأثيرات العولمة والتحولات الإقليمية والدولية على أكثر من صعيد، إضافة إلى التغيرات الاجتماعية المتمثلة في الأنماط الحياتية الجديدة القائمة على الانفتاح، شكّل أزمة حقيقية وعائقًا أمام محاولات الحفاظ والتأصيل لهذا الفن، فحالة التغريب الثقافي الذي وصلته المنطقة استهدف بصفة مباشرة الذاكرة الشعبية الشفوية وأصابها بالاهتزاز والنفور.
من هذا الجانب، يُمكن القول إن التغيرات الاجتماعية كانت امتدادًا لسياسة التهميش التي كرستها أنظمة الدول ما بعد الاستقلال التي لم تُحافظ على الموروث الثقافي الأصيل، حيث حاولت جاهدة طمس ثقافة الريف والبوادي أو حصرها في قالب ما يُسمى بالفلكلور الشعبي وألصقت بها نعت “الشعبي” بما تحمله من دلالة دونية والحال أنه شفوي، في مقابل ذلك دفعت بثقافة الحواضر والمدن الوافدة من الغرب وجعلت منها الواجهة الثقافية الرسمية للدولة.
أما محاولات ترميم أواصر العلاقة بين الثقافة المحلية والموروث من أجل إحيائه وفق منهج تهذيب التراث فهي مغالطة وانتهاك صارخ لروح الإنتاج الأدبي يسيئ لذاكرة الأجداد أكثر ما ينفعها، فالتغيرات المحدثة على هذا الفن تؤدي في أغلبها إلى زوال الجماليات الشعبية والصور المتأصلة التي تتسم بالعفوية والصدقية، وبالتالي فهي تمس الهوية الثقافية المتجذرة في أعماق التاريخ.
كل هذه العوامل ساهمت بشكل أو بآخر في تراجع أحد الفنون المميزة لهذه المنطقة، لكن المسؤولية الفنية تلقى أيضًا على الأكاديميين والفنانين أنفسهم، فالضرورة تقتضي منهم تقديم معجم جامع لشعراء الملحون المغاربي من أجل تثمين وإبراز قيمة التراث المغاربي المشترك من جهة، وتطويره والاشتغال على اللغة المغاربية العامية أو الأم التي أسست لهويتها من خلال نصوص فنية شعرية عميقة اغتنت بالتاريخ والثقافة والممارسات المجتمعية والعادات المحلية المغاربية من جهة أخرى.
بالمجمل، يُمكن القول إن الشعر الملحون أو الشفوي يُعد وعاءً ثقافيًا وفكريًا يحوي اللغة والدين والمعتقدات وكل ما له علاقة بالموروث الحضاري المغاربي، وهو أيضًا صورة معبرة عن أحاسيس الشعوب ومشاعرها الناتجة عن البيئة والواقع الاجتماعي، لذلك فإن هذا الإبداع الإنساني بحاجة إلى صيانة وحفظ وتطوير، فصموده لأكثر من 6 أو 7 قرون لا يعني بالضرورة قدرته على مقاومة اكتساح التغريب الاجتماعي والفكري الذي يعيشه عالمنا العربي.