قصة اليهود في المغرب ضاربة في القدم، يعود قدومهم الأول إلى الساحل الجنوبي الغربي للبحر المتوسط في أعقاب خراب الهيكل الأول عام 586 قبل الميلاد، بعد ذلك توالت الهجرات، وكانت أقواها بعد سقوط الأندلس عام 1942 وهروب اليهود والمسلمين من اضطهاد محاكم التفتيش نحو بلاد المغرب، ثم تجددت الهجرة الجماعية إبان الحرب العالمية الثانية هربًا من نازية هتلر.
قبل عهد الرومان
يختلف المؤرخون بشأن الوجود الأول لليهود في المغرب، منهم من يرجع ذلك إلى العهد الروماني، في حين ترى بعض الروايات أنه يعود إلى ما قبل ذلك، ويقول المحلل السياسي الإسرائيلي يؤاف شاحام: “يُدرك المؤرخون أن اليهود الأوائل وصلوا الساحل الجنوبي الغربي للبحر المتوسط منذ عهد الإمبراطورية الرومانية، لكن التقاليد اليهودية تدعي أن استقرار اليهود في المغرب يعود إلى ما قبل ذلك، إلى أزمنة الكتاب المقدس، فذرية سكان قرية “إفران الأطلس الصغير” اليهود يروون أن آباءهم، رجال الملك سليمان، وصلوا إلى المغرب على سفن الفينيقيين”.
تؤكد منظمة “جيمينا” التي تهدف للحفاظ على تاريخ وتراث اليهود الشرقيين، أن جذور اليهود في المغرب تعود إلى عام 587 قبل الميلاد، عندما اضطر اللاجئون اليهود الفارون من التدمير البابلي لأورشليم القدس والهيكل المقدس إلى الهجرة لشمال إفريقيا والاستقرار في منطقة الأطلسي بالمغرب، وتضيف “جيمينا” أن اليهود عاشوا هناك بين القبائل الأمازيغية المحلية التي يعتقد أن البعض منها اعتنق الديانة اليهودية.
التوسع في الشتات
يقر كل اليهود أن الأمازيغ استقبلوا اليهود اللاجئين وآووهم بمنطق متسامح، وفي عهد الإمبراطورية الرومانية توسع شعب إسرائيل في الشتات، ووصل إلى جميع أنحاء شمال إفريقيا على ساحل البحر المتوسط، وفي عام 70 ميلاديًا، وبعد تدمير الرومان للهيكل الثاني في أورشليم القدس، استقر المزيد من اللاجئين اليهود في المغرب.
عندما فتح إدريس الأول المغرب وجد أمامه قبائل يهودية ومسيحية ووثنية
سبق الوجود اليهودي مجيء الإسلام إلى المغرب بقرون عديدة، وعاشوا إلى جانب الأمازيغ الذين لم يكونوا يؤمنون فقط بإلههم الكبير “آكوش”، بل تأثروا بمعتقدات جيرانهم المصريين كما تأثروا بالمعتقدات الفينيقية والإغريقية والرومانية، ولاحقًا آمنوا بالديانات الإبراهيمية.
يحكي المؤرخ حاييم الزعفراني عن تمازج المسيحية واليهودية والوثنية في مغرب ما قبل الإسلام، قائلًا: “إدريس الأول عندما فتح المغرب وجد أمامه قبائل يهودية ومسيحية ووثنية. وقد ترك إدريس الثاني اليهود داخل أسوار فاس القديمة، حيث سكنوا إلى أن أسس المرينيون الملاح الحالي، ملاح فاس الجديد، ويقع في المنطقة الواقعة بين القرويين وباب الكيزة، تلك التي ما زالت تسمى “فندف ليهودي””.
عبودية أم تسامح؟
عندما وصل الفتح الإسلامي إلى المغرب في نهاية القرن السابع، بدأ اليهود يعيشون تحت “قانون الذمة” المفروض بمقتضى ديانة أغلبية السكان. هذا القانون واجه انتقادات من مؤرخين مثل أندريه شوراقي، معتبرًا وضع الذمة أقرب إلى وضعية العبيد، وعلى طرف النقيض يقول حاييم الزعفراني عن عقد الذمة: “إنه وضع دوني ومؤقت، في غالب الأحيان، ولكنه على أي حال، وضع قانوني متسامح (استقلال قانوني وإداري وثقافي كامل) إذا ما قورن بالذي عرفه يهود البلدان المسيحية الأشكناز” وفق ما ورد في كتاب “ألف سنة من حياة اليهود في المغرب”.
تشير بعض الكتابات التاريخية إلى أن اليهود عاشوا كمواطنين من الدرجة الثانية مقارنة بجيرانهم المسلمين، لكن في الوقت ذاته يرسم مؤرخون آخرون صورة مغايرة تمامًا، مفادها أن اليهود المغاربة كانوا يعيشون عصورًا ذهبيةً لم ينعموا بمثيلها خلال وجودهم في بلدان أخرى، بل كانوا يلعبون دورًا مهمًا في المشهد السياسي للدول المختلفة التي تعاقبت على حكم المغرب.
أدى سقوط الأندلس إلى توافد يهودها على المغرب بين عامي 1492 و1497، عقب إقامة محاكم التفتيش لمطاردة اليهود والمسلمين وإجبارهم على اعتناق المسيحية
تاريخيًا، عرفت علاقة اليهود والمسلمين في بلاد المغرب، مدًا وجزرًا بين التعايش والنزاع، ورغم أن عقد الذمة كان يلزم اليهود بأداء الضرائب “الجزية”، ويمنعهم من تقلد مناصب إدارية في الدولة، فإنه في الكثير من الأحيان لم يتم الامتثال لمقتضيات هذا القانون، فقد كان اليهود مستشارين في البلاط السلطاني وسفراءً في داخل وخارج البلاد، كما اضطلعوا بدور حيوي لهم داخل المنظومة الاقتصادية للبلد، وذلك لتمتعهم بالخبرة اللازمة لاحتراف التجارة والنجاح فيها.
سقوط الأندلس
في نهاية القرن الخامس عشر، أدى سقوط الأندلس إلى توافد يهودها على المغرب بين عامي 1492 و1497، عقب إقامة محاكم التفتيش لمطاردة اليهود والمسلمين وإجبارهم على اعتناق المسيحية، وصل مهجرو الإسبان والبرتغال في موجات متتابعة، حاملين معهم لغة الأجداد القشتالية وعلومهم وأعرافهم وعاداتهم، بعد أن فتح لهم محمد الشيخ الوطاسي (خلال فترة حكمه الممتدة من 1472إلى 1505) بلاد المغرب، فتمركزوا في فاس، ثم تفرقوا في المدن الكبرى.
أزهى عصور اليهود في المغرب، كانت خلال فترة حكم السلطان العلوي محمد بن عبد الله (1757-1792)، المعروف بمحمد الثالث، الذي اختار مرفأ الصويرة لتأسيس المدينة كمركز دبلوماسي وتجاري، ضمت عددًا كبيرًا من اليهود وكانت نموذجًا للتعايش بين الديانات.
تجددت هجرة اليهود عكسيًا، من المغرب إلى فلسطين المحتلة، بعد إعلان الكيان الإسرائيلي عام 1948، حينها أغرت الدعاية الصهيونية 250 ألف يهودي مغربي بالهجرة إلى “إسرائيل”
يشار إلى أن السلطان محمد الثالث أصدر مرسومًا ملكيًا (ظهير شريف) ينص على معاملة اليهود في المغرب من الحاكم والإداريين وسائر المواطنين معاملة عادلة، وأن تكون لهم المساواة أمام المحاكم، ثم عيّن السلطان يهوديًا اسمه جاكوب الطايل كاتبًا خاصًا له، قبل أن تصبح له الكلمة المسموعة، في مجال الاقتصاد كذلك، فابتدع هذا المستشار اليهودي، بعدما اكتشف حب سيده للمال، طريقة جديدة لتعمير بيت مال السلطان، عبر تجريد الأثرياء المغاربة من ثرواتهم.
الهروب من النازية
سرعان ما تجدد التوافد اليهودي على بلاد المغرب، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) عقب وصول أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا، ووقوع فرنسا تحت الاحتلال النازي، هرب الكثير من اليهود الفرنسيين إلى المغرب، في الوقت الذي كان يخضع البلد للحماية الفرنسية، شكل هتلر حكومة فيشي في باريس، لكن الملك محمد الخامس وقف للدفاع عن اليهود رافضًا تسليمهم إلى النازية، ولهذا السبب لا يزال اليهود يتذكرون محمد الخامس إلى الآن.
لكن عاجلًا تجددت هجرة اليهود عكسيًا، من المغرب إلى فلسطين المحتلة، بعد إعلان الكيان الإسرائيلي عام 1948، حينها أغرت الدعاية الصهيونية 250 ألف يهودي مغربي بالهجرة إلى “إسرائيل” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قلة قليلة من اليهود لم تأبه لدعاية الموساد، وبقيت في المغرب، لكن الأغلبية غادرت.