تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، موقفًا حرجًا للغاية، إزاء التعامل مع الملف النووي الإيراني، في ظل حزمة الفخاخ التي تركها الرئيس السابق دونالد ترامب، التي تشكل حجر عثرة أمام أي مساعٍ لحلحلة الأزمة، فيما تجد الإدارة الجديدة نفسها مكبلة في أي خطوة تقدم عليها في هذا الملف الشائك.
وبينما تعاني إدارة بايدن من تباين في الآراء بشأن إستراتيجية التعامل مع طهران، إذ بالأخيرة تتمسك بموقفها السابق الخاص بعدم المضي قدمًا في مساعٍ تقدمية دون رفع العقوبات المفروضة عليها من النظام السابق بشكل كامل، وهو ما يزيد المشهد تعقيدًا.
العهد الذي قطعه بايدن على نفسه خلال حملته الانتخابية بالعمل على حل هذا الملف يواجه اليوم صعوبات وتحديات تحولت إلى حقل ألغام قد يجعل العودة إلى الاتفاق النووي كلامًا مرسلًا، لا يتجاوز الحبر الذي كُتب به على الورق، الأمر الذي يضع الرئيس الجديد في مأزق حقيقي مع أول اختبار رسمي له في أيام ولايته الأولى.
انقسام داخل إدارة بايدن
هناك حالة من تباين الآراء داخل إدارة بايدن بشأن التعامل مع هذا الملف، ففريق يرى أن التعاطي معه “أولوية قصوى عاجلة” تتطلب التحرك الفوري، كما جاء على لسان مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، فيما ذهب آخرون إلى أن الأمر لا يحتاج التسرع ويتطلب وقتًا طويلًا.
موقع “بوليتيكو” الأمريكي في تحليل له استعرض حالة الانقسام في الشارع الأمريكي بخصوص الاتفاق، فيما كشفت عن الإشارات التي بعث بها الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء بخصوص نواياهم حال إصرار بايدن على العودة للاتفاق مرة أخرى.
وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أكد في توضيح له قبل يومين أن بلاده لن تعود إلى الاتفاق النووي الإيراني إلا بوفاء طهران بالتزاماتها التي تراجعت عنها، مضيفًا في مؤتمر صحفي له: “لم تعد إيران تحترم التزاماتها على جبهات عدة. إذا اتخذت هذا القرار بالعودة إلى التزاماتها فسيستغرق الأمر بعض الوقت، وثمة حاجة أيضًا إلى وقت لنتمكن من تقييم احترامها لالتزاماتها. نحن بعيدون من ذلك، هذا أقل ما يمكن قوله”.
فريق الأمن القومي لبايدن يرى أن إقناع إيران بالعودة إلى التزاماتها بالاتفاق النووي لعام 2015، ثم الضغط من أجل التوصل إلى ملحق للاتفاق يضع حدودًا أكثر صرامة، وهو أحد الوعود الرئيسية في السياسة الخارجية للرئيس الجديد، مسألة تحتاج إلى وقت طويل.
هذا الفريق يضع تصورًا بشأن المحلق المقترح إضافته للاتفاق السابق، منوًها أن هدفه الرئيسي “إطالة أمد القيود الصارمة على الأنشطة النووية الإيرانية” التي من المتوقع تخفيفها تباعًا طبقًا لبنود الاتفاق، ومنها: الحد من كمية اليورانيوم المسموح لإيران بتخزينها، وتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67%، وعدد أجهزة الطرد المركزي التي يمكن لطهران تشغيلها.
وفي مقابل ذلك يتطلب الأمر قيام بايدن بمناورات دبلوماسية لإقناع الجانب الإيراني بمفردات الملحق الجديد، ومن بين تلك المناورات، إزالة العقوبات النووية المفروضة عليها، لكن هذا الأمر يتطلب البحث عن وسائل ضغط جديدة تجنبًا لاستغلال إيران هذه الخطوة سلبيًا، كأن يتم التلويح بفرض عقوبات جديدة أو تقديم مغريات اقتصادية للإيرانيين.
إصرار طهران على إلغاء كل العقوبات أو على الأقل تأجيلها قبل العودة لطاولة المفاوضات مرة أخرى، سيجعل من تمسك بايدن بالعقوبات المفروضة سلفًا، عائقًا أمام حلحلة الأزمة
فخاخ ترامب
العديد من الفخاخ التي تركها ترامب باتت تمثل تهديدًا كبيرًا لتحقيق بايدن لوعده الانتخابي في ملف الاتفاق، أبرزها وفق ما ذهب الموقع الأمريكي: رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية، كذلك رفع العقوبات عن البنك المركزي الإيراني المتهم بتمويل المليشيات الموالية لطهران في الخارج.
وهنا يجد بايدن نفسه في مأزق، بين الإقدام على تفكيك تلك الفخاخ التي تجاوز فيها التصعيد الترامبي حدوده القصوى، وهو الأمر الذي ربما يقابل بمعارضة شديدة، حتى من بين الديمقراطيين أنفسهم، في ظل تصاعد المخاوف من عودة طهران لممارساتها العدائية مرة أخرى، وهو ما سيكون كلفته باهظة.
وفي الجانب المقابل فإن إصرار طهران على إلغاء كل العقوبات أو على الأقل تأجيلها قبل العودة لطاولة المفاوضات مرة أخرى، سيجعل من تمسك بايدن بالعقوبات المفروضة سلفًا، عائقًا أمام حلحلة الأزمة، وبذلك يفشل الرئيس الجديد في تنفيذ أول وعد انتخابي له، ما سيكون لذلك من ردات شعبية على المستوى الداخلي والخارجي على حد سواء.
تحد آخر قد يعقد المسار التفاوضي، يتمحور حول الضغوط الكبيرة المتوقع أن تواجهها الإدارة الأمريكية من “إسرائيل” وحلفائها في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم السعودية والإمارات، من أجل الإبقاء على العقوبات المفروضة على إيران أطول فترة ممكنة لتقليم أظافرها الإقليمية خلال المرحلة المقبلة.
تلك الأجواء الملبدة بسحب القلق والمخاوف والتحديات متشعبة الأطراف ستضع فريق بايدن في موقف لا يحسد عليه، ومن ثم عليه التصرف بحيطة وحذر بخصوص التراجع عن العقوبات المفروضة على إيران، بما يحفزها على العودة لمسار التفاوض من جديد وفي نفس الوقت لا يفسح لها المجال لزيادة نفوذها النووي في المنطقة.
يجد بايدن نفسه مكبلًا عن أي تحرك إيجابي في أول اختبار له منذ ولايته قبل عشرة أيام، لتبقى فخاخ ترامب التحدي الأكبر في مسيرة الرئيس الجديد الذي لن يجد بدًا من تحمل خطايا الإدارة السابقة
إيران ترفض المقترح الفرنسي
الأربعاء الماضي أكدت الإدارة الأمريكية نيتها العودة للاتفاق الذي انسحب منه ترامب في 2018، غير أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أوضح أن بلاده لن تعود إلى المفاوضات إلا إذا وافقت طهران مجددًا بكل التزاماتها بموجب الاتفاق السابق.
لم يمر أكثر من يوم على هذا التصريح حتى خرج وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مؤتمر صحفي عقده خلال زيارته لإسطنبول، أول أمس الجمعة، ليرفض الشروط الأمريكية معتبرًا أن الطلب الأمريكي بعدول بلاده عن تسريع برنامجها النووي قبل أن ترفع واشنطن العقوبات “غير عملي ولن يحدث”.
الرفض الإيراني لم ينسحب على الطلب الأمريكي فقط، بل تجاوز ذلك إلى الاقتراح الفرنسي بضم بعض الأطراف الخارجية للاتفاق، في إشارة للسعودية التي طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حضورها خلال أي محادثات جديدة بين إيران والقوى الموقعة على اتفاق 2015.
وكانت السعودية والإمارات قد طلبتا مشاركة دول الخليج في المحادثات المستقبلية مع طهران، لافتة إلى ضرورة أن تشمل جولة المفاوضات القادمة الحديث عن برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني ودعم طهران لوكلاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط، هذا بخلاف جماعة الحوثي في اليمن.
الخارجية الإيرانية في بيان لها، أمس السبت 30 من يناير/كانون الثاني 2021، رفضت أي تغييرات جديدة على المشاركين في الاتفاق، فيما نقلت وسائل إعلام رسمية عن المتحدث باسم الخارجية قوله: “الاتفاق النووي اتفاق دولي متعدد الأطراف صادق عليه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 وهو غير قابل للتفاوض كما أن الأطراف فيه واضحة وغير قابلة للتغيير”.
طهران ترى أن الضغوط الفرنسية لضم السعودية لها أهداف اقتصادية تتمثل في القلق على مبيعات الأسلحة الفرنسية لدول الخليج، وهو ما أشار إليه المتحدث باسم الخارجية بقوله “إذا كان المسؤولون الفرنسيون قلقين على مبيعاتهم الضخمة من الأسلحة إلى دول الخليج العربية، فمن الأفضل أن يعيدوا النظر في سياساتهم”، وتابع “الأسلحة الفرنسية، إلى جانب أسلحة غربية أخرى، لا تتسبب في مذبحة لآلاف اليمنيين فحسب، بل هي أيضًا السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة”.
وهكذا يجد بايدن نفسه مكبلًا عن أي تحرك إيجابي في أول اختبار له منذ ولايته قبل عشرة أيام، لتبقى فخاخ ترامب التحدي الأكبر في مسيرة الرئيس الجديد الذي لن يجد بدًا من تحمل خطايا الإدارة السابقة، وهو ما سيتطلب جهدًا دبلوماسيًا مضاعفًا، فهل ينجح بايدن في تفجير تلك الفخاخ؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.