تعود خلافات هيئة التفاوض السورية إلى الواجهة مجددًا، التي بدأت تظهر للعلن بالتزامن مع بدء أعمال الجولة الخامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية السورية الإثنين 25 من يناير/كانون الثاني، حيث كانت أولى جلساتها المنعقدة في جنيف، بحضور وفد من النظام السوري ووفد من هيئة التفاوض السورية، ووفد أيضًا من المجتمع المدني، للبدء بالمفاوضات لإجراء عملية سياسية تفضي إلى انتقال سياسي حقيقي وشامل يلبي تطلعات جميع السوريين، إلا أن السوريين في الداخل يرفضون بشكل قاطع أعمال هذه الهيئة واللجنة الدستورية أيضًا.
الجولة الخامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية.. ولا شيء جديد
الجولة الخامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية
تعتبر هذه الجولة مهمة جدًا لأنها ستناقش المبادئ الدستورية، وهذا ما صرح به وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، قائلًا: “للمرة الأولى سيتم البدء بنقاش المضامين الدستورية في اجتماعات اللجنة، والجولتان الأخيرتان حققتا توافقًا على الأجندة بين وفدي النظام والمعارضة”.
ولم تختلف كثيرًا الجولة الخامسة من المفاوضات عن سابقاتها، فقد بدأ وفد النظام السوري بإغراق الجلسات بتفاصيل فارغة خارج نطاق عمل اللجنة الدستورية، مع المماطلة المستمرة ومحاولة عرقلة عمل اللجان خلال الجلسات السابقة.
وركز وفد النظام على السيادة الوطنية وربطها بمحددات داخلية وخارجية، وناقشت مداخلات أعضاء الوفد المحددات الخارجية، كما ربطت الموضوع باستقلال القرار الوطني وخروج القوى الأجنبية من سوريا والضغوطات الخارجية، مع ضرورة رفع العقوبات أحادية الجانب عن سوريا.
بينما قدم وفد هيئة التفاوض السورية عددًا من المداخلات بشأن التعددية السياسية وسيادة القانون والحق في التنظيم واستقلالية النقابات والمنظمات المدنية، وربطت بعض مداخلات أعضاء الهيئة هذه المبادئ بمحددات منها السيادة، التي اعتبرها البعض صفة أساسية للدولة، بينما ركز المجتمع المدني على مقترحين أيضًا: السيادة وضرورة بناء تفاهم بشأن الإطار السياسي للدولة قبل الخوض في بقية المبادئ الأخرى.
تصدعات داخلية في هيئة التفاوض ووفد المعارضة باللجنة الدستورية
تشهد هيئة التفاوض السورية خلافات وانقسامات عديدة بين أعضائها باعتبارها الجسم السياسي الأبرز الذي يمثل المعارضة السورية سياسيًا، بالتزامن مع اقتراب أعمال الجولة الخامسة من المفاوضات التي تجري نهاية يناير/كانون الثاني، ما قد يسبب موقف ضعيف الحضور والتنوع لوفد المعارضة السورية في مفاوضات اللجنة الدستورية.
تنضوي عدة مكونات وتجمعات سورية سياسية تحت هيئة التفاوض السورية التي تتكون من 37 عضوًا، 8 منهم من أعضاء الائتلاف الوطني المعارض و7 أعضاء من الفصائل من الفصائل العسكرية و4 أعضاء من منصة موسكو و4 أعضاء من منصة القاهرة و5 أعضاء من هيئة التنسيق الوطنية و8 أعضاء مستقلين وعضو واحد من المجلس الوطني الكردي.
وتشارك هيئة التفاوض في مفاوضات اللجنة الدستورية السورية، حيث تمثل وفد المعارضة برئاسة هادي البحرة، وكانت قد انبثقت هيئة التفاوض عن محادثات مؤتمر “الرياض 1″، في ديسمبر/كانون الأول 2015، وحينها تم تعريفها بأنها ستكون المرجعية السياسية لتوحيد المعارضة السورية، لكن هذه الوحدة لم تصل إلى مبتغاها خلال السنوات الماضية، بسبب اختلاف دعم أعضائها، حيث بدا جليًا أن كل طرف منها يرتبط بدولة معينة ويتعامل بما يناسب سياستها، أي أنها متشعبة ومتنوعة الأهداف، ما جعلها تشهد خلافات متواصلة وغير واضحة، لا سيما أنها لم تغير أي شيء ملموس.
في تفاصيل الخلاف
يعود سبب الخلاف الحاصل داخل هيئة التفاوض العليا، إلى منصتي القاهرة وموسكو وهيئة التنسيق الوطني التي أرسلت رسالة إلى المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون وطالبته بالتدخل لحل الانقسام الموجود بين أعضاء هيئة التفاوض للحفاظ على وحدة اللجنة الدستورية واستمرارها، كما أرسلت الرسالة أيضًا إلى سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي والأمير فيصل بن فرحان آل سعود وزير الخارجية السعودي، بالإضافة إلى سامح شكري وزير الخارجية المصري.
وتحدثت منصتا موسكو والقاهرة وهيئة التنسيق، عن طرف معطل لعملهم ويسيطر على هيئة التفاوض السورية، بالإشارة إلى الائتلاف الوطني السوري الذي يسيطر على هيئة التفاوض السورية ويعقد اجتماعات لها طوال سنة كاملة دون حضورهم.
ما دفع وزارة الخارجية السعودية إلى إرسال مذكرة إلى أمانة سر هيئة التفاوض، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي حيث تقول فيها: “إنه وعلى ضوء استمرار تعطيل أعمال هيئة التفاوض السورية فقد تقرر تعليق عمل موظفي الهيئة مع نهاية شهر يناير الجاري، وذلك لحين استئناف الهيئة عملها”.
وأضافت الخارجية السعودية “بعض مكونات هيئة التفاوض السورية وهي هيئة التنسيق ومنصة موسكو ومنصة القاهرة، المتضمنة رفضها لقرارات صادرة عن اجتماعات غير شرعية للهيئة والمخالفات القانونية والنظامية للقرار”، وطالبت الخارجية توضيح ذلك.
ممثلو منصتي موسكو والقاهرة في روسيا
وللأمر ذاته أيضًا استدعى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ممثلي منصتي القاهرة وموسكو، للاجتماع في موسكو، حيث قال عضو منصة موسكو، مهند دليقان لموقع تليفزيون سوريا: “زيارة موسكو في ظروف الانقسام الراهن كانت ضرورية لبحث عمل اللجنة الدستورية”.
ويبدو أن التشعبات وتبعية أعضاء هيئة التفاوض السورية لعدة دول ساهمت في حدة الخلافات، التي ترجمتها الوقائع التي حدثت مؤخرًا، من أبرزها لقاء أعضاء منصتي موسكو والقاهرة بوزير الخارجية الروسي، بينما تدل الخلافات على عدم قدرة المعارضة السياسية على ضبط نفسها حتى الوصول إلى مبتغاها.
وتشير التطورات السياسية إلى السعي الدولي الدؤوب خلف ضمان مصالحها عبر استخدام أعضاء المعارضة في خدمتها، لا سيما أن موسكو تسعى إلى زعزعة هيئة التفاوض وإفشال عملها في اللجنة الدستورية، الأمر الذي سيدفعها إلى الخوض في مضمار جديد من الحرب على المعارضة السورية.
كما ترتبط أسباب التصدعات التي تشهدها هيئة التفاوض بعام 2019، عندما بدأ الحديث عن خلافات تتعلق بما يسمى “كتلة المستقلين”، التي لا تزال آثارها قائمة حتى الآن، حيث نشأت أزمة كتلة المستقلين في هيئة التفاوض، بعد استضافة السعودية عدد من السوريين لاستبدالهم آنذاك، بمجموعة المستقلين القدامى في هيئة التفاوض، في محاولة من السعودية للاحتفاظ بنفوذها داخل الهيئة، إلا أن هذا التحرك تسبب بخلافات كبيرة ما زالت تعصف بهيئة التفاوض العليا.
الخلافات التي تشهدها هيئة التفاوض السورية ليست جديدة على تشكيلات المعارضة السياسية التي فقدت إمكانية الوصول إلى مبتغاها طيلة السنوات الماضية، وكانت بعيدة كل البعد عن سوريي الداخل وتوجهاتهم، لأنها فشلت في تمثيل السوريين وتنفيذ مطالبهم خلال عقد من الزمن مضى على الثورة السورية تخللها موقف قوي على الأرض وآخر ضعيف، في ظل التبعية الدائمة للمعارضة السورية، للدول العاملة في الشأن السوري التي تسعى إلى تلبية مطامعها.
هيئة التفاوض تحاول الالتفاف على القرار 2254
السوريون في الداخل: يرفضون هيئة المفاوضات وأعمال اللجنة الدستورية
بالتزامن مع بدء أعمال اللجنة الدستورية خرج السوريون في مناطق سيطرة المعارضة السورية الإثنين 25 من يناير/كانون الثاني بوقفات احتجاجية متفرقة تعبر عن رفضهم التام لمفاوضات اللجنة الدستورية، داعين كل السوريين إلى اتخاذ الموقف ذاته، لا سيما أنها التفاف على قرار مجلس الأمن الخاص بسوريا 2254.
أجرى “نون بوست” عدة مقابلات مع السوريين الذين يقيمون داخل الأراضي السورية، للحديث عن آرائهم بخصوص اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض العليا التي تدعي تمثيلهم دوليًا، وبدت غالبية الآراء تصب في اتجاه واحد هو ضرورة إشراك السوريين والهيئات والتجمعات السياسية السورية، الداخل السوري في القرار وليس الفصائل فقط، إلى جانب الالتزام بالقرار 2254 الخاص بسوريا، الذي يقضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي.
السوريون يرفضون أعمال اللجنة الدستورية
يقول عضو نقابة المحامين الأحرار يوسف حسين خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عدم اكتراث المجتمع الدولي بالمأساة السورية وتنفيذ القرارات الدولية أعطى الفرصة للعبث بالقرارات الدولية وتجزئتها إلى سلال دون القدرة على إخراج معتقل واحد رغم وجود كل هذه اللجان التي أُحدثت للحل السوري”.
وأضاف “تشكيل لجنة التفاوض واللجنة الدستورية كان التفافًا على تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسوريا ودعم لنظام الأسد وروسيا في كسب الوقت والمماطلة في الحل وإعطاء الأسد مزيد من الوقت للقتل والتدمير ليس إلا، والحل في سوريا يكون بتطبيق القرار 2254 الذي يقضي بإقامة هيئة حكم انتقالي قبل البدء بكتابة الدستور، ومن غير المنطقي أن يشارك مجرم حرب بكتابة دستور لبلد قتل أهله وشردهم ودمر مدنهم”.
وأكد المحامي قائلًا: “إن يكن للسوريين خيار في اختيار هيئة التفاوض أو اللجنة الدستورية وإنما جاءت وفق توافقات وتفاهمات دولية ولا يوجد لثوار الداخل أي تمثيل وإنما اعتمدوا على عدد معين من ممثلي الفصائل”.
ويرى الصحفي محمود طلحة خلال حديثه لـ”نون بوست” أن الهيئة العليا للمفاوضات تضم الكثير من الأجسام السياسية من بينها منصة موسكو ومنصة القاهرة وغيرها، وهي لا تمثل السوريين وإنما فرضت عبر أجندات خارجية، ومن ذلك تم تهميش التجمعات السياسية في الداخل السوري، من أجل عرقلة وحدة القرار السوري النابع من الثورة السورية، وما تشهده من خلافات سببها الأجندات الخارجية.
وأضاف طلحة “الرفض القاطع للجنة الدستورية وهيئة التفاوض في الداخل السوري بسبب انحرافها والتفافها على الحل السياسي ودخولها في نقاشات مع نظام الأسد، عبر تعديلات جزئية في الدستور، وفي الوقت ذاته يستمر هذا النظام بالاعتقال والقصف والتهجير القسري، ولا يوجد هناك بادرة للحل طالما أن عملها هو مضيعة للوقت فقط”.
يبدو أن هيئة التفاوض العليا باتت أمام رفض شعبي واسع في الداخل السوري قد يساهم بشكل أو بآخر بسرعة عملية قبولها محليًا، لا سيما أنها لم تغير أي شيء ملموس على أرض الواقع في ظل أزمات متعددة تواجه السوريين في مختلف البلاد، بدءًا من التغيرات العسكرية في السيطرة على الأرض، بالإضافة إلى حملات التهجير والنزوح القسري الذي فرضته آلة الحرب الإجرامية التي تقودها روسيا والنظام على السوريين، المغيبين أصلًا عما يجري في أروقة السياسة.