خلال تدريبات القوات البحرية التركية التي كانت تحت مسمى مناورات “الوطن الأزرق” في 2019 وقفت السفن التركية أمام قبر خير الدين بربروس على سواحل بشكتاش في إسطنبول، وأطلقوا البوق ثلاث مرات، فيما قدم قادة السفن التحية العسكرية أمام المقبرة.
تلك المقبرة التي تفتح أبوابها لاستقبال الزائرين نصف يوم في الأسبوع قبيل مواعيد المناورات البحرية، فيما تفتح خمسة أيام في الأسبوع خلال إجراء المناورات، ما يشير إلى ما يمثله صاحب تلك المقبرة من إلهام ومصدر قوة للمجندين والقادة في البحرية التركية.
استطاع هذا القائد الفذ الذي وصلت شهرته الآفاق في إعادة رسم خريطة الخطوط الملاحية في القارات الثلاثة: آسيا وأوروبا وإفريقيا، فيما أصبح منارة يهتدي بها البحارة، ليس في تركيا وحدها، بل في مختلف دول العالم، إيمانًا بما قدمه هذا الرجل من إنجازات لم يسبقه لها أحد.. فمن هو خير الدين بربروس؟
في كنف البحار
نشأ خير الدين المولود عام 1478 في جزيرة لسبوس (اليونان حاليًّا) في أسرة بحرية أبًا عن جد، فوالده أبو يوسف نور الله يعقوب أغا كان يعمل بحارًا قبل أن يكون فارسًا في جزيرة ميديلي بعد فتحها، هذا بخلاف أخيه الأكبر عروج، أمير البحر المتوسط وأحد قادة البحرية العثمانية فيما بعد، الذي تبنى أخيه الأصغر بحريًا.
وهناك أيضًا إلياس وإسحاق، اللذين توجها إلى العلم الشرعي والفقه ودراسة علوم القرآن، وعليه يذهب المؤرخون إلى أن خير الدين نشأ في بيئة إسلامية خالصة، كان لها تأثيرها الكبير على مسار حياته بعد ذلك، حيث الالتزام والإتقان والمصابرة وبذل المال والنفس في سبيل الله.
عزم خير الدين الإفراج عن أخيه أثار استفزاز فرسان رودس الذين عذبوا عروج لفترة طويلة ثم انتقل بعدها للعمل للتجديف على ظهر إحدى السفن
عانق خير الدين البحر منذ صغر سنه مساعدًا لأخيه عروج، حيث كانا يعملان بالتجارة وينقلان البضائع بين جزر بحر إيجة وميديلي، وهو العمل الذي لم يرتق إلى طموح الشقيق الأكبر الذي آثر الذهاب إلى طرابلس الشام لتوسعة دائرة تجارته، إلا أنه وقع في أسر فرسان جزيرة رودس بعد اشتباكات وقعت بينهما أسفرت عن وفاة شقيقه إلياس.
وصل خبر مقتل وأسر إلياس وعروج لخير الدين الذي لم يتوان لحظة واحدة في الذهاب والتخطيط للثأر لمقتل أخيه وإطلاق سراح الآخر، وعلى الفور سافر إلى جزيرة “بودروم” (محافظة موغلا التركية) حيث كان له صديق هناك توسط إليه للإفراج عن أخيه مقابل أي مبلغ من المال.
عزم خير الدين الإفراج عن أخيه أثار استفزاز فرسان رودس الذين عذبوا عروج لفترة طويلة ثم انتقل بعدها للعمل للتجديف على ظهر إحدى السفن، لكن نجح في الهرب بعد 3 سنوات كاملة من الأسر، حين كان على متن السفينة التي كانت تحمل 100 أسير عثماني افتداهم السلطان بايزيد الثاني من ماله الخاص، وهو الأمر المعتاد له سنويًا.
بعد الأسر ذهب عروج إلى الإسكندرية حيث العمل بالتجارة هناك، وهناك كلفه السلطان قانصوة الغوري (الذي حكم مصر خلال الفترة من 1500- 1516) بقيادة أسطوله، فوافق على الفور، إلا أنه تعرض لإغارة من فرسان رودس فأحرقوا سفينته.
سنوات الصراع المرير
في كتابه “خير الدين بربروس.. والجهاد في البحر” يستعرض المؤلف بسام العسيلي، مسيرة 6 سنوات (1512-1518) خاضها خير الدين مع شقيقه عروج جهادًا في سبيل الله ضد الأساطيل الأوروبية، ودفاعًا عن دماء المسلمين وحرماتهم التي دُنست على أيدي الصليبيين في إسبانيا وغيرها من بلدان القارة العجوز.
ومن أبرز الملاحم التي خاضها خير الدين خلال تلك السنوات نصرته لأهل “بجاية” الجزائرية وإنقاذهم من حملات التعذيب التي كانوا يتعرضون لها هنالك في 1513، فحين علم أهل الجزائر بوجود الأخوين بربروس شكلوا وفدًا من علماء وأعيان “بجاية” ثم توجهوا إلى القائدين طالبين النصرة والدعم.
لم يتردد خير الدين في الاستجابة لنداءات أهل بجاية، فاتفق مع المجاهدين القريبين من المدينة على الالتقاء عند نقطة محددة على أسوار المدينة من أجل بدء الزحف، وبالفعل حضر 3 آلاف مجاهد وخرجوا مع القائد المغوار على رأس أسطول بحري يضم 5 سفن حربية محملة بالجنود والعتاد والسلاح.
وبينما كان الأسطول المسلم في عرض البحر باتجاه المدينة الجزائرية إذ بأسطول إسباني ضخم يعترض طريقه، مكون من 15 سفينة مسلحة، فرأى خير الدين صعوبة الدخول في اشتباك مع هذا الأسطول الذي استطاع الوصول إلى “بجاية” لتقديم الدعم للحامية الإسبانية هناك.
لم يستسلم القائد العثماني، وعلى الفور قام بعملية خداع ذكية، حيث تظاهر بالابتعاد بأسطوله عن الأسطول الإسباني للإيحاء بأنه في طريق العودة ولا يود الاشتباك، وهنا توهم الإسبان بأن الطريق بات خاليًا أمامهم، فساروا بأريحية نسبية وتخلوا عن الحيطة والحذر والوضع الاستعدادي السابق.
احتل خير الدين مكانة كبيرة لدى أهل الجزائر وتونس لا سيما الفقراء منهم، فيقول ناقلًا عنهم “لقد كان الأهالي يحبوننا كثيرًا، وبلغوا من حبهم لنا أنهم كانوا قلقين من عدم عودتنا مرة أخرى إلى تونس”
في هذا الوقت رأي خير الدين أن بعض أسطول الإسبان أصبح في مرمى مدفعيته، فاستهدفه في الحال، ووقعت اشتباكات عنيفة، وفي البداية حقق العثمانيون انتصارًا كبيرًا على الإسبان، لكن خلافًا في وجهات النظر تسبب في خسارتهم للمعركة وتكبيدهم العديد من الخسائر.
كان عروج يرى مهاجمة المرسى والقلعة ببجاية من أجل الاستيلاء على بقية السفن، فيما أراد خير الدين الرجوع إلى تونس والاكتفاء بالسفن التي غنموها لحين إعداد أسطول يتناسب وحجم أسطول العدو، لكن الأخ الأكبر أصر على رأيه وأعطى أوامره بالهجوم فكانت الهزيمة هي النتيجة.
ورغم أن النصر لم يكن حليف خير الدين ورجاله، فإن المعركة وشراستها كانت جرس إنذار لأوروبا بأن موازين القوى في المتوسط لم تعد كما كانت في الماضي، فالأسطول العثماني ممثلًا عن المسلمين بات لاعبًا رئيسيًا في الساحة ولا بد من التعامل معه وفق معادلة جديدة.
وفي ربيع 1515 خرج خير الدين على رأس أسطول مكون من 8 مراكب لنصرة المسلمين في الأندلس، حيث كانوا يعانون من التعذيب والتنكيل، وقد وصف حالهم في مذكراته قائلًا: “كانت المدينة الإسلامية غرناطة قد سقطت قريبًا بيد الإسبان. كان الإسبان يقومون بمظالم كبيرةٍ في حق المسلمين الذين كان الكثير منهم يعبدون الله في مساجد سرية قاموا ببنائها تحت الأرض، لقد دمر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد وصاروا كلما عثروا على مسلمٍ صائمٍ أو قائمٍ إلا وعرّضوه وأولاده للعذاب أو الإحراق”.
واستطاع الأسطول العثماني نقل آلاف المسلمين الأندلسيين إلى الجزائر وتونس، وهم في طريق العودة استطاعوا غنم الكثير من السفن الإسبانية والبرتغالية في عرض البحر المتوسط، كما استولوا كذلك على بعض الجزر المحتلة على سواحل تونس.
احتل خير الدين مكانة كبيرة لدى أهل الجزائر وتونس لا سيما الفقراء منهم، فيقول ناقلًا عنهم “لقد كان الأهالي يحبوننا كثيرًا، وبلغوا من حبهم لنا أنهم كانوا قلقين من عدم عودتنا مرة أخرى إلى تونس، خصوصًا الفقراء منهم، الذين كانوا ينتظرون رجعونا بلهفة وترقب، قمنا بتوزيع القمح مجانًا على الفقراء أما بقية الغنائم فقد قمنا ببيعها”.
لم ينس أمير البحار العثماني ما حدث في بجاية، إلا أنه استطاع أن يعالج الأخطاء التي وقعوا فيها في المعركة الأولى، وللمرة الثانية قدم إليه وفد من بجاية، حملوا رسالة من أهالي المدينة جاء فيها وفق ما ذكر خير الدين في مذكراته: “إن كان ثمة مغيث فليكن منكم أيها المجاهدون الأبطال. لقد صرنا لا نستطيع أداء الصلاة أو تعليم أطفالنا القرآن الكريم لما نلقاه من ظلم الإسبان. فها نحن نضع أمرنا بين أيديكم. جعلكم الله سببًا لخلاصنا بتسليمه إيانا إليكم، فتفضلوا بتشريف بلدنا وعجلوا بتخليصنا من هؤلاء الكفار (يقصدون الإسبان)”.
بعد استشهاد الشقيق الأكبر عروج ريس الذي كان واليًا على الجزائر عام 1518م أجمع البحارة على تسليم القيادة لخير الدين، إلا أنه كان متأثرًا جدًا بوفاة شقيقه، معلمه الأول وراعيه منذ الصغر
استقل خير وشقيقه عروج أسطولًا قوامه 10 سفن و150 مدفعًا وعشرات السفن الشراعية بجانب 2033 بحارًا، ثم توجهوا إلى بجاية، وفي وقت لا يتجاوز ثلاث ساعات ونصف، قضى العثمانيون تقريبًا على نصف مقاتلي الإسبان، في معركة أثارت الرعب في نفوس الأوروبيين، رغم أن فتح القلعة بشكل نهائي والاستيلاء عليها لم يتم إلا في عهد صالح ريس عام 1555.
ولاية الجزائر
بعد استشهاد الشقيق الأكبر عروج ريس الذي كان واليًا على الجزائر عام 1518م أجمع البحارة على تسليم القيادة لخير الدين، إلا أنه كان متأثرًا جدًا بوفاة شقيقه، معلمه الأول وراعيه منذ الصغر، فحاول الابتعاد نظرًا لعدم قدرته أن يكون بديلًا لأخيه، مقررًا العودة إلى إسطنبول لمواصلة الجهاد.
إلا أنه وبعد العديد من الضغوط وحدوث بعض المناوشات في الداخل كتمرد بعض القبائل ومحاولة الاستئثار بالحكم، تراجع عن موقفه وقبل الولاية، لا سيما بعد هجوم الإسبان على تلمسان، ما أدى إلى تمرد تنس وشرشال وعودة حكامهما القدامى، كما ذكر المؤرخ أحمد توفيق المدني في كتاب”حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر أسبانيا 1492-1792).
رفض البحار المخضرم أي محاولات تمرد على نظام الحكم في الجزائر لا سيما بعدما سعى أحمد بن القاضي الحفصي لتأليب الأهالي والقبائل ضد بربروس لإخلاء الساحة أمامه نحو العرش، وهنا قال خير الدين عبارته الشهيرة ردًا على محاولة سلطان تونس انتزاع حكم البلاد مرة أخرى “الأمر كله لله يعز من يشاء ويذل من يشاء، لقد كان سلطان تونس غافلًا عن هذا الأمر الدقيق، وبسبب أخطائه وخطاياه أذله الله.. الجزائر الآن تحت سلطتي ولا يمكن لأي قوة بشرية أن تنتزعها مني، لأن هذا البلد ليس ملكًا لي بل ملك لسلطاننا المعظم سليم خان، وحتى اليوم لم يسمع أحد بأن بلدًا تم انتزاعه من آل عثمان”.
أمير الأسطول العثماني
في عام 1533 استدعى السلطان سليمان القانوني، خير الدين، من الجزائر، طالبًا منه الحضور إلى إسطنبول، وفي طريقه استولى القائد الشجاع على العديد من الغنائم والسفن، ليدخل عاصمة الدولة العثمانية محملًا بالنصر والمغانم الكثيرة التي أهداها للسلطان والمقربين منه.
وبعد استقبال سلطاني حافل بحاكم الجزائر عينه السلطان “قبطان داريا” على الأسطول العثماني، أي أمير عليه، مع الإبقاء على منصبه كوال للجزائر وإن طُلب منه تعيين من يراه مناسبًا لإدارة شؤون الولاية نيابة عنه لحين عودته في أي وقت.
كان خير الدين يتمتع بمكانة ومنزلة رفيعة لدى السلطان، نظرًا لما قام به من دور محوري في توسعة نفوذ الدولة العثمانية من خلال حروبه التي خاضها ضد أساطيل أوروبا في البحر المتوسط وشمال إفريقيا، بل إن السلطان يحفظ له جميله في الحفاظ على السيطرة العثمانية على ولايات شمال القارة السمراء رغم موجات التمرد المتتالية التي تتغذى من حكومات أوروبا بين الحين والآخر.
لم يكن خير الدين بربروس قائدًا بحريًا ملك البحر المتوسط شرقًا وغربًا فقط، بل كان نجمًا لامعًا في سماء البحرية العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي ومدرسة قدمت أروع المثل للقتال في سبيل الله
يصف بربروس استقبال السلطان له قائلًا: “لقد كان استقبال السلطان لنا في غاية المهابة والتعظيم، فقد اجتمع مجلس الديوان السلطاني في جلسة خاصة، حضرها كافة الوزراء الذين أخذوا أمكانهم في صفين بمحازاة السلطان، ولم يتخلف عن ذلك سوى الصدر الأعظم مقبول باشا إبراهيم الذي كان متواجدًا في حلب”.
وأضاف “وفي أثناء الاجتماع خاطبني السلطان قائلًا: اسمع ياباشا.. أريد أن أجلعك قبطان داريا لتتولى إدارة أسطولنا السلطاني وقيادته في حروبك المظفرة، ولتعلم بأنني لن أنزع منك ولاية الجزائر، بل ستحتفظ بها بصفتك بيلر بايا عليها”(أمير على جميع أمرائها).
وبعد انتهاء الاجتماع خلا السلطان بقائد أسطوله البحري طالبًا منه غزو إسبانيا التي كانت تتوسع في مياه المتوسط وتمثل تحديًا كبيرًا أمام النفوذ العثماني في أوروبا وإفريقيا، وبالفعل بدأ خير الدين في الإعداد لمحاربة الأسطول الإسباني، حيث لقنه دروسًا قاسية في فنون القتال البحري.
استطاع بربروس فتح العديد من الولايات والجزر والموانئ على الشريط الحدودي لشمال إفريقيا لا سيما في تونس والجزائر بجانب ليبيا، هذا بخلاف اشتراكه في الحروب العظمى الأخرى على رأسها الحرب العثمانية – البندقية (1537 – 1540).
ظل أمير الأسطول العثماني يقاتل ويجاهد في سبيل الله حتى بلغ الخامسة والسبعين من عمره، حينها وبعد أن وهن الجسد، تقاعد في داره على شاطئ بيوكديري بإسطنبول (شمال غرب البوسفور) فيما بدأ يكتب مذكراته التي بلغت خمسة أجزاء بناءً على طلب من السلطان.
وفي الـ4 من يوليو/تموز 1546 توفي البطل المجاهد ليدفن في الضريح الذي بناه المعماري العالمي سنان باشا عام 1541 في بشكتاش مجاورًا للمتحف البحري حاليًّا في الجزء الأوروبي من إسطنبول، ليظل هذا القبر مزارًا لكل المهتمين بالبحرية من مختلف دول العالم.
وتخليدًا لذكرى بربروس أقيم النصب التذكاري لضريحه عام 1944، كما أطلق اسمه على الرصيف البحري في منطقة بشكتاش، هذا بجانب إطلاق اسمه على عدة سفنٍ في البحرية التركية، وأنتج فيلمٌ تركي باسم “بربروس خير الدين باشا” يوثق سيرته وتاريخه عام 1951.
أخيرًا.. لم يكن خير الدين بربروس قائدًا بحريًا ملك البحر المتوسط شرقًا وغربًا فقط، بل كان نجمًا لامعًا في سماء البحرية العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، ويعود الفضل له في إعادة هيكلة العديد من دول شمال إفريقيا، وينسب له أنه الذي رسم للجزائر شخصيتها التي دخلت بها العصر الحديث.