لا يمكن أن تنجح ثورة شبابية سلمية أو عسكرية في بلاد ما، وهناك عدو يتربص بالجميع وينتظر فرصة لاستغلال تحركات الشباب أو المعارضة والاندساس بينهم بهدف الوصول إلى مآربه، لا سيما إن كان هذا العدو يتمتع بدعم أجنبي لا محدود، وحارب الدولة مرات عدة، بهدف السيطرة عليها لتغيير هوية الشعب ونظام الحكم في الدولة.
في 27 من يناير/كانون الثاني 2011، خرج بشكل عفوي مجموعة من الطلاب الشباب في جامعة صنعاء إلى شارع الجامعة بالعاصمة اليمنية، مطالبين بالتغيير، متحمسين بنجاح المطالب كما نجحت مطالب الشباب في تونس وبعدها مصر، ومتسلحين بإيمانهم وعزيمتهم بإنهاء الأزمة السياسية التي كانت تتصاعد يوميًا بين المعارضة (مجموعة أحزاب يمنية متحالفة – اللقاء المشترك) والحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) برئاسة الراحل علي عبد الله صالح.
لم يدرك شباب ثورة يناير، أنهم في بلاد وصفها علي عبد الله صالح الرئيس الراحل بأن من يحكمها كأنما يرقص على رؤوس الثعابين، وقد تتحول نتائج الثورة إلى بحور من الدماء ووطن ممزق، حتى حينما دعا الحوثيون إلى مناصرة الشباب وساندهم في ذلك حزب الإصلاح اليمني (ثاني أكبر الأحزاب اليمنية)، وسحبوا البساط من تحت أقدام الشباب.
لسنا هنا في تنظير ثورة الشباب في اليمن ولا هجائها، ولا يمكن أن نحكم عليها أنها سبب ما حل باليمن حتى اللحظة، لأنها كانت ضحية أحزاب تحلم بالقضاء على حزب المؤتمر الشعبي العام لتحكم البلاد، وجماعة خرجت من كهوف صعدة هدفها التخلص من الجميع، استقبلهم الشباب بحسن نية، لأنهم كانوا ينشدون دولة المساواة، رغم أنهم كانوا يدركون أنهم في دولة من دول العالم الثالث، وشعب يمتلك السلاح ضعف سكانه ثلاث مرات.
إضعاف الجيش اليمني
حينما زادت الاحتجاجات الشعبية في اليمن ضد حكم صالح وأصرت على رحيله من السلطة، انقسم الجيش، وهو ما أضعف الجيش الذي كان يعد من أقوى خمسة جيوش في المنطقة، وكانت نتائج هذا الضعف سيطرة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على مساحات من الأرض في شرق البلاد.
لم تكن فكرة هيكلة الجيش في اليمن، تغيير القيادات العسكرية في البلاد والقريبة أو الموالية لعلي عبد الله صالح، وإنما كان هدفها تكوين جيش جديدة يلائم الذوق العام لإيران ومليشياتها
في هذه الأثناء كان المسلحون الحوثيون يتقدمون في مناطق محافظة صعدة شمالي اليمن ويسقطون المديرية تلو الأخرى، وكان تنظيم القاعدة يسيطر على مساحات واسعة في حضرموت وشبوة شرقي اليمن، بينما كان الجيش اليمني منشغلًا بالأزمة التي تعصف بالبلاد، لكن الشباب والأحزاب اليمنية لم تعلن موقفها من ذلك، واستمرت في اتهام نظام صالح بتسليم تلك المناطق للقاعدة والحوثيين من باب المكايدة السياسية والغباء في إدارة الأزمة وتشخيصها من أجل الخروج باليمن إلى بر الأمان، رغم أنهم وصلوا لقناعة أن مرحلة جديدة وقريبة ستغير ملامح اليمن، غير أنهم لم يضعوا الحسابات لما بعد صالح.
في 27 من فبراير/شباط 2012، تنحى صالح عن الحكم، في إطار خطة للانتقال السياسي تدعمها دول خليجية، وسلم الحكم لنائبه عبد ربه منصور هادي ليصبح رئيسًا مؤقتًا ويشرف على حوار وطني لوضع دستور شامل على أساس اتحادي والحفاظ على مكاسب كل الأطراف لتبقى الدولة اليمنية متماسكة، غير أنه استمع لنصائح خبيثة بأهمية هيكلة الجيش اليمني.
لم تكن فكرة هيكلة الجيش في اليمن، تغيير القيادات العسكرية في البلاد والقريبة أو الموالية لعلي عبد الله صالح، وإنما كان هدفها تكوين جيش جديدة يلائم الذوق العام لإيران ومليشياتها في اليمن الذين أعدوا خطة بعيدة المدى، ما يعني أنه خلال الاحتجاجات الشعبية، وبينما كان يحلم البعض بدولة المساواة والقانون، كان آخرون يحلمون بالسيطرة على الحكم.
عندما أصدر عبد ربه منصور هادي، وفقًا لاتفاقيات مع الأحزاب اليمنية وهندسة إيرانية، أمرًا بتغيير كل القيادات العسكرية، واستبدالها بقيادات حزبية ليس لها ولاء للوطن، كان ذلك أول مسمار يدق في نعش الجمهورية، لكون تلك القيادات عملت على تسريح ما يقارب الـ75 ألفًا من قوات الجيش اليمني المدربة والمؤهلة على أعلى المستوى القتالي، واستبدلوهم بعناصر تابعة للأحزاب في اليمن (مدرسين ومجندين جدد)، وحظيت المليشيا الحوثية بحصة الأسد، حينما كان من نصيبها قيادات عسكرية في وزارة الدفاع والداخلية وإدراج عناصرها داخل الجيش اليمني والأمن وقوات مكافحة الإرهاب، ليشكل العدد الضخم من تلك العناصر فارقًا كبيرًا في السيطرة على صنعاء، دون خسائر بشرية، وكان ذلك بداية موت ربيع اليمن.
في 2014، وفي أثناء الخلاف الكبير بين الأحزاب اليمنية، عقب انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، تقدم الحوثيون بسرعة نحو العاصمة صنعاء، قادمين من صعدة، ليسيطروا على العاصمة في 21 من سبتمبر/أيلول من ذات العام، ويطالبون بالمشاركة في السلطة تحت تهديد السلاح، قدم لهم هادي تنازلات ضخمة لكنهم رفضوا ووضعوه تحت الإقامة الجبرية قبل أن يتمكن من الفرار.
تحالف دعم الشرعية
في 26 من مارس/آذار 2015، أعلنت المملكة العربية السعودية، تشكيل تحالف عربي لإعادة الشرعية في اليمن، لكن ارتكب التحالف أخطاءً جسيمةً، حينما وضع أكبر الأحزاب اليمنية (المؤتمر الشعبي العام) في قائمة مع الحوثيين، واضطر صالح رئيس الحزب للتحالف مع ألد أعدائه، للمناورة حتى يجد الفرصة للقضاء عليهم، لكن إصرار التحالف العربي على عداوته أضعف قوته ونفوذه في القبائل، وانتهى به المطاف إلى قتالهم وحيدًا حتى قتل في منزله.
تتهم الإمارات العربية المتحدة، حزب الإصلاح بالعمل على تقويض تحرير اليمن، من خلال إشعال معارك في المناطق المحررة
بعد مقتل علي عبد الله صالح على إيدي الحوثيين، لم يستغل التحالف العربي أو الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، احتضان المؤتمر الشعبي العام وتوحيد كل الأطياف اليمنية معه، ضد عدو الشعب والمنطقة والإسلام للقضاء عليهم عسكريًا وبأسرع وقت ممكن، غير أن الانتقائية في احتضان بعض القيادات المؤتمرية وتجاهل أهمها، كانت سببًا في تفريق هذا الحزب وانقسامه إلى خمسة أجنحة موزعة في عمان والقاهرة والإمارات والسعودية وصنعاء، وكان أحد أسباب الخلاف الداخلي في الحكومة الشرعية.
تحالفات سياسية وعسكرية
نتيجة لفشل هادي والتحالف العربي في استغلال مقتل علي عبد الله صالح، لتوحيد حزبي المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح (إخوان اليمن)، تعمق الخلاف أكثر بين أكبر حزبين في الساحة اليمنية، وهو ما جعل أجنحة من المؤتمر الشعبي وحزب الإصلاح تبحث عن تحالفات جديدة، تمكنها من إقصاء الآخر، فذهب بعض قيادات حزب الإصلاح إلى قطر وتركيا، وبعض قيادات المؤتمر الشعبي إلى الإمارات العربية المتحدة.
دربت الإمارات العربية المتحدة نحو 90 ألف جندي، تابعين لطارق صالح (حراس الجمهورية) والمجلس الانتقالي الجنوبي (ألوية العمالقة) والأولية التهامية (قوات محلية من محافظة الحديدة)، استطاعت هذه القوات التقدم سريعًا من عدن إلى الساحل الغربي في محافظة الحديدة غربي اليمن، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من السيطرة الكاملة على محافظة الحديدة، لولا اتفاقية ستوكهولم الموقعة بين الحكومة اليمنية والحوثيين المواليين لإيران في 13 من ديسمبر/كانون الأول 2018، إضافة إلى قوات سلفية (كتائب أبو العباس) في محافظة تعز وسط اليمن حررت مناطق واسعة من أيدي الحوثيين.
بينما دعمت قطر وتركيا قوات الحشد الشعبي في تعز وقوات في شبوة ومأرب، علمًا بأن قوات الحشد الشعبي في تعز، حاربت القوات التي دعمتها الإمارات (كتائب أبو العباس) وسيطرت على المناطق التي حررتها الكتائب، دون أن تتقدم إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، وهو ما فجر الخلافات داخل الحكومة الشرعية والإمارات العربية المتحدة.
تتهم الإمارات العربية المتحدة، حزب الإصلاح (إخوان اليمن) بالعمل على تقويض تحرير اليمن، من خلال إشعال معارك في المناطق المحررة، إضافة إلى المساهمة في إنقاذ الحوثيين من هزيمة محققة في الحديدة، حينما أبرموا اتفاقًا مع الحوثيين في ستوكهولم السويدية برعاية الأمم المتحدة دون ضمانات لتنفيذ الحوثيين بنود تلك الاتفاقية، إضافة إلى عدم التعامل مع ملف الحرب أو السلم بجدية على اعتبار أنهم من يتحكمون بالقرار السياسي والعسكري لشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي.
انتهى الخلاف بين الإمارات العربية المتحدة وحزب الإصلاح، بانسحاب أبو ظبي من التحالف العربي، مبقية على القوات التي دربتها في عدن، وسلمت مهمة ذلك للمملكة العربية السعودية.
ويتهم حزب الإصلاح، الإمارات العربية المتحدة، بدعم جماعات مسلحة خارج إطار الدولة اليمنية، وهو في اعتقادي اتهام سابق لأوانه، لأن ذلك أنشأ خلافات كبيرة، كانت انعكاساتها على الأرض، وذهب لصالح المليشيا الحوثية التي استغلت ذلك الخلاف، وانتزعت مناطق شاسعة من القوات الحكومية اليمنية، خصوصًا في مأرب ومحافظة الجوف.
الثورة بعد عقد من الزمن
كان ذلك ملخصًا لتعقيدات الأزمة السياسية والعسكرية في اليمن وأسباب فشل ثورة الشباب اليمني، التي أصبحت في نظر البعض، سببًا فيما آلت إليه الأوضاع في البلاد، فبعد عشر سنوات من الثورة اليمنية، تبخرت آمال الشباب أدراج الرياح، ولم يتحسن الوضع في اليمن واندلعت حربًا أهلية، وبسبب هذه الحرب تعرض ملايين اليمنيين للموت جوعًا.
المؤامرات سمة دائمة، لكن إذا الشعب أراد الحياة يومًا لا بد أن يستجيب القدر، وهذا بمعنى أن الشعوب أو الشباب ستبقى وهج التغيير السياسي
بعد هذه السنوات، أصبح شمال اليمن تحكمه إيران، ويتم فيه تغيير الهوية اليمنية والإسلامية وإنشاء نظام طائفي لن يكون خطره على اليمن فحسب، بل سيمتد ذلك الخطر إلى الجزيرة العربية وربما ما بعدها، وفي الوسط، جماعات محسوبة على دول خارجية وإقليمية، وفي الجنوب لا يختلف ذلك، بل الأمر قد يصل إلى إنشاء دولة، وربما قد ينزع منها الهوية اليمنية إلى الأبد، كما تفعل إيران بالشمال.
الخلاصة
قد يرى البعض أن الندم في السياسة يجب ما قبله كما قيل في الإسلام، وقد يرى البعض أن أفدح الفوادح هو الجهل وأن معرفة كل شيء أهدى إلى أحسن الأشياء كما كان يقول أفلاطون إن سبب كل خطأ آت من نقص المعرفة، فإذا قيل له فلان من العارفين، قال “ليس بينه وبين المعرفة قرابة” وهذا أدق إلماح إلى المعرفة ومشاكلة الإنسان بها لكي لا يتحقق الانتفاع بها، كما هو أرهف إشارة إلى غياب المعرفة ووقوع الخطأ بسبب ذلك الغياب.
ليس المهم وجود أنظمة تتآمر ووجود أنظمة تسلح على التآمر فما دام هناك طمع في الاستيلاء، فهناك رغبة في المقاومة ورغبة المقاومة تخلف أدواتها كعادة كل حاجة.
إننا الآن بعد ثورات وربما قبل ثورات، وهذه النقطة الوسط تفرض علينا تقصي أغوار الثورات محايدين لا ممتدحين، ودارسين غير قادحين، لأن الموضوعية الخالصة هي التي تعطي الدليل.
الثورات الحاليّة أو ما بات يعرف بثورات الربيع العربي عجزت عن الاحتفاظ باستمرار حريتها، وللأسباب التي ذكرناها في بداية هذا الموضوع وأهمها المؤامرات والمطامع.
صحيح أن المؤامرات سمة دائمة، لكن إذا الشعب أراد الحياة يومًا لا بد أن يستجيب القدر، وهذا بمعنى أن الشعوب أو الشباب ستبقى وهج التغيير السياسي في الوطن العربي وقادرة على تغيير التاريخ، لكن في اليمن، يبدو أن الربيع انتهى دون محصول، وبسببه جاع الشعب.