أعلن جيش ميانمار، في ساعة مبكرة من صباح اليوم الإثنين 1 من فبراير/شباط 2020، فرض حالة الطوارئ لمدة عام، واعتقال رئيس البلاد وين مينت، وعدد من قيادات حزب “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” الحاكم، وعلى رأسهم زعيمته أونغ سان سو تشي.
الجيش عيّن الجنرال السابق ميينت سوي، نائب الرئيس، رئيسًا موقتًا للبلاد، لكنه في وقت لاحق سلم السلطة إلى القائد العام للقوات المسلحة مين أونغ هلاينغن، في تحرك أثار موجة من الجدل والانتقادات داخل ميانمار وخارجها، وفق ما ذكرت وكالة “رويترز“.
ويتمتع القائد الجديد لميانمار “هلاينغن” بسمعة حقوقية سيئة، نظرًا لسياساته العنصرية ضد الأقليات الدينية في بلاده، كما أنه مُدرج على قائمة العقوبات الأمريكية منذ ديسمبر/كانون الأول 2019 على خلفيه تورطه في ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد مسملي الروهينغا.
وفي يونيو/حزيران 2017 طالبت منظمة العفو الدولية “أمنستي” بمحاكمته و12 مسؤولًا عسكريًا آخر بسبب تورطهم في جرائم ضد الإنسانية إبان عملية التطهير العرقي التي استهدفت المسلمين بولاية أراكان في شمال البلاد، داعية إلى إحالة ملف الأوضاع في بورما إلى المحكمة الجنائية الدولية لإجراء التحقيق والسير بإجراءات الملاحقة الجنائية.
Vice President Myint Swe, a former general, has been installed as acting President, the military-owned Myawaddy TV channel announced Monday morning.
Irregularities on voter lists from November’s election would be scrutinized, the announcement said. pic.twitter.com/8L8xwP9PXM
— Myanmar Now (@Myanmar_Now_Eng) February 1, 2021
الجيش في بيان له عبر القناة التليفزيونية العسكرية، برر خطوته بأنها من أجل الحفاظ على استقرار الدولة، وذلك بعد اتهامه للجنة المشرفة على الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفاز بها حزب أونغ سان سو تشي بغالبية ساحقة، بعدم معالجة المخالفات الهائلة التي حدثت.
المتحدث باسم حزب “الرابطة الوطنية للديمقراطية” الحاكم أكد خبر اعتقال قادة الحزب فجر اليوم، موجهًا رسالة إلى الشعب الميانماري بالالتزام بالقانون في مواجهة الانقلاب العسكري قائلًا: “أود أن أبلغ شعبنا ألا يرد على هذا بتهور، وأود منه أن يتصرف وفقًا للقانون”، مضيفًا أنه يتوقع أن يتم اعتقاله هو أيضًا.
صدام بين الحكومة والجيش
لم يكن الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش ضد الحكومة المدنية مفاجئًا لكثير من المراقبين، فهو نتاج طبيعي لمسار التوتر الذي شاب العلاقة بين مكوني السلطة منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي استشعر فيها الجيش الخطر على نفوذه الداخلي.
الفوز الكاسح لحزب “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” المدني كان جرس إنذار بالنسبة لجنرالات الجيش الذين يسعون لإحكام سيطرتهم على مقاليد الأمور في البلاد، كما أزعجهم أيضًا الدعم الشعبي الكبير لا سيما من البوذيين وهم الأغلبية لقيادات الحزب.
المؤسسة العسكرية تحدثت عقب الانتخابات عن وجود 10 ملايين حالة تزوير، مطالبة مفوضية الانتخابات بالتحقيق في تلك المخالفات، لكن تجاهل المفوضية لتلك المطالب أثار غضب العسكريين الذين سعوا لحشد الشارع ضدها من خلال إلباس حراكهم لباس ديني، حيث تجمعوا السبت الماضي أمام معبد شويداغون الشهير قرب يانغون، فيما انضم إليهم رهبان قوميون، منددين بتلك “التجاوزات”.
وفي الجهة الأخرى، رد أنصار الحزب الحاكم على تجمع الجنرالات وتشكيكهم في نتائج الانتخابات، برفع الأعلام الحمراء المميزة للرابطة الوطنية للديمقراطية، على شرفات المنازل ونوافذها، في إشارة واضحة لدعم حكومة سوتشي، وهو ما كان إيذانًا بتصعيد التوتر إلى آفاق بعيدة.
إرهاصات الانقلاب
في 27 من يناير/كانون الثاني الماضي قال قائد الجيش هلاينغن (الذي تولى الحكم بعد الانقلاب)، إن إبطال الدستور الذي أقر عام 2008 قد يكون ضروريًا في ظل ظروف معيّنة (ألغي دستور البلاد آخر مرة عام 1988، عندما أعاد الجيش الإمساك بالحكم إثر انتفاضة شعبية) وهو التصريح الذي أثار حالة من الجدل لدى الشارع الميانماري الذي لم ينعم إلا بعقد واحد فقط بالحياة المدنية بعد 49 عامًا من الحكم العسكري.
رودو فعل منددة لاقتها تلك التصريحات التي أثارت قلق سفارات أكثر من 10 دول، إضافة إلى الأمم المتحدة، أما على المستوى الداخلي دعت أحزاب سياسية إلى تسوية بين سو تشي والجيش، فيما دعا رهبان بارزون في المجمع الرسمي للديانة (أعلى سلطة روحية بوذية في البلاد) إلى إجراء مفاوضات لتخفيف التوتر بين الطرفين، الحكومة المدنية والجيش.
رغم التنسيق الظاهر إعلاميًا بين المؤسسة العسكرية والمكون المدني المشكل في معظمه من قيادات كانت تنضوي تحت لواء المعارضة قبل 2015، فإن هناك حالة من صراع النفوذ بين الطرفين طيلة السنوات الخمسة الماضية، فالجيش يرى نفسه الأحق بقيادة المشهد، في محاولة لإحياء العهد القديم حين كان يسيطر على الحكم قبل عشر سنوات.
وفي الناحية الأخرى يميل الميانماريون إلى الحكم المدني، فيما يسعى قادة الحزب الحاكم اليوم إلى تقليص نفوذ الجيش وتقزيم صلاحياته التي تتوسع يومًا تلو الآخر على حساب مقدرات الحكم المدنية، وهو الصراع الذي ظل دفينًا تحت الرماد حتى انفجر فجر اليوم بخطوة الانقلاب التي قادها جنرالات الدولة.
تنديد دولي
نددت العديد من الحكومات والمنظمات الدولية بتلك الخطوة التي وصفتها بأنها “إجهاض للديمقراطية الناشئة” في ميانمار، حيث اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، نقل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى الجيش، ضربة قوية للإصلاحات الديمقراطية في بورما (ميانمار).
جوتيريش في بيان له أكد أن “الانتخابات العامة في 8 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 تمنح تفويضًا قويًا للرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، ما يعكس الإرادة الواضحة لشعب بورما لمواصلة السير على طريق الإصلاح الديمقراطي الذي تمّ تحقيقه بشق الأنفس”، داعيًا قادة جيش ميانمار إلى احترام إرادة شعب بورما والتزام المعايير الديمقراطية، وحل أي نزاع عن طريق الحوار السلمي والامتناع عن العنف والاحترام الكامل لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
فيما عارضت الولايات المتحدة على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، أي محاولة لتغيير نتائج الانتخابات الأخيرة أو عرقلة التحول الديمقراطي في بورما، مهددة في بيان لها حال عدم التراجع عن تلك الخطوة والإفراج عن السياسيين المعتقلين باتخاذ إجراءات (لم يسمها).
كما دعت أستراليا إلى إطلاق سراح رئيسة الحكومة وزعماء سياسيين آخرين، متهمة الجيش بالسعي مرة أخرى للسيطرة على البلاد، مخاطبة المؤسسة العسكرية في بيان صادر عن الخارجية قالت فيه: “ندعو الجيش إلى احترام سيادة القانون وحل النزاعات من خلال آليات قانونية والإفراج الفوري عن جميع القادة المدنيين وغيرهم ممن تم احتجازهم بشكل غير قانوني”، مؤكدة على موقفها “نحن نؤيد بقوة إعادة الانعقاد السلمي للجمعية الوطنية، بما يتفق مع نتائج الانتخابات العامة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020”.
جنرالات الجيش لم تتحرك إلا حين استشعرت الخطر على نفوذها الذي بات مهددًا بفضل الدعم الشعبي الكبير للحكومة المدنية، ليبقى انقلاب ميانمار حلقة في سلسلة مساعي الأنظمة العسكرية في دول العالم الثالث لفرض هيمنتها على الحكم، معتبرة أن أي خطوة ديمقراطية للأمام تمثل تهديدًا صريحًا ومباشرًا لنفوذها يتطلب التصدي له بكل قوة.
مسلمي الروهينغا.. أي مصير في انتظارهم؟
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما تداعيات ما حدث على مسلمي الروهينغا؟.. وللإجابة عن هذا السؤال لابد من الإشارة إلى المعاناة التي تعاني منها الأقلية المسلمة في بورما طيلة السنوات الست الماضية، حيث تعرضوا لكافة أنواع التنكيل والبطش والتعذيب على أيدي السلطات الحاكمة (الجيش والشرطة وبوذيون متطرفون).
وهناك حالة من شبه الإجماع الرسمي والشعبي في البلاد على استهداف الأقليات غير البوذية هناك، حتى التعاطف الذي كانوا يتمتعون به من قبل بعض الساسة فقدوه أمام الضغوط الممارسة على الجميع لإثناءهم عن أي مواقف تتعارض والتوجه العام للنظام الحاكم.
العنصرية ضد المسلمين هناك تجاوزت كل الأشكال المتعارف عليها دوليًا، حتى حقهم الانتخابي تم سلبهم إياه – بجانب غيرهم من الأقليات الدينية الأخرى- وفقا للقانون التمييزي العنصري الصادر في 1982، الأمر الذي أفقدهم حقوق المواطنة وباتوا مواطنين من الدرجة العاشرة.
وفي عهد سوتشي عانى المسلمون كثيرًا، إذ غضت الطرف عن الجرائم المرتكبة على أيدي السلطات الأمنية، وهو الأمر الذي دفع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) في 4 من سبتمبر/أيلول 2017 لدعوة لجنة جائزة نوبل لسحب جائزتها للسلام من الزعيمة الميانمارية، وجاء في البيان: “إن ما تقوم به سلطات ميانمار من جرائم بشعة ضد أقلية الروهينغا المسلمة بمعرفة رئيسة وزرائها وتأييدها، عمل يتناقض مع أهداف جائزة نوبل ومع القانون الدولي وحقوق الإنسان”، لافتة إلى أن المسؤولة الميانمارية فقدت الأهلية للجائزة.
سوتشي التي تم اعتقالها فجر اليوم وقفت العام الماضي أمام محكمة العدل الدولية لتدافع عن الاتهامات التي تواجه بلادها بممارسة الإبادة الجماعية ضد الروهينغا واصفة إياها بـ”المضللة وغير المكتملة” وهو التوجه المخالف لمواقفها السابق، ما كان له تداعياته السلبية على صورتها في الداخل والخارج.
الوضع الآن ربما يكون أكثر قلقًا على الأقلية المسلمة، فالزعيمة المطاح بها غضت الطرف عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة، والقائد الجديد للبلاد هو المجرم الحقيقي الذي أشرف على تنفيذ تلك الجرائم التي ارتقت بعضها لـ “جرائم إبادة ضد الإنسانية”.
تسلّم هلاينغ قيادة القوات المسلحة في عام 2011، ومدّد ولايته لخمس سنوات إضافية في فبراير 2016، وفرضت عليه عقوبات بسبب تورطه في الانتهاكات ضد أقليات الروهينغا، فيما أعلنت القوات المسلحة ترقيته عام 2020 لتعادل رتبته الجديدة منصب” نائب رئيس البلاد”.
في 2018 شددت ماثيو ويلز المسؤول في منظمة العفو الدوليىة على ضرورة “محاسبة من تلطخت أيديهم بالدماء وصولًا إلى ضباط الصف الأول في الجيش، وقائد أركانه الفريق مين أونغ هلينغن، على الدور الذي قاموا به في الإشراف على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية أو المشاركة فيها، وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة بموجب أحكام القانون الدولي”.
وكانت المنظمة قد كشفت استنادًا إلى 4000 مقابلة “قيام الجيش البورمي بعد 25 آب/أغسطس 2017 بإجبار 702 ألف امرأة ورجل وطفل على الفرار إلى بنغلادش”،لافتة إلى أنها “حددت ألوية أو كتائب الجيش الضالعة في ارتكاب أسوأ الفظائع (…) ووثقت قيام قوات الأمن بارتكاب تسعة من أصل 11 نوعًا من أنواع الجرائم ضد الإنسانية، وردت في نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية”.
وأشارت إلى أن “قيادة الجيش العليا قامت بنشر أشرس كتائبها القتالية ذات الصيت السيئ على صعيد ارتكاب الانتهاكات في مناطق أخرى من البلاد قبيل وأثناء العمليات المنفذة في ولاية أراكان شمال البلاد”، منوّهة إلى الدور المحوري الذي قام به ” هلينغن” في تلك الحرب الإبادية.
حالة من الترقب والقلق تفرض نفسها على مسلمي الروهينغا وبقية الأقليات الدينية الأخرى، ففي حال تمرير الانقلاب العسكري الذي تم فجر اليوم، فإن القادم ربما يحمل الكثير من الصعوبات المضاعفة، وهو ما يتطلب موقفًا حاسمًا من الأنظمة والحكومات الإسلامية خصوصًا، والمنظمات الدولية بوجه عام.
وفي الأخير تبقى كلمة الشارع الآن والضغوط الدولية هي الفيصل، إما استعادة المدنية المسلوبة وإجبار الجيش على التراجع عن انقلابه، وإما العودة مرة أخرى إلى الحكم العسكري لميانمار، وهو التحول الذي لو مُرر سيكون له تداعيات سياسية وأمنية خطيرة على الشعب، كما حدث في العديد من دول المنطقة خلال الآونة الأخيرة.