خلق الحضور العربي الكثيف في تركيا فرصًا كبيرةً في شتى المجالات، لا سيما الاقتصاد والإعلام، فأثّر فيها وأثراها، وساهمت المتغيرات الكبيرة التي حصلت في العالم العربي منذ عام 2011 في أن تكون تركيا موئلًا لملايين الناس الذي قصدوا بلاد الأناضول طلبًا للأمن والرزق والعلم، وكان منهم رياديون وعصاميون ورواد، شاركوا بإثراء الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية وكوّنوا مجتمعات مثمرة للجالية العربية بمختلف أطيافها.
يحتاج العرب في تركيا مع وفرة أعدادهم واحتياجاتهم إلى منابر تتكلم باسمهم وتمثلهم، ولم تكن الحاجة فقط بمجال تأسيس الجاليات أو المكاتب الخدمية أو الجمعيات الإغاثية أو غرف رجال الأعمال وما شابهها من الأمور التقنية واللوجستية، إنما كانت الحاجة أيضًا إلى منابر إعلامية تكون نافذة لتسليط الضوء على كل ما سبق وإيصال أصوات من لا صوت له.
نماذج إعلامية
خلال عقد الثورات هذا، 2011-2021، برزت في تركيا وسائل إعلام عربية كثيرة، مستفيدة من بحبوحة الحرية التي تمنحها تركيا لهذا القطاع، فشهدنا ولادة عشرات القنوات الفضائية والإذاعات والمواقع الإلكترونية الإعلامية والصحف المطبوعة، سورية ومصرية وليبية وغيرها، برعت غالبها بالشأن السياسي المحلي لدولها وما يهم جمهور جالية محددة دون أخرى، في الطرف المقابل ظهرت بعض الوسائل التي تهتم بأمور القاطنين العرب في تركيا، ولعلّ من أبرزهم في هذه المجال إذاعة مسك، التي حققت انتشارًا واسعًا هناك بعد ان استهدفت بالجمهور العربي في تركيا بالتحديد، وأصبحت تلك الإذاعة التي نشأت عام 2018، مجموعة إعلامية كاملة.
يقول عبد الرحمن منير، مدير عام “مسك للإعلام” لـ”نون بوست”: “المشاريع العربية في تركيا في قطاع الإعلام تحديدًا كانت مهمة ومتناغمة مع ما يجري في المنطقة العربية من تحولات كبيرة وازدياد اهتمام الناس بالقطاعات الإنسانية والمشاريع التي تخاطب النهضة العربية والتغيرات العربية الكبيرة التي تجري”.
مضيفًا “على مستوى تركيا كان يوجد نموذجان من العمل الإعلامي العربي، نموذج مرتبط بالعالم العربي ضمّ الكثير من العاملين في هذا القطاع، إضافة إلى نموذج آخر مرتبط بالقطاع المحلي وانعكس في البداية على شكل مجموعة من المجموعات والصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بالتأكيد كان هناك احتياج واضح وملموس يتعلق بالعرب الموجودين في تركيا، هذه الشريحة التي لم تكن مغطاة ولم تجد من يبحث في همومها ومشاكلها اليومية”.
في السطور التالية نتعرف على تجربة “مسك” أحد المنابر الإعلامية التي تهتم بالشأن العربي في تركيا، وبحسب عبد الرحمن منير كانت فكرتها الأساسية التي انطلقت منها هي “البحث عن احتياجات الشريحة العربية في تركيا والتعامل معها بهدف أن تكون وسيلة الإعلام الأقرب إليها”.
القضايا اليومية
انطلق البث المباشر لإذاعة مسك مع شهر يناير/كانون الثاني 2018، أي قبل 3 سنوات بالتمام، وسبق ذلك أشهر من البث التجريبي، وكانت حينها الإذاعة العربية الوحيدة في إسطنبول التي تخاطب الجمهور العربي في العاصمة الثقافية والاقتصادية لتركيا، وبثت عدة برامج يومية خدمية تحاكي قضايا الناس منها برامج صباحية ومسائية وبرامج خدمات كانت تعني بتعليم اللغة العربية والتركية ومجموعة من الخدمات الأخرى، ووفقًا لمديرها العام كانت “مسك” تركز على برنامج يشرح الأمور القانونية وبرنامج صحي وبرنامج فتاوى.
يقول منير: “كنا نبحث ما هي احتياجات الشخص العربي الموجود في تركيا، ونقدم له برامج من الخدمات تساعده بالإضافة إلى برامج الموجات المفتوحة الأساسية التي تتفاعل مع القضايا اليومية والمستجدات، كان هدفها الأساسي أن تكون وسيلة الإعلام الأقرب لهم في 3 مساقات تتركز رسالتها أن تعزز التعايش العربي في مجتمعه الجديد وأن ترسخ الثقافة العربية واللغة العربية للناطقين بها في تركيا والمسألة الثالثة بث القيم الإنسانية السامية”.
يضيف منير في حديثه لـ”نون بوست”: “ركزنا على العرب المقيمين في إسطنبول خصوصًا وفي مختلف المدن التركية الأخرى عمومًا، وعالجنا الكثير من قضايا الناس اليومية، كما سلطنا الضوء على عدة أزمات، فحاولنا أن نكون أقرب للناس من خلال تقارير ميدانية ومن خلال اتصالات مباشرة معهم ومحاولة ربطهم بممثلي الجاليات العربية والتفاعل معهم كان في عدد من المبادرات المجتمعية لترك التدخين للمشي والرياضية وتطوير المهارات الذاتية للشباب، بالإضافة إلى بعض البرامج النفسية، التي كان لها أثر إيجابي أيضًا على الناس بمختلف شرائحهم الموجودة في تركيا”.
مجموعة إعلامية
القضايا التي طرحتها “مسك” خاصةً الخدمية والقانونية وهي أكثر ما يشغل بال المواطن العربي في تركيا، جعلتها مسموعةً، وفي هذه البرامج كانت مسك تستضيف خبراء لتقديم الحلول المناسبة، ومع التطور المتسارع لوسائل الإعلام بدأت “مسك” بالتحول لمجموعة إعلامية، وبحسب مديرها العام فإنه ومع مرور الوقت “أطلقنا إذاعة ياقوت للقرآن الكريم وهي إذاعة غير ربحية، وبعد دخول موجة كورونا كان يوجد اهتمام بالإعلام الرقمي وتوسع بشكل ملموس على المنصات الأساسية لنا ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بدأنا بثًا تليفزيونيًا للعالم العربي وأصبح يوجد لدينا مسك تليفزيون، لتصبح المجموعة متكاملة بالتليفزيون والبث الإذاعي والإعلام الرقمي، وفكرة هذه المجموعة أن تعزز حضور العرب الموجودين في تركيا وأيضًا انفتحنا على شريحة جديدة تخاطب المهتمين بتركيا في العالم العربي”.
لا بد لكل مشروع من تحديات وإخفاقات حتى يبدأ مشوار النجاح، وهنا يذكر عبد الرحمن منير أن بالنسبة لمجموعتهم الإعلامية كان هناك عدد من التحديات، الجزء الأساسي كان مرتبطًا بأن “مسك هي نموذج تجاري وليست ممولة، فهي تعتمد على الشراكات التجارية والرعايات والإعلانات، ما يعني ضرورة أن يكون لديها دائمًا قدرة على ابتكار منتجاتها الإعلامية القابلة للبيع”.
عبد الرحمن منير مدير عام “مسك”
يضيف منير “من ضمن التحديات أن نقدم محتوى جميلًا ومميزًا وقريبًا للناس وفي نفس الوقت يكون جاذبًا للتجار ورؤوس الأموال وكيف نوازن بين حجم الإعلان وحجم المحتوى الأصلي المقدم”، بالإضافة إلى “التغيرات الاقتصادية التي تجري في البلاد على مدى هذه السنوات التي انعكست بشكل مباشر على التجار والتمويل، وكان هناك لفترة معينة تحدي عدم وجود منافس وهذا يحتاج المزيد من الرقابة والرفع من الكفاءة بشكل مستمر”، وتسعى “مسك” كما يقول مديرها أن تكون “وسيلة الإعلام الأقرب للناطقين بالعربية في تركيا”.
بالمحصلة.. لم تكن تجربة مسك في المجال الإعلامي في تركيا هي الأولى عربيًا، لكنها تميزت بما تطرحه من برامج خدمية تهم الشارع العربي في المهجر، ويبقى نجاح “مسك” وغيرها معتمدًا على كسب ثقة المستمع والمشاهد عبر ما تبثه وتقدمه، فالمواطن العربي في بلادنا ألف نوعًا من الإعلام لا يريد أن يراه أو يسمعه وقد امتلك حريته في هذه البلاد خصوصًا أن المنابر الإعلامية أصبحت كثيرة والخيارات متاحة، لكن النجاح لمن يلتزم الثوابت ويكسب الثقة.