تشكلت الملامح الأولى للجيوسياسية الشيعية الصاعدة مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، التي استندت إلى طبيعة النظام الثيوقراطي الديني بقيادة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني، ويمكن القول في هذا الإطار إن الثورة الإيرانية من جهة ونشوء “حزب الله” اللبناني من جهة أخرى، وضعا الجغرافيا السياسية الشيعية في صدراة المشهد السياسي الإقليمي والدولي.
كما أعطت الخطابات الدينية الثورية التي كان يرددها الخميني، والشعارات السياسية التي كان يرفعها قادة الحرس الثوري، قوة دفع كبيرة للمجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي، لتستشعر وجودها السياسي، والهدف من وراء ذلك تشكيل حركة شيعية عابرة للحدود الوطنية مرتبطة بالمركزية الإيرانية.
فالجيوسياسية الشيعية حالة معبرة للمجتمعات الشيعية بطبيعة جغرافية – سياسية، عن طريق الدفع بالمجتمعات الشيعية إلى الارتباط بالمركزية الإيرانية، ومن ثم تشكيل قوة دولية صاعدة، كما عبر عن ذلك محمد جواد لاريجاني مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، من أن إيران قطب دولي يسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي على أساس التعددية السياسية، أي أن الجيوسياسية الشيعية هي بالأساس مشروع جيوستراتيجي إيراني، يعكس طبيعة الافتراضات الجيوبوليتيكية التي نادى بها المفكر الإستراتيجي هالفورد جون ماكيندر في نظريته الجيوستراتيجية قلب الأرض، وهي فكرة استعارتها الثورة الإيرانية لتشكيل مركزية شيعية في العالم الإسلامي، تستند بالأساس إلى إيران باعتبارها “دولة أم القرى”، ونظامها السياسي القائم على نظرية ولاية الفقيه المطلقة.
الحزام الذهبي
دعا أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام ومرشح الرئاسة للعام الحاليّ، الجنرال محسن رضائي، إلى بناء مشروع إيراني جديد وصفه بـ”الحزام الذهبي الإيراني”، في منطقة الشرق الأوسط، ففي حديثه عن رؤيته لبرنامجه الانتخابي الرئاسي فيما يتعلق بسياسة إيران في منطقة الشرق الأوسط، قال رضائي: “رؤيتنا الإستراتيجية التي وضعناها ضمن تحليلنا وبرنامجنا الانتخابي، هي مشروع الحزام الذهبي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وسيمتد هذا الحزام من أفغانستان إلى إيران، مرورًا بالعراق وسوريا، حتى مياه البحر الأبيض المتوسط في لبنان”.
تنظر الولايات المتحدة إلى الدور الإيراني على أنه أحد المهددات الرئيسية لمصالحها ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط، خصوصًا إذا تضافرت الأدوار الإيرانية لإيجاد تحالفات مؤثرة مع تنظيم القاعدة
وللتفصيل أكثر في هذا المشروع، تحدث رضائي بأن معظم الأحداث خلال الـ20 عامًا الماضية، حدثت في هذا الحزام، وفي الوقت نفسه أوضحت هذه الأحداث، أنه إذا كانت هناك قوة إقليمية تسيطر على هذا الحزام، فسيكون بإمكانها الإشراف وإدارة شؤون المنطقة بأكملها.
مضيفًا “على الرغم من أننا لسنا دولة ذات قوة دولية، لكن يمكننا التأثير على القوى الدولية من خلال الانتشار في هذا الحزام”، وانتقد رضائي الرؤساء السابقين، بسبب عدم اهتمامهم بهذا المشروع، وقال: “لم نر أي رئيس إيراني لاحظ هذا، ولم يفهموا حجم وطبيعة ما حدث في هذه المنطقة، ولم يسيروا في هذا الاتجاه”.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن فكرة الحزام الذهبي التي تحدث عنها رضائي، تطرح الكيفية الجيوسياسية عندما تتصادم الإيديولوجيا بالجغرافيا، فعندما ننظر إلى الحدود البرية الهشة التي تربط إيران بالعراق وسوريا ثم البحر الأبيض المتوسط، تتضح لنا الطريقة الجيوسياسية التي تتعامل بها الإيديولوجيا التوسعية الإيرانية، مع الجغرافيات الهشة في العراق وسوريا ولبنان، بفعل الصراعات الداخلية وضعف السيادة الوطنية في هذه الدول، وهو ما يمثل مشكلة خطيرة ليس لهذه الدول فحسب، وإنما للجغرافيات الأبعد، خصوصًا أن الشهوة الجيوسياسية الإيرانية لا تقف عند حدود معينة، طالما أنها تنظر إلى نفسها على أنها مكلفة بتشكيل الحكومة الإسلامية العالمية التي يقودها الولي الفقيه في إيران.
وفي هذا المجال، يتحدث تيم مارشال، في كتابه “سجناء الجغرافيا: 10 خرائط تخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته عن السياسة العالمية”، عن الدور البارز الذي تلعبه الجغرافيا في الشؤون الدولية، حيث لا تزال السهول المفتوحة تشكل تهديدًا حتى في عصر الطائرات دون طيار والهجمات السيبرانية، وتستمر في تشكيل العلاقات بين الدول وجيرانها، لذلك لم يكن أمام رضائي بُدّ من الحديث عن ضرورة تشكيل الحزام الذهبي الإيراني للسيطرة على الشرق الأوسط، وبالتالي لم يكن السلوك التوسعي الإيراني أيضًا نتيجة أخطاءٍ وقع فيها قادة إيران، وإنما يأتي كجزء من برنامج جيوسياسي إيراني لاحتواء المنطقة، وفي الوقت ذاته، فإن أي مناقشةٍ جادّةٍ لقضية الحزام الذهبي الإيراني يجب أن تتعامل مع الطرح الإيديولوجي الثوري الإيراني في كلٍ من الشرق الأوسط والغرب.
ردود فعل أمريكية وإسرائيلية
تنظر الولايات المتحدة إلى الدور الإيراني على أنه أحد المهددات الرئيسية لمصالحها ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط، خصوصًا إذا تضافرت الأدوار الإيرانية لإيجاد تحالفات مؤثرة مع تنظيم القاعدة، كما عبر عن ذلك مؤخرًا وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في 13 من يناير/كانون الثاني 2021، وهو ما دفعها لزيادة الضغوط على إيران وحلفائها في المنطقة.
وفي مقابل ذلك، تنظر إيران إلى أن الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، عرقل كثيرًا طموحاتها الجيوسياسية، سواء عبر استهداف مهندس مشروعها الإقليمي الإيراني قاسم سليماني أم عبر استهداف حلفائها، وتحديدًا في سوريا والعراق، حيث تعدان الأساس لمشروع الحزام الذهبي الإيراني، الذي تحدث عنه رضائي مؤخرًا.
كرد فعل على مشروع الحزام الذهبي الإيراني، قال رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيف كوخافي: “قوة الردع الإسرائيلية زادت في وجه الدول التي تهدد أمنها”
تبنت إيران خيار إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، كأحد خيارات الرد على مقتل سليماني، وهي تدفع حلفاءها نحو تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي الذي يشكل في حال تحققه فرصة جيدة لولادة المشروع الإستراتيجي الذي تحدث عنه رضائي، وهو ما قد يجعل أمن العديد من دول الشرق الأوسط مهددًا، وتحديدًا “إسرائيل” ودول الخليج العربي، لذلك يمكن القول إن لدى الولايات المتحدة حلفاءً إستراتيجيين يتفقون معها، من أجل الوصول إلى هدف تعديل سلوك النِّظام الإيراني في إطار الجيوسياسية الشيعية الحاليّة، والعمل تحت شعار “مواجهة خطر إيران” في المرحلة المقبلة.
خامنئي وجنرالات الحرس الثوري أعلنوا في أكثر من مناسبة أن النفوذ الإقليمي الإيراني، لن يكون بأي حال من الأحوال، على طاولة المفاوضات المقبلة مع إدارة جو بايدن، وذلك لكونها – إيران – تدرك جيدًا أن قيمتها الحقيقية في نفوذها الإقليمي، وليس في برنامجها النووي، فالتأثير الذي يمارسه حلفاءها اليوم، يفوق ما قد يفعله برنامج نووي خاضع للعقوبات، وهي حقيقة ينبغي على إدارة بايدن التعاطي معها بجدية، وإعطاء النفوذ الإقليمي الإيراني، حيزًا كبيرًا من المناقشات، فيما لو قررت الانخراط مرة أخرى في جولات تفاوضية مع الجانب الإيراني، طالما أن الهدف الرئيس للإستراتيجية الإيرانية الكبرى هو تعزيز القوة السياسية والعسكرية للجماعات الشيعية المسلحة، من أجل تمكينها سياسيًا لتحقيق الهيمنة على الشرق الأوسط.
وكرد فعل على مشروع الحزام الذهبي الإيراني، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي إن “قوة الردع الإسرائيلية زادت في وجه الدول التي تهدد أمنها”، وأوضح أن “هذه الدول ليست لها النية لشن هجمات ضدنا وكل عملياتها ضدنا تأتي في سياق الرد على نشاطات نقوم بها نحن”.
كوخافي أشار إلى أنه “في مواجهة المحور الشيعي الذي يمتد من إيران مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان، تبلور تحالف إقليمي قوي يبدأ من اليونان وقبرص ومصر والأردن ودول الخليج العربي، حيث تقف دولة “إسرائيل” داخل هذا التحالف”، واعتبر أن “تموضع محور إيران يشهد تباطؤًا داخل سوريا، نتيجة للعمليات المتواصلة التي ننفذها مع باقي المؤسسات الأمنية، لكن هذا التموضع لم ينته ولا توجد لدى الإيرانيين النية لوقفه ولذلك نشاطاتنا ستتواصل”.