لم تقتصر شهرة أمراء البحرية العثمانية على مهارتهم في فنون القتال وتطوير الأسطول البحري فحسب، فهناك بحارة علماء في نفس الوقت، ولهم تاريخ طويل في إثراء علوم البحار وجغرافية المياه ودراسة النجوم والتقاويم بشتى أنواعها، وهذا أحد أسباب وصول بحرية الدولة العثمانية إلى العالمية خلال القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي، في وقت كانت تعج فيه الساحة بأساطيل عظام على رأسها الأسطول الأوروبي والبندقي.
يأتي على رأس علماء البحرية العثمانية أميرُ البحار سيدي علي رئيس بن حُسين الغَلَطلي (1498 – 1562)، الذي أثرى مكتبة العلوم البحرية والجغرافية، فضلًا عن الانتصارات التي حققها خلال العديد من المعارك التي خاضها على مدار حياته.
شارك سيدي علي المولود في حي غلطة بإسطنبول عام 1498 كبار أباطرة البحر في العصر الذهبي للأسطول العثماني مثل خير الدين بربروس ودرغوث ريس ويوسف سنان باشا في عدد من الحروب البحرية العثمانية في البحر المتوسط والمحيط الهندي.
انتصارات بحرية عظيمة
كان لدى علي ريس شغف بركوب البحر منذ صغره، ساعده على ذلك نشأته في العصر الذهبي للأسطول العثماني الذي ساد البحر المتوسط لقرابة 3 قرون متتالية، كان فيه الآمر الناهي في كل نقطة مياه من المتوسط الممتد من آسيا وحتى غرب إفريقيا.
وحين بلغ أشده بدأ في الاشتراك بالعمليات البحرية التي خاضها أسطول الدولة العثمانية في فتوحاته بشمال إفريقيا وجنوب أوروبا، فقاد ميسرة الأسطول الخاص بالقائد الفذ خير الدين بربروس وكان له دور كبير في هزيمة فرسان العصبة المقدسة التابعين لكارلوس الخامس في معركة بروزة الشهيرة عام 1538.
تقديرًا لجهوده تمت ترقيته إلى عدد من الرتب التي لا يصل إليها إلا الصفوة، أصحاب التاريخ البحري المشهود به
كما قاد العديد من سفن أسطول البحار المخضرم درغوث ريس خلال معركة تحرير طرابلس الليبية من الإسبان، واستطاع أن يهزم فرسان مالطة شر هزيمة عام 1551، وقد شهد بمهاراته القتالية في البحر كبار القادة وأباطرة البحرية العثمانية.
وتقديرًا لجهوده جرت ترقيته إلى عدد من الرتب التي لا يصل إليها إلا الصفوة، أصحاب التاريخ البحري المشهود به، وعلى رأس تلك الرتب “أزپلر كاتبي ترسانه كتخداسي” أي قائد الترسانة البحرية السلطانية و”خاصة دونمة رئيسي” أي قائد الأسطول المركزي العثماني.
الحملة على البرتغاليين
معظم المعارك التي شارك فيها سيدي علي في السابق لم يكن القائد الفعلي لها، بل كان أحد أركانها المهمين، إلا أن حملته ضد البرتغاليين عام 1552 تعد إحدى أبرز الحملات التي قادها الأمير البحري العثماني بنفسه على رأس أسطول هائل وبتكليف رسمي من السلطان.
في القرن السادس عشر كان البرتغاليون يعيشون أزهى عصورهم الاستعمارية، التي اتسعت من رأس الرجاء الصالح إلى الخليج العربي، بجانب مستعمرات أخرى في عدن ومسقد والبحرين، مارسوا فيها كل أنواع التنكيل بالمسلمين، فتذكر كتب التاريخ جرائم وصلت إلى حد التمثيل بالجثث.
في هذه المرحلة اندلعت بعض المعارك الجانبية بين الأسطول العثماني ونظيره البرتغالي، إلا أن الغلبة في النهاية كانت للأوروبيين الذين كانوا يتفوقون في العدة والعتاد، فيما تكبد الجيش العثماني العديد من الخسائر في الجنود والسفن البحرية التي تدمرت على أيدي البرتغاليين في البحرين وقشم ومسقط.
وفي تلك الوضعية الحرجة التي باتت عليها الدولة العثمانية أمام الأسطول الأوروبي، كلّف السلطان سليمان بن سليم العثماني القائد علي ريس لقيادة حملة كبيرة للقضاء على البرتغاليين والثأر لشهداء الدولة العثمانية واستعادة الهيبة والعظمة في شوارع أوروبا مرة أخرى.
كان أول محور استند إليه القائد العثماني لتدشين أسطوله هو إصلاح السفن المتضررة من المعارك السابقة مع البرتغاليين، ثم انطلق من البصرة عام 1552، واستطاع في وقت قصير دخول القطيف متجهًا إلى مضيق هرمز الذي نجح في عبوره بعد 40 يومًا من انطلاق حملته من العراق.
بعد الانسحاب بساعات قليلة فوجئ العثمانيون بأسطول من الدعم موجه للجيش البرتغالي البحري، ليقع الاشتباك الثاني
في هذه الأثناء فوجئ سيدي علي بمباغتة الأسطول البرتغالي له، وكان مكونًا من 25 قطعة (4 سفن حربية كبيرة و3 فرقاطات و6 سفن متوسطة الحجم و12 شانية) فيما كان الأسطول العثماني أقل من هذا العدد، ووقع الاشتباك بين الأسطولين، كانت الغلبة في بداية الأمر للأسطول العثماني، ما دفع القائد البرتغالي للانسحاب.
المعركة لم تنته بعد، فبعد الانسحاب بساعات قليلة فوجئ العثمانيون بأسطول من الدعم موجه للجيش البرتغالي البحري، ليقع الاشتباك الثاني، وهنا حقق الأسطول العثماني انتصارًا ساحقًا، فيما واصل علي ريس رحلته إلى خليج عمان، إلا أن الرياح دفعت بالأسطول إلى كجرات في الهند، ليعود بعدها إلى إسطنبول حاملًا رايات النصر.
عالم الجغرافية البحرية
بعد رحلة طويلة من الكفاح والنضال البحري، ارتأى سيدي علي أن يغير مسار اهتمامه إلى دراسة علوم جغرافيا البحار واكتشاف الظواهر الفلكية البحرية، إيمانًا منه بأهمية تلك العلوم في الملاحة، وتوظيفها إيجابًا على قوة البحرية العثمانية، بجانب إثراء المكتبة البحرية العالمية بالمؤلفات التي تحسب للإمبراطورية العثمانية وتسجل دورها العظيم في هذا المجال.
يعد كتابه الشهير “المحيط” الذي ألفه عام 1554، أحد أبرز المؤلفات التي تطرقت لعلوم الجغرافية البحرية، فالكتاب الذي ترجم لأكثر من لغة ونشر في العديد من المنصات العالمية على رأسها اليابانية والألمانية، مقسم إلى 10 أبواب بجانب مقدمة مطولة.
بعد رحلة طويلة من الكفاح والعلم، فارق سيدي علي الحياة في القسطنطينية في 28 من ديسمبر/كانون الأول 1562 عن عمر ناهز الـ64 عامًا
المؤلف الأعظم في القرنين الخامس والسادس عشر خصص فصولًا كاملةً لدراسة الاتجاهات الجغرافية وأبعاد النجوم وارتفاعاتها والتقاويم والطرق الساحلية البحرية، فيما حدد بابًا للرياح الموسمية وأوقات هبوبها، وما اسماه الدنيا الجديدة، بجانب إلقاء الضوء على قرابة 30 طريقًا بحريًا في المحيط الهندي والبحر الأحمر، يمكن الاستفادة بهم في المرور من هذين الممرين المائيين.
ومن الجغرافيا البحرية إلى الجغرافيا البرية، قدم سيدي علي وصفًا تفصيليًا لرحلته البرية من الهند إلى إسطنبول، تلك الرحلة التي استغرقت قرابة 4 أعوام، وذلك خلال كتابه الشهير الذي حمل عنوان “مرآة الممالك” (كتاب تاريخي من بواكير كتب الرحلات في الأدبين العثماني والتركي) وتناول فيه العديد من الظواهر التي تعرض لها خلال تلك الرحلة، والكتاب يعد “كتالوجًا” شاملًا للطريق من الهند إلى تركيا.
وبعد رحلة طويلة من الكفاح والعلم، فارق سيدي علي الحياة في القسطنطينية في 28 من ديسمبر/كانون الأول 1562 عن عمر ناهز الـ64 عامًا، ليخلد اسمه بأحرف من نور في سجلات البحرية العثمانية، وتقديرًا لما قدمه من جهود جليلة أطلقت البحرية التركية اسمه على بعض سفنها أبرزها الغواصة TCG سيدي علي ريس.