عالم ما قبل جو بايدن ليس كما بعده، فالجميع يحاول التسابق لإجراء تحالفات ووضع أسس وحقائق على الأرض، قبل أن يثبت الرئيس الأمريكي الجديد قدميه، وبالنسبة لدول كثيرة وجود رئيس مثل بايدن منحة يجب أن لا تتحول إلى نقمة، فالرجل لديه مسحة أخلاقية واضحة، لكنها لا تتعارض في الوقت نفسه مع جنوحه للبراغماتية.
مقدمات التحالف الصيني الخليجي
تسعى الكثير من الدول إلى عقد تحالفات كبرى للاستفادة من هذا الوضع، سواء بتعزيز الوضع القائم أم بخلق فرص تسهل التعامل مع بايدن وتساهم في تعزيز وضع التفاوض إذا حاول الضغط على نقاط ضعف معينة، في ملفات الحقوق والحريات على وجه التحديد، لا سيما للصين والخليج.
بناءً على التحديات المشتركة، يسعى الطرفان إلى توثيق شراكتهما في عدد من المجالات المهمة، الاقتصاد والطاقة والدعم السياسي والتنسيق الأمني، فضلًا عن التعاون بالطبع في مواجهة فيروس كورونا، إذ يشعر كلاهما من معطيات النزاعات والحروب التجارية التي أشعلها دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق طوال سنوات حكمه، أهمية بناء نظام دولي جديد يمكن الوثوق به.
فمن ناحية الصين ما زالت تحاول التعافي من وصم وشيطنة ترامب وإلصاق أزمة كورونا بها، الأمر الذي انعكس على الأمن الدولي والصراع مع أمريكا في بحر الصين الجنوبي وتايوان وهواوي وقضايا أخرى.
من ناحية أخرى، يترقب الخليج ما الذي يخبئه بايدن لإرضاء أنصاره وتسديد فاتورته الانتخابية التي صُممت على تناقضات ترامب وتحالفاته في العالم ومخاصمته للقيم للأمريكية، وبالتالي حملت أجندته الدعائية لغةً عنيفةً بعض الشيء تجاه الأوضاع الحقوقية في المنطقة لا سيما السعودية، ما يستلزم البحث عن تحالفات بعيدة عن العباءة الأمريكية، دون أن تضطر للالتحاف بها، لكن فقط لمجرد التذكير فإن هناك تحالفات أخرى، يمكن أن تشكل تحديًا للمصالح الأمريكية في المنطقة.
الصين وبايدن
تعرف الصين أن براغماتية جو بايدن قد تجعله ترامبًيا أكثر من ترامب نفسه تجاه ملفات بعينها، فالرجل أخد مصل الحماية من وجوده في إدارة أوباما، وأصبح يعرف جيدًا حجم الانتقادات التي كان يتلقاها بسبب عدم حسمه في التعامل مع التنين الآسيوي.
برهن بايدن على ذلك بتأييد إدارة ترامب في اتهام بكين بارتكاب إبادة جماعية للأيغور في شينغيانغ، كما أصدر بيانًا متشددًا بشأن تايوان، لا يختلف إطلاقًا عن البيانات التي كانت تصدر عن ترامب خلال السنوات الأربعة الماضية.
يلعب الرئيس الأمريكي الجديد بطريقته الناعمة مع الصين، فهو ليس خصمًا أيدلوجيًا يريد غلق جميع الأبواب للتفاهم ويجب أن يعرقلها دائمًا على الهوية، لكن وبحسب نص تصريحاته هو يريد دفعها لبذل جهد أكبر للالتزام بمسؤوليتها الدولية، بجانب طمأنة الأمريكيين بأنه لن يكون ظلًا لأوباما بطريقته التي لم تعجبهم وكانت واحدة من أخطر نقاط ضعفه.
يستفيد بايدن من الخبرات الكبيرة التي ساهمت في توهج إدارة أوباما، بلينكين وسوليفان وكورت كامبل منسق سياسة المحيطين الهندي والهادئ، وجميعهم من خريجي أوباما، وجميعهم أيضًا على وعي شديد برأي الجماهير في سياستهم القديمة، فضلًا عن تخوفهم من شبح الصين المهيمنة تكنولوجيًا، وبالتالي هم حريصيون أكثر من غيرهم على ضمان عدم تحقق ذلك أبدًا.
من ناحية أخرى ومن أول وهلة، وبناء على تحركات بايدن، تستطيع معرفة أنه كان على علم جيدًا بما ستفعله الصين بمجرد زوال شبح ترامب، لهذا سارع هو أيضًا لتشكيل جبهة مناهضة وخاصة من حلفائها الأوروبيين.
يلعب بايدن مع القارة العجوز على المصالح القيمية، فالتحدي الصيني ليس للولايات المتحدة فقط بل للرؤية الغربية كاملة، ما يلزمهم جميعًا التوحد لإيقاف زحف هذا النموذج وإعادة الحياة لملفات ارتبطت دائمًا بالقيم الغربية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والصحة العالمية وتغير المناخ والتكنولوجيا والتجارة.
بايدن والخليج
بدأ بايدن عهده بوقف مبيعات الأسلحة لحلفاء بلاده الخليجيين، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، كجزء من مراجعات أوسع لاتفاقيات أسلحة بمليارات الدولارات كان قد تم التوصل إليها في ظل إدارة ترامب، بناءً على ملابسات المواقف الحقوقية للخليج، فضلًا عن حاجته لمراجعة سياسة توازن القوى في المنطقة وضمان ريادة “إسرائيل” حسب المحددات التاريخية للسياسة الأمريكية.
نفس المنطق الذي يحكم بايدن في علاقته بالصين، يتبعه مع الخليج وإن كانت هنا القضية مختلفة تمامًا، فالرئيس الجديد لا يريد بأي حال علاقة متوترة مع السعودية، بل يريد منهم تغيير سلوكهم الحقوقي بما يتفق مع نزعته الأخلاقية.
التعامل المقبل بين بايدن والسعودية، سيترتب على أساس سجلها الحقوقي، لا سيما أن علاقة المملكة بإدارة ترامب كانت إحدى الزوايا التي لعب عليها في تجريح الرئيس السابق وهز علاقته بالقيم الأمريكية في أعين المواطنين، وبالتالي يجب أن يظهر بسياسة مختلفة.
يستند بايدن إلى تراجع عدد من الديمقراطيات وتدهور الحقوق السياسية والحريات المدنية، والقضية هنا ليست في فقدان الديمقراطيات الجديدة طابعها التقليدي، بل تأثيرها على الديمقراطيات الكبيرة والراسخة التي لن تتمكن مع الوقت من الهروب من الجنوح العالمي للسلطوية، لهذا اقترح بايدن عقد قمة عالمية للديمقراطية، تجمع ديمقراطيات العالم معًا لتقوية مؤسساتها في مواجهة الدول المتراجعة، وهو ما حدث من قبل بعد نهاية الحرب الباردة في أوروبا، إذ قادت الولايات المتحدة جبهة دعم وتعزيز الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم علانية.
فرص الصين والخليج
التهديدات الخفية التي يحملها بايدن للصين والخليج، ستجعلهما يسارعان في الالتقاء بملفات عدة تساعد في زيادة نمو الشراكة بين دول مجلس التعاون والصين، بداية من التجارة والاستثمار اعتمادًا على رصيد متنام خلال العقود الثلاث الماضية.
ترغب الصين في التعاون مع الخليج لدعم التعددية في النظام التجاري العالمي، إذ ساهمت النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ودول أخرى في حقبة دونالد ترامب بالتأثير سلبًا على التجارة الدولية، وهي نقطة ضعف بايدن “الأخلاقي” الذي لن يذهب إلى مناورات سلفه في التعامل مع معارضيه، بل إن مواجهة الإجراءات الأحادية، من المفترض أنها من صلب المشروع الديمقراطي لبايدن، ما قد يساهم في سحب المنطقة الغنية إلى ساحة النفوذ الصيني.
تعاقدت الصين على شراء أكثر من ثلاثة أرباع الوقود الأحفوري من صادرات عمان والسعودية وهي صفقة غير مسبوقة، كما خصصت شركة أرامكو السعودية 10 مليارات دولار لإنشاء مصفاة بالقرب من مدينة بانجين الصينية
كانت الصين قد استغلت مبادرة الحزام والطريق (BRI) وهي إستراتيجية استثمار للتنمية الدولية في تعزيز العلاقات مع قطر والسعودية والإمارات من خلال تمويل بناء المدن والموانئ والمناطق الاقتصادية الخاصة، ما يساعد الأنظمة المطلقة في المنطقة على تحقيق التوازن بين القوة الأمريكية ورأس المال الصيني.
استطاعت الشركات الصينية، تحديدًا خلال السنوات القليلة الماضية، اقتناص فرص مربحة في الخليج، ومنذ عام 2017 فاز كونسورتيوم صيني بعقد 10.7 مليار دولار لتطوير قرية الصيد العمانية التي كانت غير مستغلة بالشكل الأمثل داخل المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم.
كما نجحت إحدى الشركات الصينية في ضخ ثلاثمئة مليون دولار لبناء محطة جديدة في ميناء خليفة خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد شهر من نجاح الصين في التوصل إلى اتفاق مماثل لتطوير ميناء حمد في قطر.
نفس الأمر تكرر مع الكويت، إذ استثمرت الصين 82.2 مليار دولار لتطوير مدينة الحرير، وجعلها محطة شرق أوسطية محورية ضمن مبادرة الحزام والطريق، وبناء على نفس النجاحات أبرمت البحرين عدة صفقات مع شركات التكنولوجيا، في ظل قدرة الصين على توظيف الموارد الاقتصادية التي لا يمكن لأي من أقران الصين الغربيين مضاهاتها.
بخلاف ذلك، تعاقدت الصين على شراء أكثر من ثلاثة أرباع الوقود الأحفوري من صادرات عمان والسعودية وهي صفقة غير مسبوقة، كما خصصت شركة أرامكو السعودية 10 مليارات دولار لإنشاء مصفاة بالقرب من مدينة بانجين الصينية تنفيذًا لعقد تم إبرامه أيضًا عام 2017 لإنشاء صندوق استثمار صيني سعودي بقيمة 20 مليار دولار، وهي خطوة متأخرة نسبيًا في المنطقة.
إذ سبقت قطر الجميع في تأسيس صندوقها الاستثماري مع الصين بقيمة 10 مليارات دولار منذ عام 2014، وهناك تعاون بينهما في مجال صناعة البتروكيماويات، كما اشترت الخطوط الجوية القطرية نحو 5% من خطوط جنوب الصين الجوية.
يتبقى إذن الحوار السياسي المنتظم، وهو لم يُفّعل بالشكل الكافي منذ توقيع اتفاقية عام 2010 لإقامة حوار إستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين لمناقشة القضايا السياسية التي تهم أحد الجانبين أو كلاهما.
ويبدو أن القضايا الحقوقية، التي طالما اتهمت الصين الدول الغربية باستخدامها للتدخل في شؤونها الداخلية ستكون واحدة من محاور التعاون، فضلًا عن مناقشة أمن الخليج والمدى الذي يمكن لها المساهمة في الضغط على إيران لاحترام القواعد الدولية والنظام الإقليمي.
يمكن القول إن حجر الزاوية في الضغط المشترك على النظام الأمريكي لإصلاح نظرته للخليج والصين في آن واحد، متربط بقدرة بكين في الضغط على طهران لإيقاف عمليات تطوير الصواريخ الباليستية وأنشطة إيران الإقليمية وإعادتها إلى مربع آمن في علاقتها بدول الخليج.