تعيش “إسرائيل” قتالًا شرسًا ضد منظمات المجتمع المدني المحلية غير الحكومية، التي باتت منبوذة من المؤسسات الرسمية بسبب ضغوطها وتقاريرها التي تشهر بالسياسات العنصرية للكيان المحتل، وتطورت الحرب بين الطرفين لدرجة اتخاذ إجراءات قمعية ربما تحدث لأول مرة في السياق الإسرائيلي.
صراع مفتوح
تلعب الحكومة مع منظمات المجتمع المدني بأسلحة حادة، تشهر بها وتتهمها بعدم الوطنية وتضيق على مصادر تمويلها، واعترفت بذلك بشكل رسمي على لسان وزير التعليم الإسرائيلي يوآف غالانت خلال شهر يناير/كانون الثاني المنصرم.
كان وزير التعليم قد أصدر تعليمات لوزارته بمنع دخول المنظمات التي تصف “إسرائيل” بأنها دولة فصل عنصري أو توجه أي إهانة للجنود الإسرائيليين بأي طريقة كانت، سواء بإلقاء محاضرات في المدارس والجامعات أم غيرها.
لم يستسلم غالانت في وجه الاتهامات بتقويض “إسرائيل” للديمقراطية وإهدار الحق في حرية التعبير الذي تقلص مؤخرًا لأقصى درجة ممكنة على المعارضة، بما يضع الحكومة الإسرائيلية على عتبات الشمولية، وشدد على توثيق سياساته وتطبيقها بكل حزم، وهو ما ردت عليه المنظمات بتأكيد عزمها توثيق الواقع وتحليله ونشر النتائج للجمهور.
مجتمع متدهور
لا يعيش المجتمع المدني الإسرائيلي بشكل ديناميكي يجعله قابلًا للتعامل مع كل الضغوط، بل يعيش دائمًا تحديات تعرقل مساره، إذ يدفع ثمن الصراع بين القوى الاجتماعية القومية المحافظة الصاعدة والمعسكر الليبرالي والتقدمي واليساري والإنساني المتضائل الذي تمثله بعض منظمات حقوق الإنسان.
يرتفع صوت المحافظين ومنظماتهم المدنية، في ظل الدعم المفتوح من الساسة وخاصة المؤثرين منهم في مؤسسات الدولة، الذين يساهموا مع الحكومة في تشويه منظمات حقوق الإنسان المؤمنة بالمجتمع المفتوح والمؤيدة للحقوق الفلسطينية، الرافضة للاستيطان والاحتلال في الضفة الغربية والحصار في قطاع غزة.
تتنوع الاتهامات التي توجه لهم، لكن أخطرها اتهامهم بالتعاون مع أعداء المجتمع والدولة، في محاولة لنزع غطاء الشرعية عنهم، بسبب ربطهم بالمنظمات المعلنة إرهابية في “إسرائيل”، وهي خطة مرحلية نحو وقف التمويل عنهم وفقًا لقانون الشفافية الذي أثار ضجة كبرى منذ عام 2016، وفجر أزمات مع الأمم المتحدة بشأن حرية التعبير والمسار الديمقراطي.
ينص المشروع على إجبار المنظمات على اتباع شفافية كاملة في كشف مصادر الأموال المتدفقة من الخارج إلى الجهات الفاعلة في المجتمع المدني بـ”إسرائيل”، كما يعطي الدولة الحق في نزع الشرعية عن المنظمات غير الحكومية لا سيما التقدمية منها، والغريب أنه يعطي الحكومة الحق في التشهير بها واتهامها بالعمالة باعتبارها أذرع لحكومات أجنبية.
يستهدف المشروع بشكل واضح المنظمات الداعمة للفلسطينيين التي تطلق على أنشطة “إسرائيل” احتلال، ما يسمح بعرقلة نشاطها الذي يعتمد على الأموال الأجنبية لا سيما الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والمثير أن القانون يسمح بتعامل انتقائي على أساس مصادر التمويل.
تبرر “إسرائيل” إقدامها على هذه الخطوة، بأن الحكومات دائمًا لديها سياسات خارجية وقواعد تجارية وتصويت في الأمم المتحدة، وبالتالي تستخدم هذه المنظمات التي تمولها في “إسرائيل” لإنتاج الوثائق التي تستشهد بها عند اتخاذ إجراءات تخدم أجندتها الخارجية وليس بالضرورة خدمة حقوق الإنسان أو المساهمة في حل الأزمة بين الفلسطينين والإسرائيليين.
يلعب الكيان الصهيوني على فضح المنح المقدمة من أوروبا لتخريب الداخل الإسرائيلي، إذ تنص المادة 15 من المبادئ التوجيهية الخاصة بالاتحاد الأوروبي على تمويل المنظمات الإسرائيلية، وهذا الشرط ليس في المطلق، بل لمن تتضمن برامجه أنشطه تعزز السياسة الخارجية للاتحاد، وهو نفس تعريف “إسرائيل” للعميل الأجنبي.
تروج “إسرائيل” للرأي العالم أن لعبة المنظمات تستخدم بكثافة في العالم من أجل مصالح وأجندات خاصة، لدرجة أنها تتهم الولايات المتحدة نفسها بلعب هذا الدور في العالم بشكل عام وفي “إسرائيل” بشكل خاص، إذ تستخدم المنظمات غير الحكومية كوكلاء للتدخل في الشؤون الإسرائيلية الداخلية.
تستدل الحكومة بذلك على التحقيقات التي جرت في مجلس الشيوخ الأمريكي بشأن تمويل وزارة الخارجية الخارجية الأمريكية عام 2015 لمنظمة سياسية إسرائيلية كانت تدير حملة مخصصة للإطاحة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
الدور المطلوب
تشخص “إسرائيل” دور المجتمع المدني المطلوب بالنسبة لها في اتجاهات محددة، بداية من تعزيز وترسيخ الديمقراطية، والتعبئة في حجم ومضمون المشاركة العامة والاندماج، والأخير المتعلق بمساهمة المجتمع المدني في رأب الصدع الاجتماعي بشأن السياسات الإسرائيلية وخاصة الملف الفلسطيني.
لكن لا تؤيد الحكومة المفاهيم التي يروجها المجتمع المدني غير الحكومي عن تعزيز التسامح والاحترام المتبادل وتحدي السلطات خلال ممارسة أي انتهاك للأعراف الدولية، فالديمقراطية المعترف بها على الأرض الإسرائيلية هي ديمقراطية اليهود دون غيرها، ما يسمح لها بتأكيد المزاعم الفلسطينية التي طالما أكدتها في المحافل الدولية، فـ”إسرائيل” لا تقدم للعالم ديمقراطية مثالية، وبالتالي لا ينبغي الاهتمام كثيرًا باتهامهم بعدم المساواة أو الشمولية.
في المقابل، تستثمر “إسرائيل” في ترويج بعض المفاهيم الجديدة مثل السيادة اليهودية، عن طريق الاستحواذ على أكثر من 66% من منظمات المجتمع المدني، التي تركز على دعم السياسات الإسرائيلية وتفنيد حججها ومواجهة المنظمات التي تروج لخطابات بديلة.
مستقبل المجتمع المدني
تستخدم “إسرائيل” خطابًا سياسيًا بامتياز في التعامل مع مزاعم الخطاب الحقوقي لبعض المنظمات التي تقف صلبة أمام ممارستها، وتؤكد أنه بعد ما يزيد على عشرين عامًا من عملية السلام المتوقفة بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، لا يوجد أي شيء سيتغير، وبالتالي من يجب أن يتغير هم الإسرائيليون، ونظرتهم لمصالحهم الخاصة دون غيرها.
تعيد الحكومة تنشيط المخيلة الإسرائيلية بتداعيات اندلاع انتفاضة الأقصى والثمن الباهظ الذي فرضته عليهم، فضلًا عن سلسلة التصعيدات وسياسة عدم التنازل التي يبديها الفلسطينيون، ما أفقدهم القدرة على السير في طريق السلام الذي لا يعتمد على قرارات القيادة وحدها بل التغيرات الهيكيلة التي تؤثر على الواقع العام المحلي والإقليمي والدولي، ومن خلال هذه المبررات تسعى “إسرائيل” إلى ترسيخ القومية الإسرائيلية في أنماط الحياة والثقافة والنظرة للآخر وخاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
لكن محاولات “إسرائيل” ضرب شرعية منظمات المجتمع المدني التي لها نوازع يسارية وتقدمية وليبرالية، لن تستمر كثيرًا، وستتمكن هذه المنظمات من استكمال مسيرتها، والسر يكمن في نشأة “إسرائيل” نفسها التي جاءت في مرحلة ما بعد الحداثة، وسياقات ما بعد الدولة التي ساهمت في تشرذم المجتمع الإسرائيلي منذ نشأته بسبب التنازع على الهوية.
تعيش الدول التي تأسست على هذا النحو مشكلة كبرى في صياغة المفاهيم، فمفهوم المواطنة في سياقات ما بعد الحداثة لا يوجد استقرار عليه، إذ تمثل الكوزموبوليتانية ـ الانتماء إلى مجتمع عالمي واحد ـ تحديات ما بعد الحداثة للمواطنة، وبالتالي هنا الاتصالات مع الأجانب التي تحاول “إسرائيل” تشويهها، هي عامل مهم في زيادة الوعي بالتنوع الثقافي وإدراك ماذا تعني القيم العالمية، إذ أصبحت هوية الفرد متعددة وعابرة للحدود.
تصطدم رغبة “إسرائيل” في إنشاء دولة سيادة يهودية بالهويات المتضاربة على أرضها، بين دعاة القيم العالمية الذين يقبلون التغيير والانفتاح والتعايش والتعددية الثقافية، ودعاة الهوية الأصولية الذين يريدون عزل أنفسهم عن التأثيرات الأجنبية، ويعادون العولمة في شكل قوى اجتماعية بزعم الدفاع عن مبادئهم التقليدية والقومية المتطرفة والدين، ويطالب هؤلاء باستخدام القوة والوسائل العسكرية لحل المشاكل العرقية والقومية والثقافية في “إسرائيل”.
يمكن القول إن هذه الأفكار المتضاربة والمتناقضة للغاية لها أصول في ماضي الكيان العبري وحاضره، ولهذا يظهر كل هذا الانقسام بين أولويات وقيم منظمات المجتمع المدني، وبين المجتمع الديني والقومي والعسكري، ولن ينتهي.