ترجمة وتحرير: نون بوست
وصف المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم) في تقريره الجديد “إسرائيل” بأنها دولة “فصل عنصري”، ومن المتوقع أن يكون لهذا التقرير تداعيات واسعة النطاق وطويلة المدى. فهو لا يغير المفردات المقبولة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فحسب، بل يغير أيضًا المفاهيم الأخلاقية التي خلقت حالة من الظلم المستمرّة دخلت عقدها الثامن. من شأن طريقة الطرح والتعبير عن هذه القضية أن تساهم في تشكيل السياسة المستقبلية لهذا الصراع التاريخي وتغيّر الإطار الأخلاقي الذي يسمح بإيجاد الحلول وتطبيقها. باختصار، تكتسي اللغة في هذا السياق أهمية بالغة.
إن استخدام مصطلح “الفصل العنصري” يتحدى التفكير الحدسي اليهودي في جميع أنحاء العالم (سواء اعترفت به تلك المؤسسات علنا أم لا) ويسبب معضلات للأطراف الداعمة للكيان الصهيوني (اليهودي منها وغير اليهودي) على غرار المحافظين الجدد والليبراليين والتقدميين. كما أن هذا المصطلح قادر على تغيير التقارير الإعلامية العالمية حول “إسرائيل”، وتقويض تعريف معاداة السامية الذي يعتمده التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست المثير للجدل والحد من تبينه، ومنح الشرعيّة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
في ملاحظة جانبية، اسمحوا لي بتوجيهكم إلى قائمة جديدة من 27 صفحة من المقالات والموارد العالمية حول السبب الذي يجعل مفهوم معاداة الساميّة الذي يعتمده التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست مثيرا للمشاكل ولا يقدّم أي إفادة. إلى جانب تقرير بتسيلم، قامت لارا فريدمان من مؤسسة السلام في الشرق الأوسط بتجميع هذه القائمة في محاولة لوقف تبني مفهوم التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست المثير للانقسامات، كما يحاول اتحاد الطلبة اليهود في المملكة المتحدة ونواب رؤساء الجامعات ووزير الدولة لشؤون التعليم دراسة هذه القائمة.
تصحيح المفاهيم الأخلاقية
نجحت بتسيلم في إدراك قوة اللغة وأهميتها في تكوين العالم الأخلاقي الذي نعيش فيه.
وفيما يلي، الجملة الرئيسية التي تنطوي على العديد من المعضلات الأخلاقية: “في كل المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل في المساحة الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض، يقوم النظام الإسرائيلي بتحقيق وإدامة تفوق جماعة من البشر (اليهود) على جماعة أخرى (أي الفلسطينيين)”. من وجهة نظر هذه المنظمة غير الحكومية، فقد حان الوقت “لتسمية الأمور بمسمياتها” بموجب القانون الدولي: وهي أن “إسرائيل” تمارس سياسة “الفصل العنصري”.
تغيير اللغة يهدف إلى مساعدة الجميع على مواجهة الحقيقة من أجل تحقيق مصالحة فعليّة
لم تعد هذه المنظمة غير الحكومية، التي تأسست سنة 1989، مستعدة للتمييز بين “إسرائيل” والأراضي المحتلة وترسيخ إطار سياسي ينادي بأن “الاحتلال أمر خاطئ” ولكن “إسرائيل” “دولة ديمقراطية”. من خلال تغيير المصطلحات وتصحيح المفاهيم الأخلاقية، لم تعد بتسيلم تعتبر “إسرائيل” من بين الديمقراطيات المحبة للحرية.
إن هذا التغيير الذي طرأ على المفردات والمفاهيم الأخلاقية يعني أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على تقديم نفسها على أنها تواجه “قضايا أمنية مؤقتة” ناتجة عن “نزاعات حول الأراضي”. توضح اللغة الجديدة أننا أمام مؤسسات تطبق ممارسات لا أخلاقية منذ زمن طويل، وانتهاكات حقوق إنسان سببها دستور الدولة، وسياسة تمييز قانونية ومستمرة قائمة على إنكار حق شعب آخر في تقرير مصيره.
لا شك أن منظّمة “بتسيلم” قد فهمت التداعيات العالمية لموقفها ومدى خطورة مفرداتها ولغتها الجديدة. وحسب ما أوضحه المدير العام لمنظمة بتسليم، حجاي إلعاد، في مقال رأي نشرته صحيفة الغارديان، فإن تغيير اللغة يهدف إلى مساعدة الجميع على مواجهة الحقيقة من أجل تحقيق مصالحة فعليّة، مشيرا إلى أن “اعتماد التسمية الدقيقة – أي الفصل العنصري – لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى اليأس بل هو لحظة وضوح أخلاقي وخطوة في مسيرة طويلة يحرّكها الأمل. انظر إلى الواقع على حقيقته وقم بتسميته دون تردد وساعد على تحقيق مستقبل عادل”.
لكن بالتأكيد، هذا الموقف ليس حديث العهد؟
لم تقدّم بتسيلم في بيان موقفها أي معطيات جديدة. ترحب منظمة حقوق الإنسان الفلسطينية “الحق“، التي تأسست في سنة 1979، (أي قبل عشر سنوات من تأسيس منظمة “بتسيلم”) بهذه الخطوة التي اتّخذتها المنظّمة الإسرائيلية، لكنها تذكّرنا أيضًا بأن الفلسطينيين سبق أن قدّموا منذ أكثر من عشر سنوات أدلة إلى المنظمات العالمية، على غرار الأمم المتحدة، حول سياسة الفصل العنصري التي تمارسها “إسرائيل” معهم.
في آذار/ مارس 2017، أصدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا) تقريرها حول الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري. وقد أفضى هذا التقرير إلى استنتاجات مهمة ومبرّرة، بغض النظر عن الضجة التي أحدثتها إدارة ترامب وحكومة نتنياهو يوم نشره.
قد يبدو الأمر مزعجًا، بل وحتى عنصريًا، أننا لا ننتبه إلى معاناة الفلسطينيين إلا عندما يتحدّث عنها اليهود. حدث أمر مشابه خلال الصيف الماضي، عندما نشر المعلق السياسي الأمريكي المفضل لدى الصهاينة الأمريكيين اليساريين، بيتر بينارت، مقالته متخليا عن دعمه لحل الدولتين ودافع عن شكل من أشكال الدولة الديمقراطية الموحّدة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية. في الواقع، هذا الموقف ليس جديدًا، ولكنه يعكس وجهة نظر بيتر بينارت تمامًا مثل اعتماد بتسيلم لمصطلح “الفصل العنصري”.
عندما يتغير العقل اليهودي
إن تجاهل رمزية الأصوات اليهودية الإسرائيلية التي خلصت إلى استنتاجات طويلة الأمد عن الفلسطينيين، هو بالأساس تجاهل للمنطق الذي جعل لغة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني تبقى على ما هي عليه.
لعبت منظمتي بينارت بتسيلم دورا كبيرا في إحداث تغيير طويل المدى، لأن المصطلحات اليهودية التي لم تف أبدا بالغرض تعتبر الأفضل من وجهة نظر اليهود
منذ سنة 1948، كان هناك تسليم في الغرب بالرواية الإسرائيلية عن تحرر الشعب اليهودي وانبعاثه، وأصبح ذلك بمثابة الضرورة التاريخية بعد مقتل ثلث اليهود في العالم خلال الهولوكوست.
يُنظر إلى الدولة اليهودية، وانحيازها لمواطنيها اليهود، على أنه رد فعل مشروع وعادل وضروري ضمن التاريخ اليهودي والعالمي. وقد أصبحت هذه هي اللغة التي نستخدمها لفهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. في الواقع، تعدّ كلمة “صراع” بحد ذاتها تعبيرا عن تلك القواعد الأخلاقية التي تشوه وتقمع الرواية الأخرى.
لذلك عندما يتحرك اليهود، أو المنظمات اليهودية الإسرائيلية الكبرى، للتشكيك في هذه الرواية، فإن ذلك يكتسي أهمية بالغة لأنه يعيد تشكيل المنظومة الأخلاقية التي يهيمن عليها الفكر اليهودي في المقام الأول.
سواء كان ذلك عادلا أم لا، فإن منظمتي “بينارت” و”بتسيلم” لعبتا دورا كبيرا في إحداث تغيير طويل المدى، لأن المصطلحات اليهودية – التي لم تف أبدا بالغرض – تعتبر الأفضل من وجهة نظر اليهود.
الرد اليهودي في المملكة المتحدة
لم يعلّق مجلس نواب اليهود البريطانيين، المنظمة اليهودية الأكثر أهمية في المملكة المتحدة، على تقرير مركز “بتسيلم” الجديد، ولكن هذا الأمر ليس مفاجئا، لأن لفت الأنظار لن يساعده في الحفاظ على الدور الرقابي الذي يمارسه على مفردات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في الآونة الأخيرة، ركز المجلس اهتمامه على الضغط على أعضاء البرلمان والحكومة البريطانية بشأن الإبادة الجماعية التي تُرتكب في حق المسلمين الأويغور في الصين. هذا الأمر يستحق الإشادة، وهو نوع العمل الذي يجب أن يقوم به المجلس.
ومع ذلك، يتضح أن هناك حدودا للتعاطف السياسي والأخلاقي، إذ لا يساوي المجلس بين الفلسطينيين والأويغور، ولا يرى داعيا للاعتراف بأن هناك جرائم خطيرة للغاية تُرتكب في الوقت الراهن، على أساس عرقي وديني وقومي، وسياسة عقاب جماعي باسم دولة “إسرائيل” اليهودية، وكل ذلك بسبب ما حدث لليهود في المحرقة.
عندما يتعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن المجلس يفضل، في أفضل الأحوال، غض الطرف.
يمثّل تقرير مركز “بتسيلم”، الذي يمكنك التأكد أنه تمت دراسته عن كثب من قبل أعضاء المجلس، تحديا للمحاولات اليهودية الإسرائيلية لتقديم “إسرائيل” باعتبارها ضحية للكراهية غير المبررة.
كان صمت المجلس السنة الماضية حيال التهديدات بضم الضفة الغربية أمرا مخجلا ونكسة جديدة. وفي الوقت الراهن، يواجه المجلس تحديا كبيرا يهدد سلطته الأخلاقية الهشة بالفعل.
بسبب تقرير بتسيلم، أصبحت المنظمات التي تتبنى وجهة نظر مختلفة عن الرواية اليهودية، تبدو ضعيفة ومفتقرة إلى الشجاعة
ومن المثير للاهتمام أن نشاهد كيف يحاول المجلس التصدي للاتهامات بشأن سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية. إلى الآن، مازال المجلس محاصرا ضمن القواعد اللغوية والأخلاقية القديمة.
في غضون ذلك، يمكن أن نتساءل عما ستؤول إليه الأمور في المجلس، في ظل تمسكه بتعريف “معاداة السامية” وفق منظور “التحالف الدولي لذكرى المحرقة”؟ في الواقع، تخلق هذه الوثيقة المزيد من الصراعات ومزيدا من قمع حرية التعبير.
لكن ما الذي يحدث عندما تصف منظمة إسرائيلية غير حكومية دولة “إسرائيل” بأنها دولة عنصرية؟ يجب أن نستقي من هذه اللغة الجديدة العبارات اللازمة لإثراء وثيقة “التحالف الدولي لذكرى المحرقة”.
يسبب مركز “بتسيلم” مشكلات للجناحين الليبرالي والراديكالي داخل الحركة الصهيونية. دافعت منظمة “ياشاد“، وهي جماعة ضغط صهيونية ليبرالية لها موقف مشابه لمنظمة “جي ستريت” في الولايات المتحدة، عن حق منظمة “بتسيلم” في التعبير عن آرائها ولكن دون المصادقة عليها.
تعدّ تقارير منظمة “بتسيلم” عن انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربية مصدرا معلومات مهم وموثوق به لمنظمة “ياشاد” وداعميها. ولكن كيف ستكون العلاقة الآن بعد موقف “بتسليم” من سياسات الفصل العنصري؟
تصف منظمة “نعامود” الأكثر تطرفا نفسها بأنها منظمة “يهود ضد الاحتلال”، وعلى عكس منظمة “ياشاد”، تحتفظ منظمة “نعامود” بموقف غامض تجاه الصهيونية بحد ذاتها، ولا شك أنها حريصة على جذب مجموعة واسعة من اليهود الساخطين.
لكن، هل ستنجح منظمة “بتسيلم” في ترسيخ نقد أكثر عمقا للأسس التي قامت عليها الدولة اليهودية؟
بسبب تقرير “بتسيلم”، أصبحت المنظمات التي تتبنى وجهة نظر مختلفة عن الرواية اليهودية، تبدو ضعيفة ومفتقرة إلى الشجاعة.
في الواقع، غيّرت منظمة “بتسيلم” اللغة المستخدمة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وصححت القواعد الأخلاقية. لا ينبغي أن تكون تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية أمرا مخيفا. إنها وجهة نظر ثورية، وهو ما نحتاجه جميعا لنمضي قدما.
المصدر: باثيوس