عندما يقدم شخص ما على فعل عنيف أو مؤذي يستهدف أحد أفراد المجتمع الآخرين، من المنطق أن يتحمل هذا الشخص مسؤولية فعله الذي قام به بكامل إرادته، لكن رغم بساطة وبديهية الأمر، فإننا نلاحظ وجود قسم كبير من البشر يميل إلى تحميل الضحية المسؤولية الكاملة لما تعرضت له من أذى، أو عالأقل جزء منها، في مقابل إعطاء المجرم – حتى إن اعترفوا به كمجرم – الكثير من المبررات لما فعله.
لهذه الظاهرة اسم وهو “لوم الضحية”، ونظرًا لخطرها الشديد على المجتمع عامةً وضحايا العنف والاعتداءات خاصة، خصص لها الباحثون مساحةً كبيرةً في دراساتهم، وقدموا لنا شروحات كثيرة تشمل تعريفها وأسبابها وأمثلة عنها بالإضافة إلى طرق مكافحتها.
هو فعل يحدث عندما تُعتبر الضحية (أو الضحايا) لحادث ما، مسؤولة كليًا أو جزئيًا عن الجريمة التي ارتُكبت بحقها، فتبدأ الضحية بمواجهة سلسلة غير متناهية من ردود الفعل السلبية سواء كانت من المختصين كالعاملين في القانون والمجال الطبي والنفسي أم من وسائل الإعلام أو حتى أفراد العائلة المباشرين وغيرهم من الأقارب والمعارف.
وتتباين درجة اللوم أو التعاطف التي تحصل عليها الضحية بحسب طريقة فهم المجتمع للحادثة ومدى سوء فهمه للموقف، حيث يعتقد البعض أن بعض الضحايا يستحقون ما حل بهم إما بسبب استهتارهم وإما بسبب سوء تصرفهم أو غيرها من المبررات، ما يصعّب عملية التأقلم مع الصدمة لدى الضحايا، بسبب ضغط المجتمع الإضافي عليهم.
ضحايا حوادث العنف بمثابة تذكير لنا بالمخاطر الموجودة في العالم من حولنا
أشكال لوم الضحية
هناك أنماط متعددة من الفهم الخاطئ لطبيعة الحوادث التي ينتج عنها الضحايا، ولطبيعة الشخص المعتدي والمُعتدى عليه، حيث يختار الناس إلقاء اللوم على الضحية عوضًا عن المجرم بسبب إيمانهم بأن الضحية من جلبت الأذى إلى نفسها عن طريق اتباع سلوكيات خاطئة، ولأن المجرم تحكمه طبيعة فطرية أو قوى فوق إرادته تدفعه لأذية الناس.
فيما يلي أشهر النظريات والأسباب التي يتبعها عامة البشر عند اختيارهم لخيار لوم الضحية:
فرضية العالم العادل
تستند فرضية العالم العادل إلى اعتقاد الفرد بأن عالمنا مكان آمن، حيث يحصل الناس فيه فقط على ما يستحقونه من الخير أو الشر، ولأن عالمنا العادل تحكمه المبررات المنطقية والشرعية بنظرهم، فإن الأشياء الجيدة تحدث للناس الطيبين، وعلى العكس أيضًا الأشياء السيئة تحدث للأشرار.
وبالتالي عند مواجهتهم لضحايا جرائم مثل العنف، يتصور هؤلاء الأفراد أن تعرض الضحية للإيذاء كان بسبب خطأ ما من جانبها، وبهذه الطريقة يحافظون على إيمانهم بوجود العدالة وعدم وجود ضحية بريئة تعاني من دون سبب، وإنما يوجد شخص ارتكب خطأ ما فاستحق ما حل به، فيختارون لوم الضحية لتأكيد إحساسهم الضمني بأن كل فرد قادر على التحكم بمصيره بصورة مطلقة.
خطأ العزو الأساسي
يمكن أن تسمّى أيضًا خطأ الإحالة الأساسي أو خطأ الإنساب، وهي باختصار محاولة إسناد الضرر الحادث لضحية ما إلى سماتها الشخصية، عوضًا عن النظر إلى الخطر القادم من البيئة الخارجية والمحيطة بها.
ويحدث هذا الخطأ أيضًا عند الكثير من الأشخاص لكن بصورة عكسية، حيث ينسبون نجاحاتهم على سبيل المثال إلى أنفسهم بينما يحملون العوامل الخارجية مسؤولية إخفاقاتهم بشكل دائم، من دون النظر إلى الموقف بصورة موضوعية.
نظرية عدم وجود احتمالية التعرض للخطر
يعتقد الأشخاص الذين يؤمنون بصحة هذه النظرية – سواء بوعي منهم أم لا – أنه لا يمكن أن يتعرّض أحد للخطر من دون ارتكابه لفعل خاطئ جذب له المخاطر، وهي إستراتيجية نفسية يمارسها المعتقدون بهذه النظرية لحماية أنفسهم من الشعور بالخطر، فتكون آلية التفكير لديهم عند سماعهم لحادثة اغتصاب على سبيل المثال كالتالي:
“هي تعرّضت للاغتصاب بسبب عودتها إلى المنزل بوقت متأخر من الليل، أنا لن أفعل هذا أبدًا، وبالتالي من المستحيل أن أواجه هذا الخطر”.
كما تنص النظرية على أن ضحايا حوادث العنف بمثابة تذكير لنا بالمخاطر الموجودة في العالم من حولنا، لذلك يستخدم البعض هذه الآلية من التفكير لطمأنة أنفسهم وإعطائها إحساس بأمان زائف، من خلال الاعتقاد أن الضحايا ارتكبوا فعلًا خاطئًا، إذا تجنبناه لن نتعرض لما تعرضوا هم له.
أمثلة على سياسة لوم الضحية
العنف ضد المرأة
تتعرض المرأة التي يعنفها شريكها إلى أشكال كثيرة من لوم الضحية، حيث يحاول المعنّف والمجتمع أيضًا تحميلها مسؤولية معاناتها كاملةً، وإرجاع المشكلة إلى سلوكها العدواني أو غير المنضبط مع زوجها على سبيل المثال، أو إلى قبولها للإساءة والتعنيف من الأساس، حيث يُطرح السؤال التالي: لماذا لم تغادر أو تهرب من قبل؟ وفي هذا السؤال بحد ذاته تبرئة للمعنّف من أفعاله وتحميل الضحية ذنب بقائها معه.
يجد هواة لوم الضحايا مجالًا واسعًا لممارسة اعتقاداتهم، مع غض النظر الكامل عن طبيعة حالات الانتحار المعقدة والصعبة على عائلة الشخص المنتحر
من جهة أخرى قد تُلام المرأة المعنّفة من خلال إعطاء الشريك بعض المبررات لأفعاله، مثل إصابته بالتوتر الحاد أو تعاطيه لإحدى المواد المخدرة.
شهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة الكثير من الأمثلة لفتيات ونساء عانين من العنف الأسري على يد عوائلهن، وانتشرت قصصهن على منصات التواصل الاجتماعي، مثل قصة إسراء غريب ووسم #صرخات_أحلام وغيرهن، ورغم حصول هذه القصص على دعم وتعاطف كبير من الجمهور، لوحظ وجود بعض التعليقات التي تتساءل عن السبب الذي دفع المعنف إلى قتل ابنته أو أخته أو زوجته، معبرين عن تأكدهم من وجود سبب وجيه لإقدام الأهل على قتل ابنتهم.
الاعتداءات الجنسية
هي أشهر الحالات التي توضح كيف تعمل سياسة لوم الضحية، ففي الكثير من حالات التحرش أو الاغتصاب يُلقى اللوم على الفتاة التي جذبت الاعتداء لنفسها، إما من خلال ارتداء ملابس معينة وإما بسبب خروجها من المنزل في وقت معين وإما بسبب تعاملها مع الشخص من الأساس والثقة به، وغيرها من التبريرات التي تبرئ المجرم وتلوم الضحية.
وعلى الجهة المقابلة، يصور الأشخاص الذين يملكون عقلية لوم الضحية المجرم على أنه شخص بسيط استسلم لنزواته خلال لحظة ضعف، جرتّه الضحية إليها من خلال وجودها في الزمان أو المكان أو الشكل الخاطئ معه.
حالات الانتحار
في حالات الانتحار أيضًا يجد هواة لوم الضحايا مجالًا واسعًا لممارسة اعتقاداتهم، مع غض النظر الكامل عن طبيعة حالات الانتحار المعقدة والصعبة على عائلة الشخص المنتحر.
آثار ممارسة لوم الضحية
لسياسة لوم الضحية المتّبعة في بعض المجتمعات آثار مدمرة على الضحايا وصحتهم النفسية وقدرتهم على التأقلم مع الصدمة، بالإضافة إلى ترددهم للإبلاغ عن الاعتداءات المستقبلية بحال حدوثها، خوفًا من تلقي اللوم مرة أخرى.
أما الأثر الأخطر لهذه الممارسة هو تخوّف بقية الضحايا من الإفصاح عما تعرضوا له، خوفًا من الضغط الاجتماعي، ويؤدي ذلك إلى تفلّت المجرمين من العقاب وإفساح المجال لهم لارتكاب جرائم أخرى تستهدف كامل المجتمع.
كما يمكن لمحاولات لوم الضحية أن تغيّر مسار الدعاوى القانونية وتساعد المجرمين ومحامييهم على تبرئة المتهمين وإفلاتهم من العقاب.
كيف يمكن مكافحة هذه الظاهرة؟
إن عملية مكافحة هذه الممارسة تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع، سواء كانوا من المختصين والموجودين على تواصل مهني مع الضحايا كالأطباء والمستشارين والمحامين والقضاة، أم كأشخاص عاديين سمعوا بالحادثة، يمكن تلخيص بعض النقاط التي من شأنها وضع حد لسياسة لوم الضحايا:
1. إعطاء الضحايا المجال الآمن للإبلاغ عن حوادث الاعتداء والتعبير عن مشاعرهم.
2. طمأنة الضحايا بأن ليس لهم أي ذنب بما حدث لهم.
3. مواجهة أساليب لوم الضحية عند سماعها والتعبير عن رفضها.
4. عدم السماح للمعتدين بتبرير أفعالهم والتبرؤ منها في حال كانوا من مدمني الكحول أو المخدرات.
5. محاولة فهم حقيقة أنه لا يوجد “ضحية حقيقية” و”ضحية تستحق” بناءً على تحيزاتنا الجندرية السابقة، وأن تلك الأفكار السامة تساهم بانتشار ثقافة الاغتصاب أكثر وتساعد المجرمين على الهروب من عقابهم.