يدل النزوح الملاييني للناس، الظاهرة الأكثر مأساوية الناتجة عن ربيع اليمن ممثلًا بثورة الـ11 من فبراير/شباط 2011، وعن الربيع الممتد من أقصى الغرب العربي حتى أقصى الشرق، على تفاوت التأثير السياسي الجيوسياسي العاصف الذي أحدثه ذلك الربيع قبل عشر سنوات ولا يزال على بلدانه الخمس.
كانت الهجرة منذ عقود سمةً بارزةً وخيارًا قسريًا لآلاف اليمنيين في ظل انسداد الأفق السياسي والاقتصادي والمعيشي، ومع ذلك لم تكن أمرًا متاحًا إلا إلى بلدان محدودة، فقد أصبح جواز السفر اليمني عائقًا رئيسيًا أمام حركة حامليه عبر العالم.
الأمر يتعلق بالآثار المدمرة لسياسات النظام السابق، التي حولت اليمن إلى ثاني أهم دولة لنشاط القاعدة بعد أفغانستان، وفقًا للتصور المشكوك في مصداقيته الذي بقي الغرب يسوقه عبر خطابه السياسي والإعلامي والأمني عن اليمن ربما بدفع مقصود من المملكة المجاورة.
ربط اليمن بالإرهاب كان يلقى هوى لدى الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح لأنه شكل بالنسبة له أحد أسباب البقاء على رأس السلطة في بلد محفوف بالمخاطر، ولأنه أبقى أبواب اليمن وسماءه مشرعة للنشاط الأمني الخارجي بما في ذلك الاستهداف المباشر لإرهابيين محتملين وقتلهم خارج إطار القانون بواسطة الطائرات الأمريكية دون طيار.
شكل الإرث الثقيل من عهد صالح فيما يتعلق بصعوبة الهجرة تحديًا ثقيلًا وحربًا موازية على نازحي الربيع العربي الذين استهدفوا في اليمن كما في غيره من بلدان الربيع، بشكل ممنهج من المتدخلين الإقليميين وأدواتهم السياسية والمسلحة بما فيها جماعة الحوثي المدعومة من إيران، التي مثلت رأس حربة الثورة المضادة المعززة بإمكانات أنظمة وبأدوات الدولة العميقة.
لم تكن الملاذات الجديدة بالنسبة للنخب النازحة إلا محطات مؤقتة، إذ بقيت أعينها على العودة إلى بلدها لاستعادة المبادرة
ترك النازحون أحلامهم وخيبات أملٍ ثقيلة في بلدهم، وذهب معظمهم إلى بلدان الشتات خفيفًا حتى من الإمكانات المادية والمالية الضرورية، وإن كانوا قد باشروا في إعادة تفعيل دورهم السياسي والحقوقي والإعلامي في بلدان النزوح، فإنهم وجدوا صعوبة في مأسسة نشاطهم والنجاح في بناء مواقف متماسكة، وفي إيصال رسائل مؤثرة للعالم الخارجي.
لقد جرى تنميط النازحين بسرعة واحتسابهم ضمن دوائر سياسية وأيدولوجية بعضها في مرمى حرب التحالف السعودي الإماراتي نفسه كـ”الإخوان المسلمين”ً، إذ تحول كل من استقر في تركيا أو ماليزيا وفقًا لهذا التصنيف “إخوانيًا” حتى لو لم يكن كذلك، وهو أمر أثر حتى على مستوى تعامل منظمة الأمم المتحدة ومبعوثيها المتتابعين مع النخب النازحة خصوصًا المحسوبة على ثورة الـ11 من فبراير/شباط.
لم تكن الملاذات الجديدة بالنسبة للنخب النازحة إلا محطات مؤقتة، إذ بقيت أعينها على العودة إلى بلدها لاستعادة المبادرة وظلت قلوبهم مع آلاف الرفاق الذين اندفعوا للقتال في الجبهات مفعمين بالأمل بتحقيق نصر سريع على الانقلابيين، قبل أن يرتد الأمل على أولئك الرفاق خيبات ثقيلة، لطالما ألقت بدورها على النازحين عبئًا معنويًا ونفسيًا.
خريطة النزوح اليمني
توزع النازحون اليمنيون على عدة ملاذات رئيسية، هي:
السعودية
يوجد في هذا البلد ملايين اليمنيين، لذا سينطبق توصيف النازحين على أولئك الذين استقروا في السعودية مضطرين، لدوافع سياسية أو للعمل في إطار مؤسسات الشرعية وضمن الجهد الذي تقوده السعودية ضمن حرب شاملة تخوضها في اليمن.
لا توجد إحصائية دقيقة، لكن من الواضح أن هناك المئات من السياسيين والقادة العسكريين والإعلاميين والناشطين الذين استقروا في الرياض وجدة ومكة، في سياق تموضع مؤقت، يتقدمهم الرئيس ونائبه والحكومة وكبار قادة الدولة.
الإمارات
هناك وجود انتقائي للنازحين اليمنيين في هذه الدولة، فمعظم من استقر في الإمارات، مرتبط سلفًا بالأجندة الإماراتية إلى حد يمكن حصرهم في مؤيدي المشروع الانفصالي في جنوب اليمن، ممثلين في المجلس الانتقالي الجنوبي وقادة الميلشيات وعدد من السياسيين الذين يدورون حول المشروع الإماراتي وأولئك المحسوبين على جناح نجل الرئيس صالح في المؤتمر الشعبي العام، وآخرين ينتمون إلى الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال.
مصر
تنامى عدد اليمنيين في هذا البلد العربي الذي لم يكن يشترط عليهم الحصول على تأشيرة مسبقة، ليصل إلى مليون وأكثر، إذ كانت مصر الوجهة الأولى لهم، ومعهم حملوا إليها ملايين الدولارات التي ضخوها في الاقتصاد المصري، ولا سيما أنهم اشتروا آلاف العقارات والمساكن.
استقر المئات من النازحين وطالبي اللجوء في كل من هولندا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا
واللافت أن النشاط السياسي هناك يتعرض لقيود عديدة، الأمر الذي أبقى على وجهة نظر سياسية بعينها، غالبًا ما تتماهى مع الأجندات السعودية والإماراتية والمصرية.
تركيا
ازداد عدد النازحين إلى هذا البلد ليصل إلى نحو 30 ألف نازح معظمهم يتركز في إسطنبول، رغم القيود التي تفرضها الحكومة التركية على حاملي الجوازات العادية.
يتميز الوجود اليمني في تركيا بأنه نخبوي ويعكس تنوعًا سياسيًا، ومع ذلك تعرض اليمنيون في هذا البلد للتنميط، إذ تم ربطهم بالأجندة التركية التي يتهمها إعلام التحالف السعودي الإماراتي بدعم الإخوان، وهي اتهامات مبالغ فيها إلى حد كبير.
ماليزيا
يصل عدد اليمنيين في هذا البلد إلى نحو 20 ألف معظمهم نازحون، وهم كذلك نخبويون، إذ يوجد في أوساطهم سياسيون ومسؤولون سابقون ورجال أعمال وأكاديميون وغيرهم.
أوروبا
استقر المئات من النازحين وطالبي اللجوء في كل من هولندا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا، وينشطون في مجالات سياسية وحقوقية وإعلامية، ويتكاملون مع بقية اليمنيين في بلدان النزوح ويتقاسمون معهم القناعات والمواقف السياسية ويتأثرون بعوامل وخطوط الانقسام الذي يهيمن على معظم اليمنيين في بلاد النزوح.
ضوء في نفق الشتات الطويل
احتاج ثوار الربيع العربي وقادته ونخبه في اليمن إلى وقت ليعيدوا استجماع قواهم وتموضعهم في أماكن النزوح الجديدة، وهو تموضع تحكمت فيه عوامل عديدة، أبرزها: الأجندة السياسية للسعودية والإمارات وغيرها من دول الإقليم، والانتماء السياسي لهذه النخب، وقابلية العواصم التي ذهبوا إليها للاستيعاب، وقلة العوائق التي غالبًا ما تصادف القادمين من اليمن.
دخل النازحون فيما يمكن وصفه نفق الشتات، ومع ذلك استطاعوا أن يشعلوا الضوء في مكان ما من هذا النفق، دون أن يكون بوسعهم المضي إلى نهايته، والأمر في تصوري يرتبط بتبلور مشروع سياسي متماسك، يستطيع أن يتجاوز الهندسة الحاليّة للمشهد اليمني، ولمستقبل الحرب والسلام في هذا البلد.
ومع ذلك يمكن اليقين بأن النزوح تحول إلى شكل من أشكال الحضور الفاعل في العمق الجغرافي لليمن، عبر التأثر الذي مارسه النازحون من وراء الحدود ومن وراء البحار، تتقدمهم قيادات ثورة فبراير والسياسيون والإعلاميون والناشطون على تعدد اهتمامهم ومنابرهم.
خاض الانقلابيون معركة استئصال عنيفة للمقومات النوعية التي استند إليها الربيع اليمني وثورته، وبالأخص المؤسسات الثقافية والإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني التي أُغلقت ونهبت محتوياتها في العاصمة صنعاء وفي عدن وغيرها من المدن.
وعلى الرغم من ذلك استطاعت النخب الثورية والسياسية أن تعيد إطلاق القنوات المؤيدة لثورة فبراير/شباط 2011، والمواقع الإلكترونية واستحداث منصات إعلامية من أماكن إقامة هذه النخب في الشتات، فقد تحولت قناة “بلقيس” الفضائية التي أسستها القائدة البارزة لثورة فبراير/شباط والناشطة الحقوقية والسياسية الحائزة على جائزة نوبل توكل كرمان، إلى مركز اهتمام اليمنيين وصاحبة المركز الأول في نسب المشاهدة.
الطلاب بدورهم وعبر اتحاداتهم في المهجر أعادوا صياغة دور هذه الاتحادات، كمنظمات تحوي أكثر الشباب حيوية
أرست هذه القناة وقنوات تتبنى النهج نفسه مثل “يمن شباب” خطًا تحريريًا ومهنيًا متميزًا يدعم خط الثورة والتغيير وينحاز لخيارات اليمنيين، ويمتلك تأثيرًا واضحًا على قناعات الناس وتوجيه وعيهم حيال واقع يمني يقع تحت تأثير عمليات استقطاب حادة.
الطلاب بدورهم وعبر اتحاداتهم في المهجر أعادوا صياغة دور هذه التشكيلات، كمنظمات تحوي أكثر الشباب حيوية، حيث باتت قضية التغيير والدفاع عن ربيع اليمن هي القضية المركزية وباتت أنشطة هذه الاتحادات مدرسة حقيقية لتنمية الوعي السياسي.
الداء المتنقل
رغم التماسك الظاهري الذي يبدو عليه موقف النخب السياسية والثورية اليمنية في الشتات، فإن ثمة انقسامات أثرت وتؤثر بعمق في بناء جبهة سياسية موحدة لإسناد الحرب إلى الانقلابيين والانفصاليين، وذلك بفعل خطوط الصدع التي نشأت جراء الصراع الدائر على السلطة من منطلقات أيديولوجية ومناطقية، وبفعل الاستقطابات التي تغذت على الأجندات السعودية والإماراتية، وتغذت كذلك على جذور الصراع بين الأحزاب التقليدية والأيديولوجية على حد سواء، التي أعادت دولتا التحالف إحياءها بشكل متعمد.
لقد ساهم هذا الانقسام إلى حد كبير في تعطيل الدور المفترض للنخب اليمنية السياسية والثورية في بلدان النزوح، الأمر الذي أبقى الفضاء السياسي متاحًا لقوى الأمر الواقع الانقلابية والانفصالية لتملأه بمشاريعها السياسية المعادية للديمقراطية والحرية والتغيير.
تحد تستوعبه النخب السياسية والثقافية والفكرية في بلدان النزوح جيدًا، وتكاد لا تتوقف عن النقاش والعصف الذهني
والأخطر من نفوذ قوى الأمر الواقع هو المجال الذي يتاح اليوم لدولتي التحالف للعبث بالجغرافيا اليمنية والدفع بالبلاد نحو صيغ خطيرة من التصدع الجيوسياسي الذي يستهدف وحدة اليمن وسلامة أراضيه.
إنه تحد تستوعبه النخب السياسية والثقافية والفكرية في بلدان النزوح جيدًا، وتكاد لا تتوقف عن النقاش والعصف الذهني، وصولًا إلى اجتراح مشروع سياسي، ما فتئ يصطدم بقناعات متخشبة وبحالة انقسام يصعب ترميمها، فكأن هذه النخب جلبت معها من اليمن خلافاتها، رغم إدراكها أن أسس الصراع لم تعد كما كانت وأن التحديات لا تحتمل التباين السياسي الحاد، ومن يدري لعلها تتوصل أخيرًا إلى وحدة موقف حقيقية يتمخض عنها مشروع سياسي يستطيع التعامل مع التحديات الناشئة على الأرض وهي كبيرة ومعقدة وتشكيلات أمر واقع سياسية وعسكرية شديدة الصلابة والمراس.