ترجمة وتحرير: نون بوست
أحيى التونسيون الذكرى العاشرة لثورة الياسمين الشهيرة من خلال شهر حافل بالاضطرابات الاجتماعية والدعوات للتغيير. وخلّفت حالة الجمود السياسي والأزمة الاقتصادية المزمنة هتافات تدعو مرة أخرى لسقوط النظام. حسب راشد الغنوشي، رئيس البرلمان وزعيم أحد أقدم الأحزاب التونسية، ينبغي عدم إنكار التغيير الذي أحدثته الثورة، إلا أن الأمر سيستغرق أكثر من عقد لإزالة الأضرار التي سببتها سنوات من الديكتاتورية، إلى جانب ضرورة الاعتماد على مبدأي الثقة والتسوية للمضي قدما.
وفي مقابلة تتحدّث عن العقد الماضي، قال الغنوشي، المؤسس المشارك لحركة النهضة، وهي حركة ديمقراطية إسلامية وإحدى أبرز الأحزاب في تونس، إن البلاد تغلبت على العديد من العقبات، كما أعرب عن تفاؤله بشأن الديمقراطية التونسيّة. ففي 14 كانون الثاني/يناير 2011، وضعت الاحتجاجات التي دامت 28 يوما حدا للحكم الاستبدادي لزين العابدين بن علي الذي استمرّ 24 سنة، كما ألهمت حركات مماثلة في جميع أنحاء العالم العربي. وفي الوقت الذي سيطرت فيه الديكتاتورية على مصر واندلعت الحروب الأهلية في بلدان أخرى، كانت تونس تحاول إرساء الديمقراطية “الناشئة”، وأطلق عليها لقب “الاستثناء العربي”.
فاز حزب حركة النهضة، الذي تأسس سنة 1981 والذي كان نشاطه ممنوعا خلال فترة حكم بن علي، في أول انتخابات حرة في تونس سنة 2011، أي بعد تسعة أشهر من الإطاحة بالديكتاتور، ومنذ ذلك الحين، ظلّ هذا الحزب في السلطة بشكل شبه مستمر.
يتزايد الشعور بالإحباط إزاء الفوضى التي أحدثها القادة السياسيون منذ سنة 2011، مع إفلاس الشركات الحكومية عمليا وتجاوز معدل البطالة بين الشباب نسبة 35 بالمئة
صرّح الغنوشي قائلا: “لا أحد يستطيع أن يقول إن الديمقراطية لم تحقق تغييرا حقيقيا لشعبنا. فبرلماننا يتكون من 29 بالمئة من النساء وقد وافقنا على الدستور وقمنا بتمكين السلطات المحلية في سعينا لتحقيق اللامركزية. في إطار الميزانية الأخيرة الخاصّة بعهد بن علي، أي قبل الربيع العربي، خُصّصت 82 بالمئة من الأموال لفائدة المدن الساحلية. في المقابل، مثّلت إعادة تركيز الاستثمار في توليد الفرص في كل مكان من البلاد التونسيّة أولوية قصوى خلال الفترة الديمقراطية”.
الحقيقة على أرض الواقع
رغم ذلك، قد تسير في شوارع العاصمة التونسيّة باحثا عن مثال حقيقي لمدى نجاح الديمقراطية التونسية، دون جدوى. عوضا عن ذلك، كانت هناك مظاهرات جماهيريّة على مستوى البلاد وأعمال شغب ليلية وإضرابات واعتصامات في حركة تُصوَّر أحيانا على أنها “ثورة ثانية”. نفّذت قوات الأمن الأسبوع الماضي اعتقالات جماعية شملت قاصرين ومنعت بعنف الاحتجاجات النهارية وأعمال الشغب الليلية ضد الفقر والفساد وقمع الشرطة والبطالة.
يتزايد الشعور بالإحباط إزاء الفوضى التي أحدثها القادة السياسيون منذ سنة 2011، مع إفلاس الشركات الحكومية عمليا وتجاوز معدل البطالة بين الشباب نسبة 35 بالمئة بالإضافة إلى تفشي معدّلات التضخم. صرّح الغنوشي لموقع “ميدل إيست آي” أن “الناس محقون في الاحتجاج لأن توقعاتهم كانت عالية والتقدم الاقتصادي كان أبطأ مما كانوا يعتقدون، ثم تفاقم الوضع بسبب جائحة كوفيد -19“. لكنه أضاف أنه يجب التمييز بين المواطنين الذين يتظاهرون بشكل سلمي من أجل المطالبة بحقوقهم والمواطنين “المتواجدين بالأساس لإلحاق الضرر بالشوارع”.
علاوة على ذلك، قال هذا السياسي، الذي يتحمل حزبه مسؤولية جزئية عن الأزمة الحالية، إنه لا يمكن اختزال الديمقراطية في الإدلاء بالأصوات.
متظاهرون تونسيون يواجهون ضباط شرطة يشكلون درعا بشريا أمام وزارة الداخلية في العاصمة تونس يوم 30 كانون الثاني/يناير 2021
أضاف الغنوشي قائلا: “حملت الثورة شعاري الحرية والكرامة. لقد عملنا خلال السنوات القليلة الأولى على تكريس الحريات التي ناضل الناس من أجلها في أحد أكثر الدساتير تقدمية في العالم العربي، لكن من الصعب تحقيق الكرامة لأن ذلك يتطلّب تصحيح أخطاء ترتّبت عن 60 عاما من الديكتاتورية. لذلك اتخذنا خطواتنا الأولى، وأنا متأكد من أنها ليست كافية وأن شبابنا ليس راض بهذا الوضع ونحن نتفهم إحباطهم”.
في الواقع، شدّد الغنوشي على أن الإصلاح يستغرق وقتا، وأن الأزمة تتطلّب التفكير في السياقات الأوسع للجغرافيا السياسية والإرهاب والركود العالمي وانخفاض معدلات النمو المستمر ووباء فيروس كورونا، إذ قال: “عندما سارت بلادنا في هذا الطريق، لم نكن نتوقع الظروف الصعبة التي سنواجهها”.
المبادئ التوجيهية
أضاف الغنوشي أنه في ظل الوضع الراهن، وفي الوقت الذي تواجه فيه البلاد أزمة غير مسبوقة متعددة الأوجه، أضحى بإمكان الناس أن يستمدوا بعض الأمل من التاريخ، مشيرا إلى أن تونس استطاعت تجاوز العديد من العقبات من خلال استعداد مختلف الجهات الفاعلة فيها، التي تشكل ديمقراطيتها، للعمل معا ووضع مصلحة البلاد في المقدمة. وقال الغنوشي مستدركا: “يجب أن يكون هذا هو مبدأنا التوجيهي ونحن نمضي قدما”.
يعتقد الغنوشي أن سر قصة نجاح تونس هو التوافق والتفاهم، ونظرا للدور الذي تضطلع به حركة النهضة، ادعى أن حزبه سرعان ما أدرك الحاجة إلى العمل مع الآخرين لتحقيق التقدم.
أردف الغنوشي قائلا: “لذلك كان دورنا يقوم على الشراكة، وهو دور له مصلحة قوية في إرساء الديمقراطية التونسية. لطالما كنت صريحا بشأن حقيقة أن مصالح تونس تأتي قبل مصالح حزبنا”.
“هذه ليست مجرد كلمات، ففي مناسبات عديدة على امتداد السنوات العشر الماضية قدمنا تنازلات لضمان التقدم في بعض الوضعيات، بما في ذلك التنحي عن الحكم في سنة 2014، ليس لأننا خسرنا الانتخابات، وإنما من خلال الحوار الوطني”.
كان الحوار الوطني، الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 2015، مبادرة من اللجنة الرباعية – المكونة من الاتحاد العام التونسي للشغل، ومعهد أرباب العمل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس – بهدف حل الأزمة السياسية لسنة 2013.
الغنوشي: جعلنا السياسة القائمة على توافق الآراء شعارنا ونعتقد أن الديمقراطيات الانتقالية تحتاج إلى مثل هذا التوافق لتكون قادرة على حماية نفسها من الانقسام والصراع
في إطار خارطة الطريق، وافقت الحكومة التي قادها حزب حركة النهضة آنذاك على تسليم السلطة إلى حكومة الكفاءات المؤقتة المستقلة للتحضير لانتخابات جديدة. ومع ذلك، قد تفسر غريزة البقاء أيضا نهج الشراكة. في الواقع، تهيمن أحزاب الوسط على النسيج السياسي في تونس، والتي تتنافس على مساحة مع حركة النهضة وأحزاب أخرى، في منافسة مربكة من أربع محاور. وفي مثل هذا السياق، لا بد من تقديم بعض التنازلات لضمان البقاء.
على أية حال، يبدو أن المركز الفريد الذي تحظى به النهضة، باعتبارها الحركة الإسلامية الديمقراطية في تونس وربما أكثر حزب غير موثوق به، يعدّ عاملا تكوينيا بالنسبة للحزب والدولة على حد سواء.
أضاف الغنوشي: “لقد جعلنا السياسة القائمة على توافق الآراء شعارنا ونعتقد أن الديمقراطيات الانتقالية تحتاج إلى مثل هذا التوافق لتكون قادرة على حماية نفسها من الانقسام والصراع”.
قانون المصالحة
ربما يكون “قانون المصالحة الإدارية” لسنة 2017 المثير للجدل أكبر مثال على السياسة القائمة على توافق الآراء. فقد منحت هذه المبادرة حصانة كاملة لموظفي الخدمة المدنية المتورطين في الفساد في ظل النظام السابق وسمحت لهم بالعودة إلى مراكز السلطة.
اعتبر العديد من التونسيين، بمن فيهم أعضاء من حزب حركة النهضة، أن موافقة الديمقراطيين المسلمين، ثم الحزب الثاني في الحكومة والذي كان بحد ذاته ضحية للديكتاتورية، هذا الأمر بمثابة خيانة عظمى.
مع ذلك، يتحدث الغنوشي حاليا عن المصالحة الكاملة مع حكام النظام السابق باعتبارها أولوية رئيسية. وقد كلّف مؤخرا أحد قادة النظام السابق، محمد الغرياني، بمهمة المصالحة الوطنية واستكمال ملف العدالة الانتقالية.
يُذكر أن الغرياني كان الأمين العام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل الذي ينتمي إليه بن علي. وأوضح الغنوشي: “لقد عشنا التهميش، ولا نريد أن تتكرر هذه التجربة مع أي من القوى الحاكمة في البلاد، أيا كان موضوع النقاش. وينبغي أن يكون الهدف النهائي للعدالة الانتقالية هو الوصول إلى مصالحة وطنية حتى نتمكن من المضي قدما نحو المستقبل، غير مثقلين بأعباء مشاكل الماضي”.
النظام الانتخابي الذي كنا نتبعه منذ الانتخابات الأولى التي أجريت بعد الثورة أدى إلى تفكك النظام السياسي وحال دون ظهور أغلبية ساحقة يمكنها أن تتحمل مسؤولياتها في الحكم
مع ذلك، تدل قضايا المصالحة والعدالة الانتقالية على أن السياسة القائمة على توافق الآراء لا تشكل أكبر قوة للديمقراطية التونسية فحسب، بل إنها تمثل أيضا نقطة ضعفها الرئيسية.
لقد أبقت المفاوضات التي لا تنتهي الحكومات المتعاقبة في حالة من الجمود شبه الدائم، مما أدى في نهاية المطاف إلى تقديم تنازلات غير مفهومة. ونتيجة لذلك، تتفكك الأحزاب السياسية ويتحول الناخبون إلى قوى أكثر انتقادا ومناهضة للنظام.
كان الناس يتساءلون عن كيفية الخروج من الأزمات المستمرة التي تعصف بالديمقراطية في البلاد. وعلى غرار عدد متزايد من الأحزاب السياسية، يريد الغنوشي إرساء قانون انتخابي جديد.
يبين الغنوشي: “النظام الانتخابي الذي كنا نتبعه منذ الانتخابات الأولى التي أجريت بعد الثورة أدى إلى تفكك النظام السياسي وحال دون ظهور أغلبية ساحقة يمكنها أن تتحمل مسؤولياتها في الحكم ويمكن أن تخضع بدورها للمساءلة من قبل الشعب. لذلك نحن بحاجة إلى إصلاح النظام الانتخابي إذا كنا لا نريد أن تنهار ديمقراطيتنا”.
المصدر: ميدل إيست آي