بدأت مؤسسة المحظرة الشنقيطية الكبرى، مطلع الأسبوع الحالي، في استقبال طلابها الموريتانيين، وتعويض مركز تكوين العلماء الذي يرأسه العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو الذي تم غلقه قبل نحو سنتين ونصف. محظرة جديدة لتدريب العلماء تأسست بدعم إماراتي، ما جعل البعض يتساءل عن هدفها؟ وهل تكون نسخة موريتانية لنموذج إماراتي من تخريج رجال الدين؟
المحظرة الشنقيطية الكبرى
تأسست المؤسسة بموجب مرسوم حكومي في 22 من مايو/أيار 2019، ويقول القائمون عليها إن الهدف منها النهوض بمهمة تكوين وتأهيل العلماء في علوم الشريعة واللغة العربية واسترجاع الصورة الناصعة للعالم الموريتاني بموسوعيته واعتداله البعيد عن الغلو والتطرف بجميع أشكاله.
نعني بالمحاضر (أو المحاظر) الموريتانية، الجامعات التقليدية التي تُخرِج العلماء الكبار في مجالات اللغة والفقه والقرآن والحديث وعلم الأصول والسيرة وغيرها، فهي ابتكار موريتاني فريد من نوعه لتدريس العلم والمعرفة بأعلى المعايير والمستويات في ظروف بدوية صعبة وأوضاع اقتصادية ومناخية قاسية، وتُمكِن المحظرة طلابها من حفظ المتون الكثيرة وفهمها واستيعابها.
يتهم الموريتانيون القائمين على الحكم في الإمارات بالسعي إلى ضرب الإسلاميين في كل مكان من الخليج العربي إلى المحيط
تخصص “المحظرة الشنقيطية الكبرى” التي تتخذ من مدينة أكجوجت شمال البلاد مقرًا لها، للمتميزين من طلبة المدارس القرآنية والشرعية التقليدية وتهدف إلى تخريج العلماء، على أن توزع المراحل الدراسية بالمحظرة الكبرى بين الإجازة ودرجة الماجستير والدكتوراه، وتتولى وزارة الشؤون الإسلامية، بالتعاون مع رابطة علماء موريتانيا المقربة من رأس النظام الحاكم في البلاد، الإشراف على هذه الجامعة التعليمية الجديدة.
ووفق رئيس المحظرة تقي الله ولد الطالب جدو، فإن الهدف من هذه المؤسسة جعل خريجيها “علماءً فعلًا مؤهلين للإبداع والاندماج في الحياة النشطة ولأداء الدور المَنُوط بهم”.
يذكر أن الدراسة انطلقت في مبنى مؤقت للمحظرة، في انتظار اكتمال تشييد وتجهيز المركب الجامعي، الذي يشيد بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تتحمل موريتانيا تكاليف التسيير الإداري بينما تتكفل الإمارات ببناء وتجهيز المركب الجامعي وبالمصاريف المتعلقة بالأساتذة والطلاب (السكن والمعاش والنقل).
تعويض غلق مركز تدريب العلماء
يرى العديد من الموريتانيين أن هذه المؤسسة الرسمية للتعليم الديني العالي، جاءت لتعويض “مركز تكوين العلماء“، الذي تم غلقه في سبتمبر/أيلول 2018، فالحكومة تحاول التغطية على إغلاق المركز الذي يرأسه العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو.
وأرجعت السلطات الموريتانية قرار الغلق حينها إلى ما ينشره المركز من “تطرف وغلو” وفق قولها، وهو قول مردود عليه وفق المشرفين على هذه المؤسسة التعليمية التي تسعى إلى إعداد علماء مؤهلين لاستيعاب إشكاليات الواقع.
وفق عدد من الدارسين به، ساهم المعهد بقدر كبير في نشر قيم التسامح والاعتدال في المنطقة وخاصة في غرب القارة الإفريقية، فالمركز لا يكتفي بتقديم دروسه للطلبة القادمين من موريتانيا فقط، بل من مختلف أنحاء العالم خاصة دول الجوار.
وكان هذا المركز بمثابة الفكرة الرائدة لتطوير المدارس التعليمية العتيقة التي حفظت هوية الموريتانيين، بعد أن عجزت الدولة عن تطويرها وعجز كثير من أهل العلم والخبراء الذين قدموا أطروحات جميلة غير أنها لم تجد طريقًا للتطبيق والتنفيذ.
محاولة إماراتية للسيطرة على التعليم الديني
تسعى السلطات الموريتانية وحلفاؤها العرب من وراء إنشاء “المحظرة الشنقيطية الكبرى” إلى استيعاب المؤسسة لخريجي المحاظر (المدارس الدينية) وتوظيفهم، حتى يكونوا تابعين للنهج الرسمي فقط، وكي لا تكون لهم آراء مستقلة خارج ثوب السلطة، فهي تسعى إلى خلق تيار إسلامي جديد لها في موريتانيا يقوده بعض الشيوخ التابعين لها على غرار عبد الله ولد بيه، وهو ما ظهر جليًا حين استضافت نواكشوط لأول مرة مؤتمر “علماء إفريقيا ضد التطرف والاقتتال” الذي نظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الممول إماراتيًا.
هذا المؤتمر حظي بحضور الرئيس الموريتاني ولد الغزواني وبرعاية واهتمام واسع من الدولة والإعلام الموريتاني والإماراتي، وهو ما يفسر رغبة أبو ظبي الجامحة في إنشاء تيار ديني جديد تابع لها على خطى السعودية التي تواليها بعض التيارات الإسلامية في موريتانيا.
يذكر أن الإمارات كان لها القول الفصل في إغلاق مركز تكوين العلماء قبل سنتين، فهذا البلد يسعى جاهدًا لتأزيم الوضع في موريتانيا خدمة لمصالحه الإقليمية وضربًا لكل نفس إسلامي يخالف توجه أبناء زايد.
تعد المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الإمارات إحدى وسائل القوة الناعمة التي يستخدمها أبناء زايد من أجل شراء ولاءات المسؤولين في موريتانيا
يتهم الموريتانيون القائمين على الحكم في الإمارات بالسعي إلى ضرب الإسلاميين في كل مكان من الخليج العربي إلى المحيط، رغبة منهم في إبعاد كل من ينافسهم الحكم في المنطقة العربية عن طريقهم، ذلك أن الحكم لهم وحدهم ولا يحق لغيرهم الوصول إليه حتى إن اختارهم الشعب عن طريق الصناديق.
يتبين من هنا أن الإمارات تسعى جاهدة للسيطرة على التعليم الديني الموريتاني، حتى تفرض سيطرتها كليًا على البلاد، فهي تعلم يقينًا ما للعلماء من مكانة مهمة في المجتمع الموريتاني وليس لأي طرف أن يفرض سيطرته على بلاد شنقيط دون أن يسيطر على علمائها.
ويرجح العديد من الموريتانيين أن إغلاق مركز تكوين العلماء المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين تم بإيعاز من الإمارات، فقد ظل المركز طويلًا بمثابة المؤسسة الدينية الوحيدة لتكوين العلماء وتخريجهم، من دون أن تعترض الجهات الرسمية على مناهجه أو طريقة إدارته.
نفهم من هنا أن هذه المحظرة الجديدة التي تم إنشاؤها مؤخرًا، تأتي ضمن صفقة خارجية تم خلالها إغلاق المركز الأول، وذلك قصد سيطرة النظام على المنابر الدينية في البلاد والسماح للأيادي الخارجية بالتدخل في شؤون البلاد، أسوة ببقية الأنظمة العسكرية في البلاد العربية.
جزء من خطة إماراتية أشمل
السيطرة على المجال الديني في موريتانيا، يعتبر جزءًا من خطة إماراتية أشمل، فهي تضع هذا البلد المغاربي نصب عينها منذ سنوات عدة وتسعى لبسط نفوذها هناك نظرًا لأهمية موقعها الإستراتيجي، فموريتانيا تقع بين الجزائر والمغرب وعلى شواطئ المحيط الأطلسي ناهيك بالحدود الإفريقية بين السنغال الجنوبية ومالي الشرقية، أي أنها مفترق طرق بين إفريقيا والعرب، وتمتلك موانئ من أغنى موانئ العالم من حيث الثروة السمكية والمعدنية.
تسعى الإمارات للسيطرة على المجال الديني، فضلًا عن المجال الاقتصادي، ونفهم ذلك من خلال مشاريعها هناك، حيث دخلت بقوة على الساحة الموريتانية بمشاريع اقتصادية كان أبرزها ما تم في مارس/آذار 2018، حين أعدت شركة مجموعة الإمارات الاستثمارية مخططًا شاملًا لمدينة نواكشوط وبسط نفوذها على مينائها.
تعد المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الإمارات إحدى وسائل القوة الناعمة التي يستخدمها أبناء زايد من أجل شراء ولاءات المسؤولين في موريتانيا، قصد تنفيذ أجنداتها هناك وإقصاء كل الأطراف التي ترفض توجهها.
كما تسعى أيضًا للسيطرة على الإعلام الموريتاني، عبر تمويل مؤسسات عديدة، على غرار موقع “الرؤية” الجديد الذي أصبح من أكثر المواقع الموريتانية شهرة، وهو موقع ممول من أبو ظبي فيما يعرف بصناعة البروباغندا الإعلامية هناك في بلاد شنقيط.
فضلًا عن ذلك، طورت الإمارات تعاونها العسكري مع موريتانيا، حيث منحت الجيش طائرة عسكرية تعمل في مهام الاستطلاع الجوي والإنزال المظلي ونقل الجنود والمؤن، كما افتتحت كلية للدفاع في العاصمة الموريتانية نواكشوط أطلق عليها اسم كلية محمد بن زايد، إلى جانب نيتها إنشاء قاعدة عسكرية لها هناك.
يأتي هذا ضمن رغبة الإمارات الكبيرة في إحكام السيطرة على عشرات الموانئ الموجودة في سواحل عديدة من دول العالم، لا سيما في القارة الإفريقية التي تمتلك فيها قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا، إلى جانب وجودها العسكري في ليبيا عبر دعمها قوات خليفة حفتر.