منذ توليه منصبه في يونيو 2014، قام الرئيس المصري العسكري عبد الفتاح السيسي بسلسلة من الخطوات القانونية البطيئة ولكن المدروسة لاستعادة وتعزيز سلطة مؤسّسات الدولة. وفي ظل غياب البرلمان، استغلّ السيسي الفراغ الدستوري لتمهيد الطريق لأجهزة الحكم كي تعمل بحرية تصرّف واسعة وقدر ضئيل من الرقابة العامة. بعد ثورة العام 2011، كانت الجهات الفاعلة الاجتماعية والسياسية الخارجية متفائلة بأن تتمكن من بناء دولة أكثر تجاوباً. بيد أن هذه الجهات اليوم في وضع سيء، وليس في وسعها مواجهة جهود السيسي. ومن المرجّح أيضاً أن يتواصل نهجه هذا حتى بعد انتخاب البرلمان عندما يتم، في نهاية المطاف، اتّخاذ خطوة الانتخابات الموعودة منذ فترة طويلة ربّما بحلول نهاية العام 2014.
بالنظر إلى الإرث السلطوي الطويل في مصر، فإن العديد من مؤسّسات الدولة قادرة بالفعل على التهرّب من حكم القانون. غير أن الأجندة التشريعية للسيسي قد تمنح الجهات الرسمية تفويضاً شاملاً يجعل اللجوء إلى التدابير الاستثنائية في المستقبل أقلّ ضرورة (مثل حالة الطوارئ المكروهة كثيراً) بهدف ممارسة سلطات واسعة. الحصيلة النهائية قد لا تنجح بإدارة مصر جيدا، ومن المرجّح أن يتم التصدّي لها من تحت وربما حتى من داخل المؤسّسات الرسمية. ومع ذلك، قد تسمح الأسس التي يجري وضعها الآن لمؤسّسات الدولة بالتغلّب على هذه التهديدات عبر القنوات المؤسّسية العادية، مايتيح لكبار المسؤولين التصرّف بصورة قانونية ومن دون مساءلة في الوقت نفسه.
إرث سلطوي
في عهد رؤساء مصر قبل العام 2011، سمح النظام لنفسه بالعمل خارج مؤسّسات الدولة القائمة، وعلى الأخص عن طريق إبقاء البلاد في حالة طوارئ شبه مستمرّة منذ العام 1939.
فوفقاً للمادة 154 من دستور العام 1971، والتي تكرّرت في دستور العام 2012 والعام 2014، يجوز للرئيس أن يعلن عن حالة الطوارئ “وفق الطريقة التي ينظّمها القانون”. ومن خلال مصادقته على إعلان حالة الطوارئ، يمنح البرلمان السلطة التنفيذية سلطات قوية، يتم تبريرها في العادة بحجة حماية الدولة واستعادة الاستقرار.
لكن الواقع أنه تم توظيف سلطات الطوارئ بشكل منهجي ليس لمواجهة التحدّيات الأمنية الحقيقية وحسب، بل أيضاً لترهيب أو مضايقة أو اضطهاد المعارضين السياسيين، بمن فيهم النشطاء والصحافيون. وفي عهد حسني مبارك مدّد البرلمان حالة الطوارئ بِدِعَةٍ وطاعة كل ثلاث سنوات، ما أتاح وجود نظام موازٍ عمل جنباً إلى جنب مع الجهاز القانوني القائم، ولكن من دون رقابة مؤسّسية. ولم تنته حالة الطوارئ إلا عندما انتهى التمديد الأخير في العام 2012، بعد سنة واحدة تقريباً من إطاحة مبارك.
يفرض قانون صدر في عهد مبارك لتنظيم عمل المنظمات غير الحكومية مزيداً من القيود على هيئات المجتمع المدني. ويسمح القانون، المعروف بالقانون 2002/84، للحكومة بإغلاق هذه الكيانات مع تمتّعها بحصانة عبر تجميد أصولها أو مصادرة ممتلكاتها أو رفض مرشحيها لمجلس إدارة إحدى الهيئات أو حجب تمويلها أو رفض طلباتها لإقامة علاقات مع المجموعات الدولية.
علاوةً على ذلك، لطالما تميّز العديد من القوانين المصرية بشأن المسائل السياسية الهامّة والدقيقة بلغة فضفاضة تمكّن مجموعة من الأجهزة الأمنية والإدارية والقضائية من تفسيرها بطرق مختلفة عدّة. على سبيل المثال، يعود قانون الأحزاب السياسية في مصر إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما تمت صياغته بعناية للسماح للأحزاب المعارضة الصغيرة بالتشكّل تحت العين الساهرة لحكام مصر. وقد منحت إجراءات تأسيس الأحزاب الجديدة لجنة شؤون الأحزاب السياسية، التي يهيمن عليها الحزب الحاكم، حريّة تصرّف واسعة.
فإذا كان هذا النظام خدم حكام مصر في الغالب، فإنه ربما يفاجئهم بين الفينة والأخرى. فقد بدأت المحاكم في ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، بتفسير اللغة الغامضة لقانون الأحزاب السياسية بقدر أكبر من الحرية، ووجدت بعض الأحزاب أن اللجوء إلى المحاكم بعد أن تكون لجنة الأحزاب اتّخذت قرارها يمكن أن يكون مساراً ناجحاً. وفي العام 2011، عندما اندفعت مجموعة من الأحزاب إلى تسجيل نفسها في خضمّ الأجواء الثورية المدوّخة، انضمت إحدى المحاكم الإدارية إلى أجواء الحماسة من خلال حظر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً ولم تقدّم حججاً قانونية تدعم حكمها.
ما الذي يجري التخطيط له
يبدو أن رئاسة السيسي تعكف، في خطواتها الأولى، على إعادة تشكيل سلطوية تعمل على نحو أكثر وضوحاً (على الأقلّ في إطار الخطوط العامّة) ومن خلال القنوات القانونية العادية (وإن كانت فظّة). وبدل أن تسهم في تعزيز السلطة داخل رئاسة الجمهورية، أدّت سلسلة من المبادرات الأخيرة إلى خلق إطار قانوني يمنح المحاكم وأجهزة الأمن والنائب العام حريّة تصرّف كثيفة في تفسير نصّ القانون، ماجعل حالة الطوارئ أو التدابير الاستثنائية الأخرى غير ضرورية.
يحدّ قانون تنظيم التظاهر، الذي أُطلق عليه “قانون تنظيم الحق في الاجتماعات العامّة والمواكب والتظاهرات السلمية”، وأصدره الرئيس المؤقّت عدلي منصور، الذي عينه الجيش، في العام 2013، من قدرة المواطنين على الاحتجاج، إما عن طريق تقييد حرية التجمّع أو من خلال إيراد تعريفات واسعة للإرهاب أو التخريب أو التحريض على العنف. أما التشريعات الأخيرة الأخرى، مثل قانون تنظيم الجامعات والحظر الذي تم فرضه مؤخراً على أنشطة الجماعات المنتمية سياسياً في الحرم الجامعي، فهي تقمع التعبير السياسي أكثر. لابل حصلت المحاكم العسكرية على الحماية، ليس عبر تغيير نظامها الأساسي بل من خلال دستور العام 2014، الذي يسمح لها بالاستمرار في محاكمة المدنيين استناداً إلى تفسيرها الخاص لسلطتها القضائية حصراً.
كما يجري التخطيط لطرح مبادرات أوسع كثيراً، من شأنها أن تسمح لمؤسّسات الدولة بالعمل في ظل رقابة ضئيلة أو حتى من دونها. فهناك ثلاثة مشاريع قوانين مقترحة تحوك لغة قانونية غامضة ضمن أهداف تشريعية تبدو سليمة، وتشمل قانون مكافحة الإرهاب، وقانوناً يهدف إلى فرض مزيد من القيود على المنظمات غير الحكومية، وقانوناً يتناول الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وتفيد المبادرات المذكورة من جهود صياغة القوانين التي تعود إلى فترة حكم مبارك، ومع أن المواضيع التي تتناولها المبادرات متباينة، إلّا أنه يمكن استخدامها لإضعاف أو استهداف معارضي النظام، بما يعنيه ذلك من احتمال جعل الكثير من الأنشطة السياسية غير قانونية.
على سبيل المثال، تحظر المادة 7 من قانون التظاهر، “الإخلال بالأمن أو النظام العام أو تعطيل مصالح المواطنين أو إيذاؤهم أو تعريضهم للخطر”. وتعرّف المادة 86 من أحكام قانون مكافحة الإرهاب العمل الإرهابي بأنه “كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر”، ويستهدف “كل من أنشأ أو نظّم أو أدار على خلاف أحكام القانون جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة أو عصابة يكون الغرض منها الدعوة بأي وسيلة إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين.” علاوةً على ذلك، تحظر مسودة قانون المنظمات غير الحكومية المثير للجدل المنظمات ذات الأغراض السياسية التي قد “تهدّد الوحدة الوطنية أو النظام العام أو الآداب العامة”. وثمّة تعديل تم إقراره مؤخراً يسمح لرؤساء الجامعات بطرد “الطلاب الذين يقومون بأعمال إرهابية، وأعمال تخريب قد تعطّل العملية التعليمية وتؤدّي إلى مخاطر، أو تستهدف مرافق الجامعة أو الامتحانات أو العمل في الحرم الجامعي، أو الاعتداء على شخص، أو الاعتداء على الممتلكات الخاصة أو العامة أو تحريض الطلاب على ارتكاب أعمال عنف”.
من خلال التذرّع بمفاهيم غامضة مثل الوحدة الوطنية والآداب العامة والنظام، تسمح هذه القوانين والمقترحات كافة للنيابة العامة بممارسة حرية تصرّف هائلة. في الوقت نفسه، تمكّن مصطلحاتها مؤسّسات الدولة مثل مكاتب الأمن المحلية والجامعات والوزارات المختلفة من تحديد وضبط تصرّفات الأفراد، مثل حظر المظاهرات أو التجمّعات العامة الأخرى (انظر الجدول في الأسفل، واضغط على الصورة للتكبير).
علاوةً على الغموض الذي يكتنف هذه القوانين، هناك مسألة القسوة الشديدة للعقوبات المرتبطة بها. ففي ظل التعديلات المقترحة على قوانين مكافحة الإرهاب في مصر، سيتم الحكم بإعدام أي شخص “يؤسّس أو ينظّم أو يدير جماعة إرهابية”. وتشمل العقوبات الأخرى السجن مدى الحياة لتهم مثل الاعتداء على الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو الدعوات للإضرار بالوحدة الوطنية. أما مخالفة قانون تنظيم التظاهر فعقوبتها السجن بين سنتين وخمس سنوات وغرامة تتراوح بين 50 و100 ألف جنيه مصري (7-14 ألف دولار أميركي). ولاتزال مسودة القانون لمكافحة الجرائم ضد الإنسانية قيد المناقشة لدى مجلس الوزراء، وهو يفرض عقوبات مثل الإعدام شنقاً أو السجن لمدة لاتقل عن عشر سنوات، ليس على مرتكبي مثل هذه الجرائم وحسب، بل أيضاً على أي شخص “ينوي ارتكاب هذه الجرائم أو التخطيط لها أو الإشراف عليها أو تمويلها”.
إذ ماتم وضع هذه القوانين في السياق الحالي لحملة القمع القاسية التي شنتها الحكومة على الإسلاميين بعد يوليو 2013 وحماس المحكمة الملحوظ إلى حدّ مالإصدار أحكام الإعدام، عندها يتّضح أنها تهدف إلى عرقلة المعارضة السياسية وكذلك الجهود المبذولة لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وإصلاح القطاع الأمني.
تشريع من دون هيئة تشريعية: كيف تصبح مسودة القانون قانوناً في مصر اليوم
توجد في الوقت الحاضر عملية دستورية بسيطة جداً لسنّ قانون في مصر، تتمثّل في أن يصدره الرئيس بمرسوم. إذ لايوجد برلمان منذ أكثر من عام، حيث تم حلّ مجلس النواب في يونيو 2012، وحلّ مجلس الشورى في أعقاب انقلاب 30 يوليو 2013، ومن ثمّ تم إلغاؤه في دستور العام 2014.
في ظل غياب البرلمان، تعطي المادة 156 من الدستور الرئيس الحق في إصدار القوانين بمراسيم، شريطة أن تتعلق بالأمور الطارئة التي لاتحتمل التأخير وترفع إلى البرلمان للمصادقة عليها عندما يتم انتخابه ويتمكّن من الانعقاد.
القيد الأول يبدو غير ذي أهمية في المناخ الراهن المتّسم بالعقلية الأمنية والذي تكون فيه مساءلة بعض الخطوات الرسمية نادرة. ففي عهد مبارك، ألغت المحكمة الدستورية العليا مرسوماً رئاسياً بقانون صدر في وقت لم يكن البرلمان منعقداً، على أساس أن الأمر لم يكن ملحّاً ولامستعجلاً، ولكن يبدو أن مثل هذه الجرأة باتت مستبعدة الآن.
القيد الثاني عقبة سهلة أيضاً. فبصرف النظر عن موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، من المستبعد أن يملك البرلمان الجديد الاتّساق أو الرغبة في إلغاء التشريعات المتعلقة بالمسائل الطارئة المفترضة، خصوصاً وأن قانون الانتخابات الجديد يضمن تقريباً أن يشغل الكثير من المطلعين على أسرار النظام الحالي أو السابق مقاعد البرلمان، في ظل احتمال أن تكون أي معارضة مفكّكة. إذ يخصّص القانون الذي أصدره منصور في الساعات الأخيرة من حكمه، 420 مقعداً في البرلمان لقوائم المرشّحين الفردية و120 مقعداً فقط للقوائم الحزبية المغلقة. وبالتالي قد تكون النتائج مماثلة لنتائج برلمان ماقبل العام 2011، لكن مع غياب الأدوار التنسيقية التي كان يلعبها في السابق الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم أو معارضة جماعة الإخوان المسلمين شديدة التنظيم.
بالنسبة إلى السيسي، هناك أيضاً ميل لاستخدام المادة 156 الآن، لأن سنّ قوانين استبدادية قد يصبح قريباً أكثر صعوبة. فالدستور المصري للعام 2014، شأنه في ذلك شأن دساتير العديد من البلدان الأخرى، غالباً مايقدّم مبادئ غامضة، لكنه يرجئ التفاصيل إلى مرحلة سنّ القوانين. ولأنهم على بيّنة من الطريقة التي فسّر بها الحكام السابقون أي غموض بطريقة سلطوية، فقد أدرج واضعو الدستور المصري نصاً (المادة 121) يشترط أن تحصل القوانين التي تعطي معنىً دقيقاً للأحكام العامة، بما فيها تلك التي تنظّم شؤون الأحزاب السياسية والانتخابات والسلطة القضائية والحقوق والحريات، على أغلبية الثلثين في البرلمان. أما تأثير ذلك فيتمثّل في تجميد أي قانون قائم إلى أن يتمكن البرلمان الجديد من تنظيم مثل هذا التصويت. بيد أنه يعطي الرئيس أيضاً فرصة ذهبية في الفترة الفاصلة لتعديل أي قانون يريده قبل انعقاد البرلمان، من دون الحاجة إلى مواجهة هذه البداية. ويبقى من غير الواضح ما إذا كان سيتوجّب على البرلمان حشد غالبية عظمى للمصادقة على القوانين عندما ينعقد.
معظم التغييرات القانونية الجارية حالياً، مثل القوانين التي تنظّم شؤون المجتمع المدني، كانت تتخلّل ليس المناقشات العامة وحسب، بل أيضاً مختلف اللجان والدراسات الوزارية لسنوات. وفيما يشقّ السيسي طريقه بصعوبة، فإنه يبدو رئيس دولة أكثر منه مستبدّاً متعسّفاً، ويعتمد على المؤسّسات القائمة واللجنة العليا للإصلاح التشريعي التي شُكّلت بموجب مرسوم رئاسي بعد تنصيبه مباشرة لصياغة القوانين والعمل مع اللجان التي تعكف الوزارات على تطويرها. ويبدو أن النظام مصمّم على الاستماع إلى العديد من الأصوات الحكومية ولكن القليل من الأصوات المجتمعية لتحقيق غاياته، وبالتالي تطوير إطار قانوني يعطي مؤسّسات الدولة التفويض والتوجّه الذي تريد، بينما لايفرض سوى قيوداً غامضة على أنشطتها.
مجتمع منقسم يواجه دولة موحّدة
في أعقاب ثورة العام 2011 في مصر، ازدهر النشاط الاجتماعي والسياسي، حيث رأت مروحة واسعة من القوى الفاعلة، بما فيها النقابات والجمعيات المهنية ومنظمات التوعية، أن ثمّة فرصة سانحة لإعادة تشكيل الدولة المصرية. لكنها لم تحقّق سوى القليل، واليوم، وبينما لاتزال بعض الأطراف تتبنّى رؤيتها القانونية الخاصة، يبدو نضالها شاقاًّ إلى أبعد الحدود. وبينما يمضي السيسي قُدُماً في تغييراته، فإن الدولة هي التي تقود، من جديد، عملية صياغة القوانين وليس المجتمع الذي تدّعي أنها تخدمه. في الوقت نفسه، ربما يجعل العدد الكبير من القوانين وطبيعتها المسهبة قدرة الجهات الخارجية الفاعلة على التأثير أكثر صعوبة.
علاوةً على ذلك، ربما يكون المعارضون منقسمين داخلياً حول أي القوانين التي ينبغي تناولها. فقد ترغب المنظمات غير الحكومية في توجيه جهودها نحو القانون المقترح بشأن المنظمات غير الحكومية، وكذلك نحو القانون الصارم الخاص بها الموجود بالفعل. من ناحية أخرى، ربما يكون المجلس الوطني لدعم الشرعية ومنظمات حقوق الإنسان والجماعات الثورية الأخرى أكثر اهتماماً بقانون تنظيم التظاهر. البعض الآخر يتعامل أيضاً مع قانون تنظيم الجامعات، فضلاً عن العدد الكبير من المحظورات الجديدة التي تم فرضها على الحياة السياسية في الحرم الجامعي.
جيوب التحفّظات
هذا لايعني أن المبادرات الأخيرة لتأكيد سيطرة الدولة وسطوتها قد مرّت من دون أن يلحظها أحد. فقد اندلعت مظاهرات في أعقاب صدور قانون تنظيم التظاهر في نوفمبر 2013 حيث سجّل الإسلاميون وجماعات حقوق الإنسان والثوار الليبراليون على حدّ سواء اعتراضاتهم على هذه الخسارة. وقد ردّت الحكومة بسرعة باستخدام العنف لتفريق الحشود. وجرى اعتقال أكثر من 50 شخصاً، من بينهم الناشط البارز علاء عبد الفتاح الذي حكم عليه، بالإضافة إلى 24 آخرين، بالسجن مدة خمسة عشر عاماً وغرامة قدرها 100 ألف جنيه (14 ألف دولار أميركي).
بعد إضراب واسع عن الطعام حظي بتغطية إعلامية جيدة، تم الإفراج بكفالة عن عبد الفتاح واثنين من المتّهمين الآخرين يوم 15 سبتمبر، ولكن بعد محاكمة مُهينة، تضمنت عرض شريط فيديو في المحكمة لزوجة عبد الفتاح وهي تمارس الرقص الشرقي في إحدى الحفلات. لكن القاضي أعلن عدم أهليته للنظر في القضية، ما أدّى بالتالي إلى إبطال الحكم، ولم يتم بعد تحديد موعد جديد لإعادة المحاكمة. وعلى الرغم من أن عبد الفتاح أصبح طليقاً، على الأقلّ في الوقت الحالي، فإن حملة الإضراب عن الطعام مستمرة، وتدعو إلى إلغاء قانون التظاهر والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، بمن فيهم الشريك المؤسّس لحركة 6 أبريل أحمد ماهر، الذي يقضي حكماً بالسجن لمدة ثلاث سنوات لخرقه القانون.
كما اعترضت الأحزاب السياسية على قانون الانتخابات الجديد، الذي تخشى من أنه يؤذن بنظام يهيمن فيه أشخاص أثرياء لهم علاقات مع أصحاب النفوذ أو متنفذين محلياً على البرلمان. وبينما ستحظى الأحزاب السياسية بشيء من الحضور، حيث لم يخصّص للقوائم الحزبية سوى ربع المقاعد، من المرجّح أن يُضعف القانون الجديد مكانتها أكثر في السياسة المصرية.
أما طبقة رجال الأعمال، التي ضربها الاقتصاد المصري ومنح عدداً من عقود مشاريع البنية التحتية الكبيرة للجيش، فلم تُثِرْ بعد ضجّة على هذه السلسلة الجديدة من المبادرات التشريعية. غير أن التذمّر الصامت بدأ بالفعل، ويبدو أن القطاع الخاص محقّ في قلقه من احتمال أن يتم استبعاده من طموحات السيسي الرامية إلى تنشيط الاقتصاد.
من المرجّح أن يُطلق العمال بعض المعارك بشأن سنّ القوانين أيضاً. إذ تعيش الاتحادات العمّالية حالة من الاضطراب منذ أواخر سنوات حكم مبارك، حيث تزاحم النقابات “المستقلة” الهيئات المعتمدة من الدولة، ويسعى كل منها إلى وضع إطار قانوني مناسب. وفي حين يبدو أن الاتحادات المستقلة هي المهيمنة، قد تثير محاولة السيطرة على الاتحادات الجديدة احتجاجات بين فئات المجتمع التي أصبحت أكثر يقظة إزاء إسماع صوتها.
كما تسبّبت الضجة التي أثارها قانون المنظمات غير الحكومية في تعبئة بعض المعارضة. فقد أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بياناً وقعته 29 منظمة يدعو السيسي إلى رفض القانون الذي اقترح مؤخراً، معتبراً أنه يشكل “خرقاً فاضحاً للدستور والتزامات مصر الدولية” و”يجرّم عمل المنظمات غير الحكومية ويخضعها إلى المؤسّسة الأمنية، ويغلق المجال العام في مصر أمام الجميع باستثناء أنصار النظام”.
كما دعا المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى تأجيل إصدار مسودة القانون، الذي فرض عقوبات جنائية تصل إلى سنة واحدة بالنسبة إلى الأفراد الذين لايلتزمون. ومع ذلك يبدو من المرجّح أن تضمن هذه المعارضة، مهما تكن صاخبة، إجراء تغييرات طفيفة أو تجميلية على أكثر تقدير. وإذا كانت هناك أي معارضة أكثر فعّالية، فمن المرجّح أن تأتي من مؤسّسات الدولة المكلّفة إنفاذ القانون، وحتى في ذلك الحين، سيكون تأثيرها محدوداً.
حتى لو انضمت أجزاء من جهاز الدولة إلى جهات من خارجه في التعبير عن القلق إزاء النظام الجديد، فمن المرجح أن يكون خلافها معه محدوداً وهادئاً. وعلى المدى الطويل، قد توفّر السلطة القضائية مساحة للاعتراض كما فعلت في بعض الأحيان في عهد مبارك. وبالطريقة نفسها، قد تفتح جهات أخرى في الدولة غيورة على استقلاليتها آفاقاً أمام الجهات الفاعلة السياسية المبدعة لتوسيع الفجوات ضمن مؤسّسة الحكم في البلاد. وقد تلجأ الجهات الرسمية أيضاً إلى قدر أكبر قليلاً من المقاومة، خاصة إذا ماشعرت أن وضعها أو الامتيازات التي تتمتّع بها أصبحت مهدّدة.
على سبيل المثال، أثار قرار السيسي الأخير بتجاهل التوصيات التي تقدّم بها مجلس الدولة، وهو هيئة قضائية تقدّم المشورة القانونية للحكومة، الكثير من الدهشة والاستغراب وربما أضعف تأثير إشاراته لاحترام استقلال القضاء. وبالتالي، إذا ما أغضب السيسي المحاكم، فإنه يخاطر بفقدان حليف مؤسّسي رئيس في جهاز الدولة المصري، في لحظة لم يتم اختباره سياسياً بعد ويحتاج فيها إلى كل الدعم الذي يمكن أن تقدمه له مؤسّسات الدولة. ولكن نظراً إلى فحوى الأحكام القضائية الأخيرة الموالية للنظام، يبدو أن مثل هذا التطور لن يتحقّق إلا على المدى الطويل.
خاتمة
يمكن القول إن السياسة في مصر اليوم لم تمت، لكنها عليلة ومقيّدة وقيد الاحتواء. ويبدو أن الخيارات التي تواجه الناخبين منظّمة بعناية بهدف توجيه الأصوات الشعبية بطرق محدّدة أو التخفيف من تأثيرها عبر تشتيتها بين قوى ضعيفة التنظيم. لقد بدأت الآراء الانتقادية بالظهور، غير أنها لم تتجمّع حتى الآن حول أي منظمة أو حركة أو أجندة. كما أن أي محاولة للخروج إلى الشوارع تجابَه بالقوة.
في ضوء هذه المعطيات، تعكف رئاسة السيسي الجديدة على وضع إطار قانوني من شأنه أن يعزّز قدرة مؤسّسات الدولة على التصرّف كما يحلو لها، ومن دون رقابة عامة. في الوقت نفسه، يتحرّك السيسي نفسه للاستفادة من التشريعات القائمة والغامضة لمزيد من تهميش أو إلغاء المعارضة له. وبالتالي فإن غياب البرلمان، جنباً إلى جنب مع وجود محاكم متعاونة كما ينبغي، يعني أن من المرجّح أن توفّر هذه الممارسة حماية قوية للسلطوية المصرية التي أعيد تشكيلها.
بعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على تلقّيها صدمة مربكة أصابت الكثير منها بالشلل، تعود مؤسّسات الدولة المصرية إلى فعل ماكانت تفعله على أفضل وجه، أي الحكم بطريقة تدّعي فيها بصورة غير قابلة للتصديق أنها تخدم الشعب من دون الاستماع إلى صوته.
كايتي بنتيفوغليو، وهي باحثة مبتدئة في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، شاركت في إعداد هذا التقرير
المصدر: كارنيجي