في أوائل شهر يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت الرئاسة التركية عن تعيين أستاذ الهندسة والإدارة مليح بولو في منصب رئيس جامعة البوسفور أو كما يطلق عليها بالتركية بوغازيتشي “Boğaziçi Üniversitesi”، وفي الثالث من الشهر نفسه وجه بولو رسالته الأولى لمجتمع الجامعة عبر حسابه على تويتر متضمنة ٤ بنود وضحت رؤيته للمرحلة المقبلة.
ومنذ اللحظة الأولى لإعلان الرئيس الجديد، تحول حرم الجامعة إلى ميدان للاحتجاج، وكان الأكاديميون والطلاب تحديدًا محركه الأساسي، فبادرت الأندية والتجمعات الطلابية لتنظيم اعتصام مفتوح أمام مبنى رئيس الجامعة الذي فشل في إقناعهم أو التواصل معهم.
وعلى الطرف المقابل تفاعل المجتمع التركي، بكافة مكوناته السياسية، مع الأحداث التي تمر بها الجامعة، فانتقدت المعارضة قرارات الرئاسة التركية ورفضت تدخلها في تعيين رؤساء الجامعات، فيما أكدت الحكومة على أحقيتها القانونية في فعل ذلك.
من الكلية إلى الجامعة
في يناير/كانون الثاني ١٨٣٩، وصل المبشر الأمريكي سيراس هاملين إلى مدينة إسطنبول قادمًا من الولايات المتحدة الأمريكية برفقة مجلس المفوضين الأمريكي للبعثات الأجنبية، نشط هاملين في إسطنبول وتحديدًا في المجتمع الأرمني، كما استفاد من توافد الجنود البريطانيين إلى العاصمة العثمانية وعمل على توريد ثكناتهم بالخبز خلال حرب القرم عام ١٨٥٣.
وبعد ثلاث سنوات، جرى لقاء جمع بين هاملين ورجل الأعمال الأمريكي كريستوفر روبرت وحينها خرجت فكرة تأسيس كلية تعليمية، وبدأ كلاهما العمل عليها عام ١٨٦٠ واستمرت التحضيرات لمدة ٣ سنوات، حيث افتتحت كلية روبرت “Robert Lisesi” في سبتمبر/أيلول من العام ١٨٦٣ لتكون أول منشأة تعليمية ترفع العلم الأمريكي خارج حدود الولايات المتحدة.
وبعد مرور ما يقرب من مئة عام على تأسيس الكلية التي مرت خلالها بعدد من التغيرات على مستوى الإدارة والمنهاج والبنية، تقرر إنشاء الجامعة عام ١٩٧١ تحت إدارة الدولة التركية التي استخدمت منشآت ومبان كلية روبرت التي استمرت كمدرسة ثانوية.
على مدار التاريخ، حققت الجامعة مكانة مميزة على المستوى المحلي والعالمي، إذ تعد من أهم الجامعات التركية وأشهرها، وتشترط للالتحاق في برامجها الحصول على علامات متقدمة عوضًا عن المؤهلات الأخرى المرتبطة بالقدرات الشخصية واللغوية، هذه الخلفية منحت الجامعة وطلابها تميزًا وخصوصية عن بقية الجامعات الحكومية الأخرى.
وبخلاف تلك المزايا، يغلب الطابع “الليبرالي المعولم” على البيئة الطلابية والأكاديمية، ويظهر ذلك مدى ومستوى الحرية المتاحة داخل الحرم الجامعي، الذي تنشط فيه مختلف التيارات والحركات الفكرية بدءًا من النشطاء المناصرين لحركة “LGBT” ( أكبر حركة مدافعة عن حقوق المثليين والمتحولين جنسيًا ومزدوجي التوجه الجنسي) ونشطاء اليسار، وليس انتهاءً بنشطاء الحركة القومية والحركة الإسلامية -كان لطلاب الجامعة وإدارتها موقفًا مؤيدًا لحراك الطالبات المحجبات ضد منعهن من دخول الحرم الجامعي-.
كما حافظت الجامعة على مدار تاريخها بتقاليد أكاديمية صارمة على مستوى الإنتاج البحثي والمعرفي والتنظيمي، فكانت من الجامعات الرائدة في تنظيم انتخابات داخلية تتسم بدرجة عالية من الشفافية والاستمرارية.
الطريق إلى الأزمة
مع نهاية الحرب العالمية الثانية تمركزت الجمهورية التركية في الحلف الغربي في مواجهة تهديد السوفييت المتصاعد، فقد شكلت آنذاك مفاهيم مثل “الديمقراطية” و”التعددية” مساحيق تجميلية يجب التزين بها قبل الالتحاق بركب التحالف الغربي، فأعلن بطل حرب الاستقلال وخليفة مصطفى كمال باشا عن بداية العمل الديمقراطي في تركيا والانتقال باتجاه نظام تعددي من خلال حزمة من الإجراءات، منها السماح باختيار رؤساء الجامعات عن طريق الانتخاب عبر إصدار قانون رقم ٤٩٣٦ الخاص بتنظيم العمل في الجامعات.
وعلى مدار السنوات التي سبقت انقلاب أيلول ١٩٨٠، لعبت الجامعات وحراكها الطلابي والأكاديمي دورًا مهمًا في الحياة السياسية في تركيا، كما لم تسلم من حالة العنف السياسي التي شهدتها البلاد، فتحولت الجامعات إلى ساحات معركة ما بين التشكيلات الطلابية لليمين واليسار التركي، مما جعلها على رأس أهداف جنرالات انقلاب أيلول الذين رأوا فيها ساحة يجب ضبطها ومصدرًا للفوضى يجب التعامل معها، فتم اعتقال أهم نشطاء الحركة الطلابية والأكاديمية بعد الانقلاب، كما تم إلغاء انتخابات رئاسة الجامعات وأوكلت مهمة تعينهم إلى مجلس التعليم العالي “YÖK” الذي تحول إلى أداة لدى الدولة لضبط المواقع الأكاديمية.
ومع عودة السياسة إلى تركيا وبحلول عام ١٩٩٢وبمبادرة من الهيئة التدريسية في جامعة بوغازيتشي، تم تعديل القانون بحيث تنتخب الجامعات ٦ مرشحين من حاملي درجة “البروفيسور”، ويختار مجلس التعليم العالي ثلاثة منهم ويرشحهم للرئيس الذي يختار أحدهم، وعلى مدار الفترة (١٩٩٢-٢٠١٦) اختير رؤساء الجامعات وفقاً لهذه الطريقة.
وبعد المحاولة الانقلابية عام ٢٠١٦ وإقرار حالة الطوارئ، اشتدت حملة الحكومة التركية على تشكيلات جماعة “فتح الله غولن” المنتشرة في مختلف مؤسسات الدولة بما فيها القطاع الأكاديمي، ومن أجل محاربتها والحد من نشاطها ونفوذها في المؤسسات الأكاديمية، بدأت الحكومة باتباع نهج جديد في تعيين رؤساء الجامعات.
وتقوم السياسة الجديدة على ترشيح مجلس التعلم العالي ٣ مرشحين يختار الرئيس أحدهم، دون القيام بأي عملية انتخابية داخل المؤسسة التعليمية، ودون شرط الانتماء إلى المؤسسة التعليمية التي سوف يعمل فيها.
وبالموازاة مع ذلك وفي ذات العام، أجرت جامعة بوغازيتشي انتخاباتها الرئاسية، واختير ٣ مرشحين لكن الرئيس اختار المرشح الثاني مهمت أوزكان وتجاهل المرشح الأكثر حصولاً على الأصوات، الأمر الذي شكل معارضة داخل الجامعة خاصة أن المرشح الثاني تربطه علاقة قرابة مع نائب عن حزب العدالة والتنمية، لكن طبيعة الوضع السياسي الذي كانت تمر به تركيا آنذاك، وقانونية الرئيس حال دون تفاقم الحالة الاحتجاجية في الجامعة.
ومع انتهاء فترة مهمت أوزكان أعلن الرئيس تعيين مليح بولو في منصب رئيس الجامعة، وسبق لبولو أن عمل في المجال السياسي قبل انتقاله إلى حقل الأكاديمية، حيث أشرف على تأسيس تشكيلات حزب العدالة والتنمية في منطقة ساريير “Sarıyer” في مدينة إسطنبول، كما سبق له الترشح لرئاسة بلدية “أتاشهير” عام ٢٠٠٩، ومجلس النواب عن دائرة إسطنبول عام ٢٠١٥.
أما حياته الأكاديمية، فبدأها في جامعة الشرق الأوسط التقنية التي حصل منها على درجة البكالوريوس، وجامعة بوغازيتشي التي حصل منها على درجة الماجستير والدكتوراه، كما سبق له العمل في عدد من المواقع الأكاديمية كان آخرها عمله كرئيس لجامعة خليج “Haliç” في مدينة إسطنبول.
كيف تعاملت الحكومة مع الأحداث؟
منذ اللحظة الأولى للحراك، اعتمد حزب العدالة والتنمية ومؤسسات الدولة على استراتيجية العزل والاحتواء في التعامل مع حالة الاحتجاج، بحيث يتم عزل الحراك القائم عن الشارع التركي وحصره في نطاق الجامعة بداية ولدى بعض الهيئات لاحقًا، بالإضافة إلى احتوائه والتعامل بسياسة الأمر الواقع.
ومن هنا، بدأ الحزب بمجموعة من الإجراءات؛ على رأسها التركيز على العناصر اليسارية، فقد استغل مساندة بعض الوجوه السياسية المعروفة بمواقفها المثيرة للجدل كرئيس فرع حزب الشعب الجمهوري جنان كفتانجي أوغلو وغيرها لتعزيز هذه الصورة، فقد اتهم الرئيس وعدد من المسؤولين مجموعات “إرهابية” بالوقوف خلف الاحتجاجات، واتبعتها قوى الأمن التركي بمجموعة من الاعتقالات لعدد من الطلاب والنشطاء – أفرج عن أغلبهم لاحقًا.
وسرعان ما جاءت حادثة “الإساءة للكعبة المشرفة” لتفجر الأحداث من جديد، إذ نظم بعض من الطلاب المعتصمين أمام مبنى رئيس الجامعة معرضًا فنيًا تضمن لوحة عليها الكعبة وفوقها رمز مخلوق أسطوري يُسمى “شاهمارات، علاوة على وضع علم المثليين على ركن الصورة، مما دفع الأحداث للواجهة العامة من جديد، فقد تفاعل دعاة وناشطون أتراك مع وسوم #KabeKutsalımızdır و #BogaziciLgbtRezaleti للتنديد بالحادثة، واتخذت الحكومة والحزب موقفًا حادًا وصارمًا على هذه الإساءة، فقد كتب وزير الداخلية سليمان صويلو في “تويتر:
“هل يجب أن نتهاون مع الشواذ المنحرفين الذين يهينون الكعبة المشرفة؟ بالطبع لا. هل يجب أن نتهاون مع الشواذ المنحرفين الذين حاولوا احتلال مبنى رئيس الجامعة؟ بالطبع لا”، معلنًا اعتقال 4 من “من المنحرفين المثليين” الذين أساؤوا للكعبة المشرفة في جامعة بوغازيتشي.
Boğaziçi Üniversitesi’nde Kabe-i Muazzama’ya yapılan saygısızlığı gerçekleştiren 4 LGBT sapkını gözaltına alındı!
— Süleyman Soylu | Maske? Mesafe↔️ Temizlik? (@suleymansoylu) January 29, 2021
هذه التغريدة التي عززت الاحتجاجات وجرتها خارج أسوار الجامعة، أثارت الجدل أيضًا على منصات التواصل الافتراضية بعد أن وضع تطبيق تويتر تحذيرًا عليها لوصف صويلو فيها مثليي الجنس بأنهم منحرفون، قائلًا إن التغريدة “تنتهك القواعد الخاصة بشأن السلوك الذي يشجع على الكراهية”، ومع ذلك، قرر “تويتر” أنه قد يكون من المصلحة العامة إبقاء التغريدة متاحة”.
تكررت تدخلات “تويتر” في السياسة التركية عندما حجب تغريدات أخرى لزعيم الحركة القومية دولت بهتشيلي حول الاحتجاجات الطلابية، حيث جاء في بيان الحزب بأن تويتر قيد تغريداته بسبب رد فعله الهجومي على التظاهرات على الرغم من أن السيد بهتشلي فصل بين الإرهابيين والطلاب.
في المقابل، فضلت المعارضة التركية عدم تصدر الصورة وترك الحراك لطلاب الجامعة والهيئة الأكاديمية، مكتفيةً بالتحرك في المساحات الآمنة التي تضمن لها عدم الوقوع في فخ الدخول في استقطاب هوياتي مع حزب العدالة والتنمية، مثل الترويج لغياب الديمقراطية داخل الجامعات، وانتقاد تعامل قوى الأمن التركي مع المتظاهرين، بالإضافة إلى تسليط الضوء على سياسات حزب العدالة والتنمية في التعامل مع الجامعات التركية.
إلى أين تتجه الأمور؟
بالرغم من مرور شهر كامل على تعيين مليح بولو في منصب رئيس الجامعة، إلا أنه لم يستطع حتى هذه اللحظة إيجاد قناة اتصال مع مجتمع جامعة بوغازيتشي، فلم يجتمع حتى هذه اللحظة بمجلس الجامعة أو مدرسيها، فيما يستمر طلابها بالاعتصام أمام مكتبه في الجامعة.
تأتي احتجاجات جامعة بوغازيتشي في الوقت الذي تروج فيه الحكومة التركية لحزمة من الإصلاحات الاقتصادية والقضائية المتعلقة بالحريات والحقوق، مما يزيد من صعوبة تعامل الحزب والحكومة معها، فمن الواضح أن الجميع صعد إلى أعلى الشجرة ولن يتمكن من النزول عنها بسهولة.
إذ إن الحزب لا يرغب في مخالفة المبدأ الأساسي الذي تحركت الحكومة على أساسه والقائم على ضرورة معاملة الجامعة كبقية الجامعات من حيث اختيار رؤسائها فأي صفقة يجب أن تمتد لبقية الجامعات والمؤسسات الاكاديمية الأخرى، كما أن طبيعة الفئة المحتجة – طلاب وأكاديميين- وعدالة قضيتهم بالإضافة إلى نطاق احتجاجهم – داخل الحرم الجامعي- يجعل من قمعهم بصورة كاملة خيار غير منطقي أو واقعي.
في المقابل، من الصعب على الأكاديميين والطلاب القبول بأي صفقة تخالف المبدأ الذي انطلقوا منه والقائم على حقهم في اختيار رئيس الجامعة من بين أساتذة الجامعة، ولا شك أن هذه الصعوبة قد تتزايد حدتها مع عودة الطلاب إلى مقاعد الدراسة فور انتهاء إجراءات الإغلاق العام الاحترازية.
ليس واضحًا إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه حالة الاحتجاج الطلابي، فالحكومة والحزب ينتهجان حتى هذه اللحظة سياستي الأمر الواقع والحصر داخل الحرم الجامعي، ومع ذلك تبقى المخاطرة قائمة في امتداد هذا الحراك إلى بقية الجامعات التركية الأخرى خاصة في ظل إمكانية عودة الطلاب إلى مقاعدهم في الفصول المقبلة، وإلى ذلك تبقى الأنظار تترقب التطورات التي من الممكن أن تحملها الأيام القادمة.