في الوقت الذي نجحت فيه ثورة 17 فبراير في تغيير النظام، تلقت آمال الليبيين ضربة موجعة بعد دخول البلاد في دوامة الصراع المسلح والانقسام السياسي، وبات من الواضح أن المسار الذي مضى به الربيع الليبي منذ عام 2011، كان مغايرًا للذي اتخذته ثورات جيرانها في كل من مصر وتونس على اختلافهما.
وعلى خلاف بلدان الربيع العربي، اضطر الشعب الليبي في مرحلة أولى إلى التسلح حمايةً لنفسه في مواجهة موجة القتل التي أطلقها القذافي عبر ميليشياته وكتائبه، وباتت إشكالية السلاح من أهم معوقات الانتقال السياسي في البلاد وسببًا رئيسيًا في تعقد المشهد بعد الثورة، وفيما يلي أبرز المحطات الأساسية التي عرفتها ليبيا منذ سقوط نظام القذافي:
سقوط النظام
عرفت المحطة الأولى بسقوط نظام معمر القذافي والعاصمة طرابلس في أغسطس/آب 2011، والاعتراف الدولي بشرعية الثورة الليبية والمجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل من كوادر هذه الثورة.
ففي 14 من فبراير/شباط 2011 كانت البداية، حيث أصدرت 213 شخصية تمثل الفصائل والقوى السياسية والتنظيمات والهيئات الحقوقية الليبية، بيانًا طالبوا فيه بتنحي الزعيم الليبي معمر القذافي وانتقال الحكم بشكل سلمي وديمقراطي.
في 17 من فبراير/شباط قمعت القوات الأمنية احتجاجات جديدة في مدن ليبية أبرزها بنغازي، ما أدى إلى سقوط المزيد من القتلى، وذلك بعد أن اتخذ النظام الليبي من القوة أداة لقمع المتظاهرين، ليستقيل في اليوم الموالي مسؤولون احتجاجًا على مقابلة المظاهرات السلمية بالعنف والسلاح، لتصل رقعة المواجهات في 19 من فبراير/شباط إلى العاصمة طرابلس.
في 26 من فبراير/شباط فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على النظام الليبي تشمل حظرًا على بيع السلاح لها وتجميد أصول مالية لعدد من أركان النظام ومنعهم من السفر، وفي اليوم نفسه أعلن الثوار تشكيل المجلس الوطني الانتقالي وتولي وزير العدل المستقيل مصطفى عبد الجليل رئاسته.
في مارس/آذار، شن تحالف بقيادة واشنطن وباريس ولندن هجومًا تمثل بقصف جوي مكثف على مقار القوات التابعة للقذافي، بعد حصوله على الضوء الأخضر من جانب الأمم المتحدة.
في 20 من أكتوبر/تشرين الأول، قُتل القذافي في آخر هجوم للمعارضين على سرت (مسقط رأسه) إلى الشرق من العاصمة الليبية، وبعد ثلاثة أيام أعلن المجلس الوطني الانتقالي (الأداة السياسية للثوار آنذاك)، التحرير الكامل للبلاد.
الانتقال والفوضى
أما المحطة الثانية فانطلقت منذ انتخابات 2012 التي أتت بالمؤتمر الوطني العام كأول مجلس تشريعي منتخب في تاريخ ليبيا، ففي أغسطس/آب 2012، سلم المجلس الوطني الانتقالي سلطاته إلى المؤتمر (البرلمان) الذي انتُخب قبل شهر.
الانتقال السلس في السلطة التشريعية الذي عرفته ليبيا في تلك الفترة سرعان ما انهار في ظل الانتشار الواسع للأسلحة وتعدد الميليشيات والجماعات الإرهابية، ففي 11 من سبتمبر/أيلول 2012، قُتل أربعة أمريكيين من بينهم السفير كريستوفر ستيفنز في اعتداء على القنصلية الأمريكية في بنغازي نسب إلى مجموعة مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة، وفي 23 من أبريل/نيسان 2013، استهدفت سيارة مفخخة السفارة الفرنسية في طرابلس ما أدى إلى إصابة عنصرين فرنسيين من الحرس.
برلمانان وحكومتان
المحطة الثالثة في مسار الثورة الليبية انطلقت بعيد انتخابات 2014 التي أطاحت بالمؤتمر الوطني العام وجاءت بمجلس النواب، ورغم أن قرار المحكمة العليا، في سبتمبر/أيلول 2014، قضى ببطلان الانتخابات البرلمانية الثانية التي جرت في 25 من يونيو/حزيران من العام عينه، فإن خليفة حفتر الطامح للسيطرة على مقاليد الحكم والمدعوم من مصر والإمارات دعا مجلس النواب إلى عقد جلساته في مدينة طبرق أقصى شرق البلاد، وذلك من أجل استغلالها كواجهة سياسية لمشروعه المتمثل في عملية الكرامة التي أطلقها في فبراير/شباط 2014.
هذه الخطوة، اعتبرها الثوار التي كانت حكومة المؤتمر الوطني العام تعمل على دمجهم في المؤسسات العسكرية والأمنية، نكوصًا وردة تستوجب إعلان الثورة مجددًا وإطلاق عملية عسكرية عُرفت وقتها بفجر ليبيا، طُرد خلالها من العاصمة طرابلس أنصار الانتخابات البرلمانية المبطلة بحكم القضاء، وأعادت المؤتمر الوطني العام وشكلت حكومة، وذلك في وقت استقرت حكومة وبرلمان موازيان في يونيو/حزيران بشرق البلاد، وأصبح في ليبيا برلمانان وحكومتان.
الصخيرات وحكومة الوفاق
في ديسمبر/كانون الأول 2015 وبعد مفاوضات استمرت أشهر، وقع ممثلون عن المجتمع المدني ونواب في الصخيرات بالمغرب، اتفاقًا برعاية الأمم المتحدة، وأُعلن ميلاد حكومة الوفاق الوطني، وفي مارس/آذار 2016، نجح رئيس هذه الحكومة فايز السراج في التمركز بطرابلس، لكن في الشرق، بقيت الحكومة الموازية برئاسة عبد الله الثني والمدعومة من حفتر والبرلمان برئاسة عقيلة صالح.
في ديسمبر/كانون الأول 2016 أعلن المشير حفتر تحرير سرت (معقل تنظيم الدولة الإسلامية الذي بدأ ينتشر قبل سنتين مستفيدًا من غياب الدولة).
في الـ5 من يوليو/تموز 2017، أعلن حفتر الذي كان قد ترقى قبل شهر إلى رتبة مشير، التحرير الكامل لبنغازي من المسلحين الذين بقوا مع ذلك يشكلون تهديدًا لبلد يشهد اعتداءات دامية.
مسارات سياسية
في 25 من يوليو/تموز 2017، اجتمع فايز السراج والمشير خليفة حفتر في سيل سان كلو بباريس وتعهدا إخراج البلاد من الفوضى، ليلتقي الطرفان مجددًا في 29 من مايو/أيار 2018، بعد أيام من اعتداء نفذه انتحاريان من تنظيم الدولة الإسلامية على مقر اللجنة الانتخابية في طرابلس وأسفر عن مقتل 14 شخصًا، وتعهدا مجددًا بالعمل معًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في 10 من ديسمبر/كانون الأول 2018، لكن في نوفمبر/تشرين الثاني، ظهرت انقسامات عميقة بين الليبيين ودول علنًا في مؤتمر بمدينة باليرمو الإيطالية، حيث قاطع حفتر المؤتمر وانسحبت تركيا منه.
ليبدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر في يناير/كانون الثاني 2019 غزو الجنوب، وذلك بعد أن حصل على دعم قبائل المنطقة، سيطر بلا معارك على سبها والشرارة أحد أكبر الحقول النفطية في البلاد.
طرابلس وموازين تركيا
في الـ4 من أبريل/نيسان أمر اللواء المتقاعد خليفة حفتر قواته بالتقدم صوب طرابلس، حيث واجهت ميليشياته العسكرية مقاومة عنيفة من القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني التي تلقت من أنقرة كل الدعم، حيث وافق البرلمان التركي في الـ2 من يناير/كانون الثاني 2020 على تقديم المساعدة الفنية والعسكرية لحكومة الوفاق وأقر تفويضًا لمدة عام لنشر القوات في ليبيا، وفي الـ5 من الشهر نفسه، بدأ الانتشار العسكري التركي في ليبيا.
نزول الأتراك بثقلهم على الأرض مكن طرابلس من تجنب الانهيار والسقوط بأيدي حفتر المدعوم من الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا (مرتزقة فاغنر)، حيث تلقت قوات الشرق سلسلة من الهزائم العسكرية جنوب طرابلس وتقهقرت قواتها إلى سرت، حيث توقفت العمليات العسكرية.
استقالة سلامة
استقال المبعوث الدولي إلى ليبيا غسان سلامة، في مارس/آذار 2017 مبررًا خطوته بأسباب صحية وإجهاد، وعين الوزير اللبناني السابق للثقافة والأستاذ في العلاقات الدولية، مبعوثًا للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2017 وسعى جاهدًا للتوسط بين الطرفين الليبيين، لكن في أبريل/نيسان 2019، شن حفتر هجومًا مفاجئًا على طرابلس، قبل أيام من جولة مخطط لها لمحادثات السلام، ما دفعه إلى القول إنه تعرض للطعن في الظهر في إشارة لأعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذين دعموا حفتر.
مؤتمر برلين
بعد غياب الحسم العسكري وبروز التدخل الدولي المكثف لدعم الوكلاء على الأرض، اقتنعت الأطراف المتحاربة مجددًا باستحالة الحل العسكري للأزمة، وفي يناير/كانون الثاني 2020، نظمت ألمانيا مؤتمرًا في برلين حضرته أكثر من 10 دول برعاية الأمم المتحدة، وأكد المؤتمر ضرورة وقف إطلاق النار وإطلاق عملية سياسية شاملة.
وتعهد المشاركون في المؤتمر بعدم التدخل في الحرب لدعم الوكلاء على الأرض، بالإضافة إلى احترام حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، أما طرفا النزاع (الوفاق وقوات حفتر)، فرغم مشاركتهما في المؤتمر، رفضا اللقاء وجهًا لوجه.
في سياق متصل، فإن عجز الفرقاء عن إيجاد مخرج للأزمة السياسية بعد جولات ماراثونية من المباحثات، دفع المتظاهرين في بنغازي وبعض مدن شرق ليبيا إلى الخروج للشارع للمطالبة بتحسين الخدمات والأوضاع المعيشية، وترجع الاحتجاجات إلى الغضب من النخبة السياسية وأوضاع المعيشة المتردية، ومنها الانقطاعات المطولة في الكهرباء وأزمة مصرفية حادة، وسط ارتفاع حالات الإصابة بفیروس كورونا المستجد.
السراج.. استقالة وتراجع
فاجأ رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، الجميع بإعلان رغبته بتقديم استقالته من رئاسة الحكومة الليبية، مضيفًا أنه يرغب بتسليم مهامه إلى السلطة القادمة في موعد أقصاه نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وجاءت الاستقالة بعد إعلان الطرفين وقف إطلاق النار بشكل كامل وفوري في 22 من أغسطس/آب والتوصل إلى تفاهمات مهمة في المحادثات التي جرت بمدينة بوزنيقة المغربية، ولقاء وفدين من المنطقة الغربية يضم أعضاء من مجلس الدولة ومجلس النواب، بمسؤولين مصريين، لكن بحلول أكتوبر/تشرين الأول، أعلن السراج مجددًا تراجعه عن قرار الاستقالة، قائلًا إنه استجاب لمطالب استمراره في منصبه إلى حين اختيار مجلس رئاسي جديد.
محادثات بوزنيقة
احتضنت مدينة بوزنيقة المغربية، في سبتمبر/أيلول 2020، مباحثات ليبية-ليبية بين الأطراف المتصارعة على السلطة، في إطار مساعي المملكة لبعث الروح في اتفاق الصخيرات لعام 2015، وجاء تدخل الرباط لتقريب وجهات نظر الطرفين بعد أسابيع من زيارة قام بها رئيسا مجلس النواب عقيلة صالح، ومجلس الدولة خالد المشري، إلى المغرب في 27 من يوليو/تموز الماضي.
وبعد مفاوضات بوزنيقة، احتضنت أيضًا مدينة طنجة شمال المغرب اجتماعات تشاورية بين أعضاء مجلس النواب الليبي، من غرب وشرق ليبيا، لبحث الآلية التي يمكن أن تؤدي إلى التئام المجلس بعد انقسامه على نفسه بين مؤيد لحكومة الوفاق الوطني وداعم للواء المتقاعد خليفة حفتر.
محادثات تونس
كانت جلسة التفاوض في طنجة تجري بينما تستضيف تونس أيضًا ملتقى للحوار السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة، وضم ملتقى قمرت قرب العاصمة التونسية، 75 ممثلًا عن جميع الجهات، اختارتهم الأمم المتحدة حسب انتمائهم الجغرافي أو السياسي أو الأيديولوجي، لكن من دون الأطراف الرئيسية، كما أعلنت الأمم المتحدة آنذاك أن المندوبين في تونس وافقوا على إجراء الانتخابات الوطنية في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2021، دون تحديد ما إذا كانت انتخابات رئاسية أو برلمانية أو انتخابات عامة.
البرعصي وسرقيوة
عرفت ليبيا سنة 2020 مقتل المحامية والناشطة حنان البرعصي (46 عامًا)، التي تُعد من الوجوه الإعلامية والحقوقية في البلاد، وتُعرف بدفاعها على حقوق النساء اللاتي يقعن ضحايا أعمال عنف، من خلال مقاطع فيديو تبثها على مواقع التواصل الاجتماعي.
البرعصي قتلت في نوفمبر/تشرين الثاني بعد انتقادها لمجموعات مسلحة قريبة من المشير خليفة حفتر، ما أثار ردود فعل دولية مستنكرة ومطالبة بإحقاق العدالة، فيما يبقى لغز اختفاء عضو مجلس النواب سهام سرقيوة في يوليو/تموز الماضي غامضًا إلى الآن في ظل عجز المنظومة القضائية عن مجابهة سطوة حفتر وميليشياته.
أما في 2021، فبعد سلسلة من اللقاءات والمفاوضات، نجح طرفا الصراع في اختيار أعضاء السلطة التنفيذية الجديدة، حيث انتخب عبد الحميد محمد دبيبة في الـ5 من فبراير/شباط رئيسًا للوزراء للفترة الانتقالية تمهيدًا للانتخابات المقررة في ديسمبر/كانون الأول.
أعضاء القائمة الفائزة بانتخابات السلطة التنفيذية في ليبيا (بروفايل)
ـ رئيس الحكومة عبد الحميد محمد دبيبة رجل أعمال وشخصية مستقلة تحظى بقبول جيد لدى الأوساط السياسية
https://t.co/KkaK59rarn— ANADOLU AGENCY (AR) (@aa_arabic) February 5, 2021
بالمحصلة، يمكن القول إن الأجندات الخارجية التي تحرك الوضع السياسي في ليبيا بعد الثورة، بما فيها الأمم المتحدة ومن يحوم حولها من البلدان التي تقدم نفسها على أنها راعية للسلام بين الفرقاء المتنازعين في هذا البلد، لم تأذن بعد بإنهاء هذا الصراع الذي دقت إسفينه بعض الدول الأوروبية التي تعمل على إحياء أطماعها القديمة ودول عربية تقود مشاريع مضادة للثورات، في مقابل ذلك يمكن للحكومة الموحدة الجديدة إحياء مشروع الدولة المؤجل شريطة احتواء المكون الاجتماعي الليبي باختلاف مشاربه.