أصبحت الحروب العسكرية موضة قديمة، فقد وصلت الأنظمة العالمية إلى أبعد من ذلك، فأصبحت الحروب الآن تكتيكية تعتمد على ضرب المصالح باستخدام وسائل الضغط دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ففي هذا الوقت بالذات يعتبر من التهور أن تعلن دولة ما حربًا عسكريةً على دولة أخرى معادية لها تؤدي إلى تضرر كلا الطرفين بالضرر العسكري الذي يعتبر من أكثر الأضرار تكلفة وتحتاج إلى سنوات كي تستطيع النهوض مرة أخرى، فليس من السهل أن تعيد بناء ما تم هدمه على كل الأصعدة العسكرية والاقتصادية والثقافية.
اليوم نحن مع نوع جديد من الحروب تسمى بـ”حرب العملات”، هدفها الإطاحة بالدولار الأمريكي المهيمن، وذلك بقيادة الصين وروسيا وبعض الدول الأخرى، فقد أصبح التلاعب بالعملات سلاحًا فعالًا تستخدمه الدول في الحروب الاقتصادية والتجارية وحتى السياسية.
وهذا ما فعلته الصين منذ التسعينيات ودأبت على استخدامه الولايات المتحدة منذ الأربعينيات للتحكم بالتجارة والتبادلات العالمية، فهل حانت نهاية الدولار؟ وهل سيكون لذلك تأثير على الاقتصاد العالمي؟
ما هي حرب العملات؟
يشير مصطلح حرب العملات إلى الحالة التي نرى فيها عدة دول تُخفض قيمة عملاتها المحلية عن قصد من أجل تحفيز اقتصادها على حساب دولة أخرى.
فانخفاض قيمة العملة (سواء كان عن قصد أم بغير قصد) أمر شائع في سوق الصرف الأجنبية، لكن ما يميز حرب العملات هو انخراط عدد كبير من الدول في محاولات لتخفيض قيمة عملاتها في نفس الوقت، ويتضمن تخفيض قيمة العملة اتخاذ إجراءات تضعف القوة الشرائية للعملة المحلية.
الزلزال الاقتصادي الناتج عن أزمة كورونا خلف أضرارًا بالغة بالسياسات النقدية والمالية على الصعيد العالمي، سيكون لها تأثير في تصعيد ملفات دولية شهدت نزاعًا في السنوات الأخيرة
قد تتبع الدول مثل هذه السياسات بهدف تقوية مكانتها في ميدان التجارة الدولية وتقليل أعباء الديون التي تؤثر على سيادتها، وقد تحمل سياسة تخفيض قيمة العملة عواقب تؤدي إلى الفشل.
لا شك أن الزلزال الاقتصادي الناتج عن أزمة كورونا خلف أضرارًا بالغة بالسياسات النقدية والمالية على الصعيد العالمي، سيكون لها تأثير في تصعيد ملفات دولية شهدت نزاعًا في السنوات الأخيرة، أبرزها محاولة زعزعة مكانة الدولار الأمريكي، عملة الاحتياط العالمية الأولى، والدخول في حرب عملات بين أكبر اقتصادات عالمية.
لماذا تخفض الدول سعر صرف عملتها؟
قبل دراسة تفاصيل حرب العملات، علينا أن نعرف فائدة تخفيض دولة ما لسعر صرف عملتها.
قد تبدو هذه الفكرة غير متوقعة، لكن العملة القوية ليست من الأهداف الرئيسية للدولة، فالدولة التي تخفض سعر العملة المحلية تزيد من الفرص التنافسية لصادراتها في السوق العالمية وتزيد تكلفة الواردات.
فارتفاع قيمة الصادرات يحفز النمو الاقتصادي، والواردات باهظة الثمن لها أثر مشابه، فهي تجعل المستهلك يميل نحو اختيار المنتج المحلي بدلًا من المنتجات المستوردة.
هذه الزيادة في حدود التبادل التجاري، تؤدي إلى تخفيض العجز في الحساب الجاري أو زيادة الفائض في الحساب الجاري، وتؤدي أيضًا إلى معدل توظيف أعلى ونمو أسرع للناتج المحلي الإجمالي، فالسياسة النقدية التحفيزية التي تؤدي عادةً إلى إضعاف العملة، لها أثر إيجابي على رأس المال في الدولة وأسواق الإسكان، ما يؤدي إلى تحفيز الاستهلاك المحلي وفق ما يُعرف بتأثير الثروة.
الشروط الدولية المطلوبة لحرب العملات
لكي تحدث حرب عملات واسعة النطاق، يجب أن ترغب نسبة كبيرة من الاقتصادات المهمة في تخفيض قيمة عملاتها مرة واحدة، ولم يحدث هذا حتى الآن إلا في أثناء الانكماش الاقتصادي العالمي، ويجب أن يتضمن تخفيض قيمة العملة الفردية ارتفاعًا مناظرًا في قيمة عملة واحدة أخرى على الأقل.
إن لم يكن لدى الدولة الخاسرة اقتصاد قوي ستنخفض قيمته بشكل كبير، فإن الارتفاع التعويضي لأي عملة فردية سيميل إلى أن يكون صغيرًا أو حتى ضئيل.
بمجرد أن يبدأ عدد صغير من البلدان في التدخل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدخلات مماثلة من الآخرين بينما يسعون لمنع المزيد من التدهور في قدرتهم التنافسية التصديرية
في الأوقات العادية، غالبًا ما تكتفي الدول الأخرى بقبول ارتفاع طفيف في قيمة عملتها أو في أسوأ الأحوال بعدم المبالاة بها، ومع ذلك إذا كان جزء كبير من العالم يعاني من ركود أو من انخفاض النمو أو يتبع إستراتيجيات تعتمد على ميزان مدفوعات ملائم، فيمكن أن تبدأ الدول في التنافس مع بعضها البعض لتقليل القيمة.
وفي مثل هذه الظروف بمجرد أن يبدأ عدد صغير من البلدان في التدخل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدخلات مماثلة من الآخرين بينما يسعون لمنع المزيد من التدهور في قدرتهم التنافسية التصديرية.
آثار حرب العملات
الآثار الإيجابية الناتجة عن حرب العملات هي:
- ارتفاع التضخم: عندما تستورد الدولة سلعًا من دول ذات عملة قوية، فتسعى حينها لجعل لديها كميات من العملة الضعيفة، حتى تتمكن من شراء نفس السلعة المسعّرة بالعملة القوية بعملة أضعف، وبذلك يعتبر التضخم مرغوبًا فيه في أثناء فترة الركود الاقتصادي.
- زيادة الصادرات: عندما تكون صادرات الدولة سعرها أرخص، يؤدي ذلك إلى كسبها حصة أكبر بالأسواق التجارية، مقارنة بالسلع المسعرة بالعملات القوية، ما يزيد صادرات الدولة وزيادة النمو الاقتصادي.
- تخفيض الديون: إن ضعف العملة الناتج عن زيادة حجم التضخم، سوف يؤدي إلى زيادة إيرادات الدولة ودخلها وتقليل نسبة الديون.
هناك أيضًا آثار سلبية ناتجة عن حرب العملات وهي:
- زيادة كلفة الواردات: تؤدي حرب العملات إلى جعل واردات الدولة أكثر تكلفة، ما يؤدي ذلك إلى خفض القوة الشرائية.
- تقليل التجارة الدولية: ومن الآثار السلبية لحرب العملات، التقليل من التجارة الدولية في بعض الدول.
- حواجز تجارية: قد تضطر بعض الدول نتيجة خفض قيمة عملتها لمدة طويلة الذي يؤدي إلى انهيار العملة والاقتصاد لديها، بأن تلجأ إلى وضع حواجز تجارية.
أشهر حروب العملات
تتدخل الدول لدعم عملاتها المحلية وهو ما يمكن أن يقود إلى ما يعرف بحرب العملات التي تعتبر عنصرًا رئيسيًا في الحروب التجارية، ولنا في الصين والولايات المتحدة الأمريكية أبرز نموذج على تلك النوعية من الحروب.
أمريكا
الولايات المتحدة تتهم الصين بدعم اليوان لتظل قيمته السوقية منخفضة عن قيمته الحقيقية في مواجهة الدولار على مدار سنوات طويلة وهو ما ينعكس على الفائض الضخم في ميزان التجارة لصالح الصين، وتحافظ الصين على ذلك من خلال شراء الأصول الدولارية الأمريكية لتحافظ على سعر الدولار مرتفعًا بصورة أكبر من قيمته الحقيقية.
بينما يرى البعض الآخر أن اللوم يقع على الخزانة الأمريكية لأنها توفر الدولار بسهولة حول العالم، ما يزيد السيولة الدولارية حول العالم، لكن واشنطن ترد بأن تلك السياسة تهدف إلى الاحتفاظ بسياسة نقدية مستقلة تعتبر حجر الزاوية في تجنب الانكماش في أثناء الأزمات المالية، وهو ما يصب في صالح اقتصادات باقي الدول التي تشتري المنتجات الأمريكية.
روسيا
استطاعت روسيا أن تحقق نجاحًا ملفتًا في ذلك، من خلال تنفيذ إستراتيجية طويلة الأمد وهي إلغاء الدولار في المعاملات المحلية والتجارة الدولية للتحايل على العقوبات الأمريكية.
الشركات الروسية الضخمة كَشركات النفط والغاز بدأت تستغني عن الدولار وتعتمد على اليورو والعملة المحلية
استطاع البنك المركزي الروسي أن يخفض حصة الدولار من احتياطات النقد الأجنبي من 40% إلى 24%، كما انخفضت انحيازات البنك من الديون الأمريكية من 100 مليار دولار إلى أقل من 10 مليارات دولار، والشركات الروسية الضخمة كشركات النفط والغاز بدأت تستغني عن الدولار وتعتمد على اليورو والعملة المحلية (الروبل الروسي) في تعاملاتها.
الصين
من المؤكد أن صبر التنين الصيني قد نفد خاصة عندما وضعت الإدارة الأمريكية مجموعة هواوي الصينية العملاقة على القوائم السوداء في محاولة لخنقها وإخراجها من الأسواق العالمية، والصين الآن تحاول أن تجعل عملتها (اليوان) هي العملة المعتمدة عالميًا.
لكن دون شك لن تستطيع تحقيق أهدافها بين ليلة وضحاها، فالأمر يحتاج إلى عمل تدريجي، كما أن قيمة الصادرات الصينية الموجهة إلى أمريكا سنويًا تفوق الـ400 مليار دولار، فليس من الحكمة أن يسعى أحدهم إلى تدمير أكبر عميل له.
فبعد أن كانت روسيا الاتحادية وكوريا الشمالية هما أبرز الأعداء، باتت الصين على رأس القائمة في ظل الحرب التجارية التي شنها ترامب على بكين منذ توليه الرئاسة، ثم دخلت تركيا وروسيا على خط الصراع أيضًا، ولا ننسى بالطبع إيران عقب عصف ترامب للاتفاق النووي التاريخي الذي كان قد اعتمده باراك أوباما خلال توليه رئاسة الإدارة الأمريكية.
ولعل أبرز سلاح تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة هذه البلدان وغيرها هو الهيمنة الواضحة بشكل جلي للدولار على الاقتصاد العالمي، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
أين الدول العربية من حرب العملات؟
أكد خبراء اقتصاديون أن الدول العربية هي الخاسر الرئيس في حرب العملات التي تدور رحاها بين النظام الشيوعي في الصين والنظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكية.
كعادة العرب في ساحة الصراع العالمي، فإنهم يدفعون ثمن حرب لم يخوضونها، إذ سيتأثر العرب سلبيًا بحرب العملات، سواء في صورتها الباردة حاليًّا أم عندما تشتد جذوتها، وذلك من خلال المحاور الخمس الآتية:
أضرار هذه الحرب تأتي مباشرة على ميزان مدفوعاتها وخاصة الميزان التجاري، والدول العربية تتبع سياسة ربط عملتها بالدولار سواء بشكل رسمي معلن أم بشكل ضمني دون إعلان ذلك، وانخفاض قيمة الدولار في إطار حرب العملات سيضر ميزان مدفوعات الدول العربية وخاصة النفطية التي تقوم بتصدير النفط الخام للولايات المتحدة وغيرها بالدولار، ثم تقوم باستيراد متطلباتها من السلع الضرورية بالعملات الأخرى خاصة اليورو، فبكل بساطة ستضطر هذه الدول للبيع بثمن منخفض والشراء بثمن مرتفع، ما يشكل عائقًا كبيرًا في اقتصادها وهذا ينطبق على كل الدول النامية.
التسابق إلى خفض سعر الفائدة في أمريكا وأوروبا، فالاستثمارات العربية الموجودة بكثافة فيها أو في دول تخضع لسيطرة الدولار، سوف تنخفض قيمة العوائد عليها بشكل كبير.
في حال انخفاض قيمة العملات – سواء الدولار الأمريكي أم اليوان الصيني – فإن الصناديق السيادية العربية للدول النفطية – التي يبلغ بعض تقديراتها بنحو 2.6 تريليون دولار – سوف تنخفض قيمتها، وهو ما يعد إهدارًا للثروات العربية في تلك الصناديق.
كما أن الدول النامية ستكون الخاسر الأكبر، لاستمرارها في حلبة التبعية وعدم الاستفادة من زيادة القيمة المضافة لثرواتها من البشر أو الموارد الطبيعية.
وحتى في حال التوصل لاتفاق بشأن الخروج من هذه الأزمة، فستصاغ الاتفاقات لصالح القوى الكبرى.