أثار الملتقى الديني الذي عقد بفندق كورينثيا بالخرطوم، أمس السبت الـ6 من فبراير/شباط 2020، بمشاركة رجال دين يهود (حاخامات) من بعض بلدان العالم، حالة من الجدل داخل الشارع السوداني، الذي اعتبر مثل هذه الملتقيات محاولة لتمرير التطبيع الشعبي وفرض الأمر الواقع.
ويهدف الملتقى بحسب منظمه النائب البرلماني السابق أبو القاسم برطم، أحد دعاة التطبيع مع “إسرائيل”، إلى تعزيز التسامح والسلم الاجتماعي في البلاد، بينما تخلله مداخلات إسفيرية من قسيس نرويجي وحاخام من تل أبيب لمدة دقيقتين، الأمر الذي أحدث صدمة لكثير من المتابعين.
وزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية نفت علمها المسبق بجدول أعمال هذا الملتقى، رغم توجيه دعوة رسمية للوزير لحضوره، لافتة في بيان لها أنها فوجئت بوجود اسم وزيرها ضمن البرنامج قبل إعطاء الموافقة، وأنها لم تكن جزءًا من التخطيط والتنسيق للفعالية.
تزامن هذا الملتقى مع موجات الشد والجذب التي يعاني منها الشارع السوداني بسبب التطبيع مع “إسرائيل” خلال الأيام الماضية، أثار الشكوك بشأن دوافعه الحقيقية، وما إذا كان خطوة نحو التطبيع الشعبي أم مجرد فعالية دينية تهدف – كما قال برطم – إلى التسامح بين الأديان.
يذكر أن السودان و”إسرائيل” أعلنا رغبتهما في تطبيع العلاقات بينهما في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فيما تم إبرام الاتفاق رسميًا (اتفاقية أبراهام) في الـ6 من يناير/كانون الثاني الماضي، تبعها زيارة سرية لوزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين للخرطوم قبل نحو أسبوعين.
فرض الأمر الواقع
تيار سياسي كبير داخل السودان يرى أن هناك محاولات مستميتة لإصباغ اتفاق أبراهام الموقع مع “إسرائيل” بصبغة شعبية، مستعينًا في ذلك بحزمة من المحفزات الاقتصادية والمجتمعية، وهو ما ثبت فشله ولا ينتظر له أي نجاح مستقبلي في ضوء إيمان السودانيين بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
هيئة شؤون الأنصار، الذراع الدينية لحزب الأمة القومي، في بيان لها على صفحتها الرسمية على فيسبوك قالت إن هذا الملتقى “يجيء في ظل مناخ فيه تجاذب بين دعاة التطبيع مع إسرائيل والرافضين له؛ مما يشير إلى أنه ملتقى قصد به وضع أهل السودان أمام الأمر الواقع الداعي إلى التطبيع؛ خاصة أن صاحب المبادرة لا يخفي تأييده للتطبيع بل أعلن أنه متكفل بتأجير طائرة تقل سودانيين للسفر إلى دولة الكيان الصهيوني لتأكيد تأييد أهل السودان للتطبيع مع إسرائيل؛ ويؤكد ذلك مشاركة الحاخام ديفيد روزن بمخاطبة الملتقى من القدس”.
سياسيون ومثقون وإعلاميون يعتبرون أن إقامة مثل هذه الملتقيات والفعاليات تحت أي مسمى كان، لا تعدو كونها “مغازلةً مكشوفةً” لتمرير التطبيع شعبيًا
الهيئة أكدت موقفها الرافض للتطبيع مع دولة الكيان الصهيوني “باعتبارها دولة تمثل كيانًا مغتصبًا ومعتديًا وعنصريًا وغريبًا وظالمًا باحتلاله لدولة فلسطين وتشريد شعبها بما يتناقض مع القيم الإنسانية النبيلة ومبادئ حقوق الإنسان التي نصت عليها الأديان، وروح العدالة التي نصت عليها المواثيق الدولية”.
وحذرت في بيانها من أن “دعوة ممثلي ديانات وعقائد لا وجود لها في السودان في ظل هذه الظروف الاستقطابية يعتبر صبًا للزيت على النار، وسيفتح الباب لفتنة دينية وتطرف داعشي يسمم الأجواء المتسامحة في السودان”، مناشدة الحكومة السودانية بشقيها، العسكري والمدني بألا تشارك في مثل هذه الملتقيات التي تهدد الأمن القومي السوداني.
خدع وأباطيل
سياسيون ومثقون وإعلاميون يعتبرون أن إقامة مثل هذه الملتقيات والفعاليات تحت أي مسمى كان، لا تعدو كونها “مغازلةً مكشوفةً” لتمرير التطبيع شعبيًا، لافتين إلى أن تلك الإستراتيجية المخادعة لا تنطلي على الشعب السوداني الواعي للمخطط الصهيوني ومؤامرته على المنطقة.
الكاتبة الصحفية أميرة ناصر، المتخصصة في الشأن السوداني، تذهب إلى أن الرفض الشعبي لقرار السلطة السودانية (المجلس السيادي والحكومة الانتقالية) الأحادي بالتطبيع مع دولة الاحتلال، وضعها في مأزق حقيقي، لا سيما أنها بهذه الخطوة تنسف أحد مرتكزات الدولة السودانية على مدار عشرات العقود.
ناصر في حديثها لـ”نون بوست” كشفت أن تلك الخطوة زادت من الفجوة بين الشارع السوداني والسلطات الحاكمة، وهو ما يترتب عليه تراجعًا كبيرًا في شعبية الأخيرة، الأمر الذي قد يحمل معه تهديدًا كبيرًا لمستقبل أفرادها السياسي، لا سيما حال انتهاء المرحلة الانتقالية وإجراء انتخابات قادمة.
أما عن الجهة المنظمة لمثل تلك الملتقيات، فأشارت الكاتبة المصرية أنه ليس شرطًا أن يكون هذا الملتقى برعاية أو دعم الحكومة، وإنما هناك شريحة من النخبة السياسية في البلاد براغماتية الهوى، ليس لديها أي مانع في تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” في مقابل تعزيز المصالح والمكاسب الناجمة عن هذه الخطوة.
واختتمت حديثها بأنه من المتوقع أن تنشط أدوات القوى الناعمة في السودان خلال المرحلة المقبلة لإقناع الشارع بجدوى اتفاق التطبيع، عازفين على وتر المكاسب الاقتصادية التي تحققت من خلاله، وفي الوقت ذاته تأكيد الدعم الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني، وهي الإستراتيجية التي تراها الكاتبة ضد إرادة الشعب السوداني الرافض تمامًا للتطبيع مع هذا الكيان.
تبقى الإرادة الشعبية السودانية هي المحك الحقيقي للتطبيع من عدمه، فما أبرمته السلطات من اتفاقيات لن تتجاوز حدود الدبلوماسية والتعامل الرسمي فقط، كغيرها من بلدان المنطقة المطبعة مثل مصر والأردن
الرفض الشعبي للتطبيع
منذ اللقاء الأول الذي جمع بين رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في أوغندا، فبراير/شباط 2020، والمزاج الشعبي السوداني يرفض شكلًا ومضمونًا أي تقارب معلن أو خفي مع تل أبيب، رغم تأكيدات السلطة الانتقالية السودانية أكثر من مرة عدم الإقدام على تلك الخطوة في الوقت الراهن.
وفي 7 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 دشن 28 حزبًا وتكتلًا ومنظمةً، ائتلافًا لمناهضة التطبيع، فيما تم التوقيع على ميثاق “القوى الشعبية لمقاومة التطبيع مع إسرائيل“، أبرز تلك الكيانات حزب المؤتمر الشعبي وحركة الإصلاح الآن وحزب منبر السلام العادل وتجمع الشباب المستقلين وهيئة علماء السودان.
ممثل الائتلاف، دفع الله تاج السر، في مؤتمر صحفي له حينها قال: “لا مصالح لنا في التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل الذي جاء لسرقة مواردنا”، دعايًا كل القوى السياسية والتكتلات في البلاد، إلى التوقيع على ميثاق رفض التطبيع، فيما لاقى هذا التكتل زخمًا شعبيًا كبيرًا، أسفر عن حزمة من التظاهرات المنددة بالتقارب مع دولة الاحتلال.
القيادي بحزب المؤتمر الشعبي طارق بابكر، رفض مسألة الابتزاز السياسي باسم الاقتصاد والمكاسب، لافتًا في تصريحات له أن “القضية (التطبيع) لها أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، والحكومة تصورها أنها قضية قمح ووقود تأخذ منه القليل مقابل بيع القيم السودانية”.
وفي الأخير تبقى الإرادة الشعبية السودانية هي المحك الحقيقي للتطبيع من عدمه، فما أبرمته السلطات من اتفاقيات لن تتجاوز حدود الدبلوماسية والتعامل الرسمي فقط، كغيرها من بلدان المنطقة المطبعة مثل مصر والأردن، ليظل المزاج الشعبي الرافض هو الصخرة التي تتحطم عليها كل محاولات التمرير باسم التسامح وقبول الآخر وغير ذلك من الشعارات الحق التي يراد بها باطل.