ما من شك أن الاستبداد والقهر الاجتماعي كانا السمة الأساسية لنظام العقيد معمر القذافي، فقد بنى الأخير سلطته على جدران الخوف والترهيب بعدما ألغى كل المقومات الأساسية للمواطنة كحرية التعبير والرأي والمشاركة في الحياة السياسية، وذلك بهدف تفكيك المجتمع والدولة ومؤسساتها.
فمنذ وصوله للحكم بانقلاب على السلطة الشرعية مارس العقيد برامجه السلطوية وأرسى حكمًا شموليًا أساسه القمع والتدجين وضرب الوعي الاجتماعي باستهداف طلاب المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات وكل القطاعات الحيوية، بآلة اللجان الثورية وأجهزة أمنية وعسكرية متنوعة نفذت اغتيالات وإعدامات خارج أطر القانون.
هذا الوضع الاجتماعي والسياسي الهش والفوضوي أفرز في مرحلة ما بعد ثورة فبراير/شباط 2011 فراغًا على مستوى النخب السياسية القادرة على إنجاح المسار الانتقالي، حيث عجزت هذه الفئة – أي الشخصيات الوطنية باختلاف انتماءاتها الإيديولوجية – عن استيعاب مراحل التحول التي أعقبت التغيير على مستوى نظام الحكم من الشمولي إلى الديمقراطي، وبالتالي فإن ليبيا عرفت على امتداد العشر سنوات الأخيرة حالة خواء وعطب سياسي.
خواء سياسي
الأزمة المعقدة التي يعيشها الليبيون على أكثر من صعيد، تعود جذورها الأولى لثورة 17 فبراير/شباط، فالقوى المحلية والدولية التي شاركت في إسقاط حكم العقيد لم تسطر أي خطط إستراتيجية في التعامل مع الوضع الجديد، واقتصر فعلها على مسايرة التحول الديمقراطي دون قراءة واقع المجتمع الليبي وتركيبته.
لذلك عجز المجلس الانتقالي الذي عُهد إليه بإدارة الوضع في تلك الفترة عن إدارة البلاد بشكل فعال، وذلك لأسباب هيكلية تمثلت أساسًا في ضعف شرعية هذا الكيان القائم على رجال الأعمال ومعارضة الخارج وبعض المثقفين المعزولين.
السنوات الأولى التي أعقبت الثورة الليبية كانت بمثابة اختبار جدوى وفاعلية السياسيين، فتجربة انتخابات 2012 التي أفرزت المؤتمر الوطني العام، أثبتت بشكل جلي أن الهياكل المؤسسية للدولة التي كانت مشلولة أيام جماهيرية القذافي، عجزت عن إقامة شرعية صلبة أو احتواء ماكينة الديمقراطية التي تحولت فيما بعد إلى آلية لإعادة إنتاج موازين قوى قادتها الميليشيات القبلية المتصارعة على تركة النظام وموارده، وذلك في وقت اقتصر الحراك السياسي على معارك كسر العظام بين التيار الليبرالي والإسلامي.
هذه المعارك السياسية الجانبية التي لم تخدم الانتقال الديمقراطي في ليبيا، كانت بسبب ضعف هذه التيارات أو الأحزاب نتيجة لغيابهم عن المشهد طوال فترة حكم القذافي، وثانيًا، لوقوعهم في صراع ثالث مع المعارضة العائدة من المهجر وأنصار النظام السابق، وكل هذه المكونات اصطدمت في مرحلة لاحقة بتيارات أخرى جهادية وإرهابية.
الوضع الاستثنائي الذي عرفته ليبيا أفقد هذه المكونات على اختلافها الفاعلية السياسية ومنعها من أدوات العمل الحزبي المنظم، وجعلت شبكات تحالفاتها ونفوذها هشة، وبالتالي تحول المشهد السياسي الليبي إلى نموذج تقليدي يقوم على فرز النخب عن طريق السلاح والعصبية القبلية.
في السياق ذاته، يمكن القول إن تركيبة المجتمع الليبي التي تأثرت تاريخيًا بالنظامين الملكي السنوسي والجماهيري بقيادة القذافي، يختلط الحزبي بالعسكري بالقبلي بالجهوي وهذا يؤثر كثيرًا على أداء الأحزاب التي تجد نفسها في أغلب الحالات مرتهنة إلى جهة من هذه الجهات دون القدرة على التعاطي السياسي مع الواقع وفق رؤية وتصور وبرنامج يطرح بدائل حقيقية لمتطلبات الواقع على الأرض.
الأحزاب الليبية
– تحالف القوى الوطنية (ليبيرالي) أسسه بعد الثورة الراحل محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي الذي قاد الثورة، فاز الحزب في انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012 وحقق نتائج مهمة في انتخابات البرلمان سنة 2014.
– حزب العدالة والبناء (إسلامي) يعتبر الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين، تأسس في 2011 وفاز بالمرتبة الثانية في انتخابات المؤتمر الوطني العام، ويُعد من أكثر الأحزاب تنظيمًا من حيث الهيكلة ولم يعرف انشقاقات كبرى رغم مغادرة بعض قياداته.
– حزب الجبهة الوطنية: تأسس عام 2012، مرتبط بالجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا المعارضة سابقًا للقذافي التي تأسست في أمريكا سنة 1981، يصنف من الأحزاب الليبرالية ويقوده محمد يوسف المقريف.
– التجمع الوطني الليبي: تأسس نهاية 2018 ويمثل ثوار فبراير الذين أدركوا ضرورة تنظيم صفوفهم في هيكل يمثل مشروعهم السياسي والحقوقي.
– تجمع المشروع الوطني: تأسس بداية 2018 على يد محمود الفطيسي وزير الصناعة في حكومة عبد الرحيم الكيب، الحزب محسوب على فبراير ويدعو إلى التداول السلمي للسلطة وبدولة القانون والمؤسسات ويرفض عسكرة الدولة.
– الائتلاف الدستوري: تأسس سنة 2018 ويقوده وزير الخارجية في حكومة الإنقاذ الوطني (2015) عبد الحميد النعمي، الحزب محسوب على الثورة ومن المنادين بتكريس دولة القانون ورفض عسكرة السلطة.
– التكتل الوطني الديمقراطي: يقوده الدكتور علي الصلابي، تأسس بداية سنة 2018 وينادي بالمصالحة الوطنية الشاملة ويرفض عسكرة الحكم ويؤمن بدولة القانون والمؤسسات.
– الجبهة الشعبية: حزب محسوب على أنصار النظام السابق ويمثل خط سيف الإسلام القذافي الذي لا يقوده عمليًا، تأسس سنة 2016 ويدعو إلى استكمال مشروع ليبيا الغد (سيف القذافي).
– جبهة النضال الوطني: أسسه أحمد قذاف الدم المحسوب على النظام السابق والمقيم في القاهرة، وهي حركة مدعومة من جزء من أنصار نظام القذافي ومقربة من العسكر في مصر ولها تقاطعات مع عملية الكرامة.
– حركة المستقبل: تأسست عام 2016 محسوبة على النظام السابق وتحظى بدعم من أنصار القذافي وتشتغل في الحقل السياسي والفكري وتحاول التأقلم مع الواقع الجديد دون القطع مع الماضي.
– تجمع الوحدة الوطنية: يقوده محمد أحمد الشريف وهو أكاديمي ليبي يدعو إلى تجاوز الماضي وتوحيد صف الليبيين بعيدًا عن التعصب الفكري والسياسي.
– حزب الوطن: تأسس سنة 2012 يرأسه عبد الحكيم بالحاج رئيس المجلس العسكري لمدينة طرابلس بعد الثورة، فاز بمقعدين في انتخابات المؤتمر الوطني العام، وتعمل قيادته من الخارج وينسق سياسيًا مع التجمع الوطني الليبي وهو حزب إسلامي المرجعية ومتأثر بتصور حركة النهضة في تونس.
توجد في ليبيا أحزاب أخرى متفاوتة الحجم والحضور والتأثير كحزب الاتحاد من أجل الوطن (فبراير) الذي أسسه عبد الرحمان السويحلي وحزب الرسالة (إسلامي) لمؤسسه محمد العماري عضو المجلس الرئاسي وحزب التغيير (ليبرالي) أسسه جمعة القماطي والتجمع الليبي الديمقراطي (ليبرالي) لرجل الأعمال حسن طاطاناكي.
سلطة القبيلة
كانت القبيلة في ليبيا بمثابة الملجأ لنظام القذافي، فهي الهيكل الاجتماعي الأقدر على احتضان الأفراد والتحكم في خياراتهم ومساراتهم السياسية في ظل غياب مكونات مدنية أخرى للانتماء كالأحزاب والنقابات والجمعيات.
تاريخيًا، قوض القذافي بشطحاته الفكرية ونظامه الجماهيري كل هياكل الدولة ومؤسساتها، وفي مقابل ذلك تبنت أيديولوجيته الفوضوية القيم العشائرية المغلفة سطحيًا بشعار الديمقراطية المباشرة أو حكم الجماهير، إلا أن الثورة التي قامت على ماكينة حكمه الوحشية والتحولات التي عرفتها البلاد بعد سقوطه لم تتخلص بعد من سلطان القبيلة.
فكل مدينة أو منطقة في ليبيا (غرب وشرق) أسست جيشها وهي عبارة عن ميليشيات قبلية مسلحة تتحكم في مجالات إقليمية تمكنها من التفرد، فيما تحكمت أخرى في الموارد النفطية (حقول وموانئ) باعتبارها ورقة ضغط وقوة تمكنها من الحصول على موطئ قدم في أي مشروع سياسي.
ويبدو أن نظام القبيلة في ليبيا فرض نفسه كبنية اجتماعية وثقافية وسياسية كامنة لم تكن فاعلة في الأيام الأولى للثورة خاصة زمن المؤتمر الوطني العام والمجلس الانتقالي، إلا أنه تم توظيفها في الحراك السياسي وفي الصراع على السلطة بعد صعود حفتر إلى المشهد في 2014، فباتت وسيلة لاحتماء الأفراد والجماعات من الدولة، وأحيانًا كانت ملاذًا وملجأ للدولة للاحتماء من الأفراد.
هذا الوضع، دفع بشق من الليبيين إلى المطالبة بالرجوع للنظام الملكي، مستندين في ذلك إلى التركيبة المجتمعية الإقليمية في البلاد التي لا يمكنها الانسجام مع نموذج الجمهورية المركزية ونظامها السياسي التمثيلي، معتبرين أن غياب السلطة القوية الجامعة سينتج عنه بالضرورة تفتت الوحدة الوطنية الهشة، وبروز كيانات متصارعة فيما بينها على الريع النفطي.
عمليًا، يوجد في ليبيا طرفا نزاع، كل طرف من أطراف الصراع يتمترس وراء مجموعة من التحالفات المحلية القائمة على أساس قبلي عشائري، وهذا الأمر أضعف القدرة على بناء توافق وطني حول أولويات المرحلة الانتقالية واستحقاقاتها، وعقد الأزمة التي تعاني منها النخب السياسية بمختلف أطيافها وانتماءاتها.
العبور.. شروط وآليات
ظاهر الأزمة الليبية، يوحي بأن المشاريع السياسية المدعومة محليًا (قبيلة) وغربيًا (التدخل الأجنبي) رغم نجاح الفرقاء في اختيار السلطة التنفيذية مؤخرًا، لن تفضي إلى نتائج جوهرية، فأي خيار لا يفرز سلطة مركزية صلبة وشرعية تقوم على التمثيل الحقيقي ومسنودة بجيش نظامي موحد، سيبقي على نفوذ القبلية التي تحتكم إلى نظامها الخاص وميليشياتها المسلحة.
هؤلاء ما يعرفون بالنخبة، هم عصارة ليبيا، يقررون الحرب والسلم، يسخرون القبلية والجهوية للوصول لمآربهم، لا يستطيعون كسب الولاء إلا بسموم الكراهية…
السياسة الناضجة في العالم ترتكز على أحزاب وايديولوجيات، عندنا سياسة بالشنة والمعرقة والفرملة، تنطلق فيها حملات الترشح من لمرابيع! pic.twitter.com/yMRQdEdFVA
— The Catapult of Thoughts (@MajidSyd2) January 25, 2021
من هذا الجانب فإن التحديات التي يمكن أن تواجه أي مشروع سياسي جديد أو سلطة في ليبيا تتلخص في الآتي:
– سياسيًا: الحكومة القادرة على إنجاح المسار الانتقالي في ليبيا سيكون من مهامها الرئيسية الحفاظ على استمرار وقف إطلاق النار وإخراج المقاتلين الأجانب ثم إنهاء الانقسام السياسي والتجهيز للانتخابات، بالإضافة إلى إرساء إستراتيجية مبنية على التوافق من أجل توحيد المؤسسة الأمنية.
– على الصعيد الاقتصادي: فمن مهامها الأساسية توحيد الميزانية عبر إنهاء انقسام المؤسسة المالية والاقتصادية، وكذلك توفير السيولة في المصارف والسيطرة على التضخم وتقليص تداعياته الاجتماعية.
– أما على المستوى الاجتماعي الذي لا يقل قيمةً عن السياسي والاقتصادي: فإن الحكومة مطالبة بوضع برامج لهيكلة بعض القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والخدمات الأساسية وإعادة إعمار المدن المدمرة وتوطين المهجرين، بالإضافة إلى التحكم في انتشار فيروس كورونا والبدء في تنفيذ خطة تطعيم وطنية.
بالمجمل، إن الأزمة الليبية لا تكمن في غياب النخب والكوادر الوطنية، بل في غياب الإرادة السياسية للأطراف المتنازعة على الحكم التي تفتقد إلى الرؤى الشاملة والواضحة لمعالجة مواضع الخلل، وكذلك إلى تركة النظام السابق التي عززت الانتماء القبلي والعشائري على حساب الوطن، فتشكيل المجلس الرئاسي أو وضع مقاربات لتوحيد القوات المسلحة أو النجاح في تنظيم الاستحقاق الانتخابي، ليست سوى مراحل لبناء أهم وهو إرساء عقد اجتماعي يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات ويعيد رسم ملامح المواطن الليبي الجديد وفق شعارات 17 فبراير/شباط.