في 22 من ديسمبر/كانون الأول 2019 نقل التليفزيون التركي مراسم إنزال غواصة تركية حديثة الصنع إلى مياه كوجالي، في إطار برنامج يهدف إلى تطوير الصناعات الدفاعية وزيادة قدرات البحرية التركية، الحفل حضره الرئيس رجب طيب أردوغان، وحملت الغواصة الجديدة اسم “بيري ريس” فمن يكون صاحب هذا الاسم؟
بيري ريس أو أحمد محيي الدين بيري، أحد أعلام البحرية العثمانية في القرن السادس عشر، عاصر 3 سلاطين عثمانيين، واستطاع على مدار 14 عامًا أن يحقق عشرات الانتصارات البحرية في المعارك التي خاضها رفقة عمه، أمير البحار المخضرم كمال ريس الذي اعتنى به ورباه.
لم يكن محيي الدين مجرد بحار عادي، بل كان عالمًا متمكنًا في علوم الجغرافية البحرية، وله إسهامات عدة في رسم الخرائط العالمية، بل إن بعض الروايات تشير إلى أنه اكتشف الأمريكتين قبل كريستوفر كولومبوس وأمريكو فسبوتشي، وهو ما جعله في منزلة عالمية بعيدة تمامًا عن أبناء جيله من أمراء البحر العثمانيين.
نشأة على أصوات البحر
“إن أبناء غاليبولي أمضوا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أسرتهم القوارب، وهدهدتهم البحر والسفن ليلًا ونهارًا”.. هكذا وصف المؤرخ العثماني ابن كمال في كتابه “كتاب مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ” الأبناء الذين تربوا في مدينة غاليبولي (شبه جزيرة تقع في تراقيا الغربية في الجزء الأوروبي من تركيا)، ومنهم، بيري ريس، الذي نشأ وترعرع وسط أباطرة البحر.
ركب بيري المولود عام 1465 (تقول روايات أخرى إنه ولد بين 1465 و1470) البحر في سن مبكرة، رفقة عمه كمال ريس، الذي شجعه على الإبحار، ما أسفر عن عشق غير عادي للرحلات البحرية، أثرت فيما بعد في شخصيته الميالة للاكتشافات القارية عبر مسارات المياه حول العالم.
وفي بداية العقد الثاني من عمره التحق الشاب المولع بأصوات البحر وأمواجه بالبحرية العثمانية رسميًا، حيث قاد إحدى سفن الأسطول العثماني عام 1494 خلال إحدى المعارك التي جرت في أثناء الحرب البحرية العثمانية البندقية (1396-1718).
كان له دور كبير في حملات الإنقاذ التي نفذتها الإمبراطورية العثمانية لمسلمي الأندلس ضد اضطهاد الصليبيين والإسبان الذين ضيقوا الخناق على جميع الأقليات الدينية هناك ما عدا المسيحية
ومن أكثر المعارك التي كان لها صداها الواسع وأذاعت صيت بيري كمقاتل بحري من الطراز الأول، معركة مودون نهاية القرن الخامس عشر، التي لقن العثمانيون فيها أسطول البندقيين هزيمة ساحقة، هذا بجانب العديد من المعارك البحرية الأخرى التي وقعت خلال الفترة من 1499 إلى 1502.
كما كان له دور كبير في حملات الإنقاذ التي نفذتها الإمبراطورية العثمانية لمسلمي الأندلس ضد اضطهاد الصليبيين والإسبان الذين ضيقوا الخناق على جميع الأقليات الدينية هناك ما عدا المسيحية، ونقلهم إلى شمال إفريقيا، وهو ما كان له تأثيره في مخزون معتقداته التي تشكلت فيما بعد وكشف النقاب عنها في مؤلفاته.
نقطة تحول
كان عمه كمال، أميرال الأسطول العثماني، المعروف في أوساط أوروبا خاصة في إسبانيا وإيطاليا بـ “كمالى وكماليكيو”، قدوته ومصدر إلهامه وسر حبه للبحر وخوض المعارك البحرية رغم ما تحمله من مخاطر، فكان رفيقه في معظم الغارات والحروب ضد الإسبان والبرتغال والإيطاليين على مدى 14 عامًا أمضاها مع القائد المغوار.
رغم البلاء الحسن الذي قدمه بيري خلال معاركه البحرية، فإن طموحه كان أكبر من ذلك بكثير، وكان يرى أن دعم الأسطول العثماني وقيادته للعالم لا بد أن يأتي عبر مسارات متوازية من القتال البحري والاكتشافات الجغرافية والفلكية العلمية الأخرى، بما يقدم صورة متكاملة عن البحرية العثمانية في هذا الوقت.
إلا أن دعم عمه له كان حائط الصد أمام أي محاولات لترك القتال في مياه المتوسط، وعليه حين توفي كمال ريس عام 1511 إثر عاصفة شديدة في بحر المتوسط دمرت 27 سفينة بينها سفينته، خلال إحدى المعارك التي كان يخوضها ضد البرتغاليين، أصيب بيري بالإحباط الشديد وعانى من الاكتئاب طويل المدى، ليعود إلى غاليبولي مرة أخرى، تاركًا البحر ومعاركه التي أطاحت بأقرب الناس إلى قلبه.
عالِم الخرائط الأول
في 9 من أكتوبر/تشرين الأول 1929 أعلن عالم الملاحة العالمي الألماني غوستاف أدولف ديسمان، اكتشافه خريطتين متهالكتين للشواطئ الغربية لإفريقيا والشواطئ الشرقية للأمريكتين والحدود الشمالية لليابسة في القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، تعود للقرن السادس عشر، مرسومتين بتسعة ألوان على جلد الغزال، الخريطتان مكتوب عليهما “بيري ريس”.
الخريطتان كانتا كنزًا ملاحيًا غير مسبوق بالنسبة للعالم الألماني لا سيما في ظل ما كانا يتمتعان به من دقة كبيرة في الوصف، حتى قال عنها مدير مركز الأرصاد في ويستون: “خرائط بيري ريس صحيحة بدرجة تُذهل العقول، لأنها تُظهر بوضوح أماكن لم يكتشفها الإنسان في ذلك الزمان، ومما يبعث على الحيرة أنه رسم جبال القارة القطبية الجنوبية ووديانها، في حين لم تتوصل المراكز الجغرافية المعاصرة إلى رسمهـا إلا بعد عام 1952، بعد أن تسلحت بأحدث تقنيات المسح الزلزالي”.
الانبهار العالمي بخرائط بيري يرجع إلى تميزها بالعديد من الخصائص والسمات التي لم تكن موجودة في خرائط تلك الحقبة
وبعد عامين فقط من اعتكافه إثر وفاة عمه، انتهى بيري من رسم خريطة العالم كاملة، وفي 1517 عينه السلطان سليم القانوني أميرالًا في حملة السلطان سليم الأول على مصر، الأمر الذي سمح له برسم خريطة تفصيلية لمصر وحوض النيل وما حوله.
الانبهار العالمي بخرائط بيري يرجع إلى تميزها بالعديد من الخصائص والسمات التي لم تكن موجودة في خرائط تلك الحقبة، حيث أعطت وصفًا دقيقًا لأماكن لم تتطرق إليها المراجع الجغرافية المعاصرة، وهو الأمر الذي دفع البعض إلى التشكيك في بعض المعلومات المسلم بها سلفًا بشأن الاكتشافات الجغرافية القديمة ومنها اكتشاف الأمريكتين.
وتقديرًا لقيمة تلك الخرائط التي باتت جزءًا من التراث العالمي للوثائق، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2013 عامًا لإحياء ذكرى بيري ريس، بمناسبة مرور 500 عام على خريطة العالم التي رسمها، وكان من ضمن مظاهر الاحتفاء إقامة معرض تحت عنوان “بيري ريس وخريطة العالم 1513: 500 عام من الغموض” في إسطنبول.
صاحب أقدم خريطة لأمريكا
الباحثة السورية زينب بيره جكلي، الحاصلة على الدكتوراه في الأدب العثماني من جامعة بنجاب في لاهور، ترى أن الخريطة التي رسمها بيري للعالم عام 1513 هي أقدم خريطة موجودة لقارة أمريكا على سطح الأرض، وذلك بعد ضياع خريطة كولومبوس، وهو ما يعني ريادة العالم العثماني.
الخريطة تبلغ من الدقة المتناهية ووضوح الصورة ما جعلها محط أنظار الباحثين الجغرافيين في شتى أنحاء العالم، حيث تظهر “الجبال في نقوش بارزة، والأنهار بخطوط سميكة، والمسطحات بنقاط حمراء، ومناطق حجرية تتضمن رسومات لنباتات شائعة وصور حيوانات، إضافة إلى ملاحظات حول مختلف المناطق”.
أما الجزء المتبقي منها فيتضمن السواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي، كذلك الخطوط الساحلية للأمريكتين الشمالية والجنوبية، وجزر الأنتيل وشمال غرب إفريقيا وفرنسا وإسبانيا، وهو ما يجعلها تحظى بقيمة تاريخية كبيرة، إذا قورنت بالرسومات والمقاربات العلمية التي كانت متاحة في ذلك الوقت.
جكلي تشير إلى أنه خلال ندوة إذاعية عقدت في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأمريكية، في 26 من أغسطس/آب 1956 عن خرائط بيري ريس، أجمع الحضور المشاركون وهم من أباطرة علم الجغرافيا في العالم، أن خرائط بيري عن أمريكا “اكتشاف خارق للعادة”.
كتاب البحرية
السنوات الطويلة التي قضاها بيري في البحر متنقلًا بين بلد وآخر، مثلما ساعدته في رسم أروع الخرائط العالمية التي لا تزال حاضرة بقوة حتى يومنا هذا، كان لها دور كبير كذلك في تقديمه لأحد أهم المؤلفات في مجال الملاحة وهو “كتاب البحرية” الذي ألفه عام 1521.
قيمة هذا الكتاب ليست في كونه أحد الأعمال الرائدة في علم الجغرافيا ورسم الخرائط في تاريخ الدولة العثمانية فحسب، بل يعد دليلًا إرشاديًا للتاريخ البحري على مستوى العالم، إذ تطرق إلى مبادئ علم الملاحة التي استند إليها الملاحون فيما بعد، متناولًا العديد من الموضوعات على شاكلة أهمية علوم الملاحة للبحارة وأسماء الرياح والعواصف ومقدمة في الخرائط وعلامات الخرائط وأسماء البحار.
رغم مرور 500 عام تقريبًا على هذا الكتاب، فإن ما جاء به من ألغاز وخرائط لا تزال موضع نقاش بين علماء الجغرافيا البحرية حتى يومنا
وثق البحار الملاح العثماني في الجزء الأول كتابه الذي من الممكن أن ينظر إليه كأحد الأعمال الرائدة في “أدب الرحلات البحرية” معلومات قيمة وتفصيلية عن المحيط الهندي والخليج العربي ومضيق هرمز، بجانب سواحل الحبشة وجزر القمر في إفريقيا وجزر الأنتيل واكتشاف أمريكا، بخلاف ما قدمه عن بحر الصين وأبرز ما يتمتع به من موارد.
أما في الجزء الثاني فتطرق إلى دراسة البحر المتوسط وسواحله في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا ومصر، كذلك سواحل البحر الأدرياتيكي وقبرص وموانئ ساحل الأناضول المطلة على بحر إيجه، فيما يختتم مؤلفه بالحديث عن خليج ساروس الذي يقع إلى الشمال من غاليبولي.
ورغم مرور 500 عام تقريبًا على هذا الكتاب، فإن ما جاء به من ألغاز وخرائط لا تزال موضع نقاش بين علماء الجغرافيا البحرية حتى يومنا هذا، فيما وصفه المؤرخون بأنه أحد أعظم الأدلة الاسترشادية التي تزخر بها المكتبات العالمية عن التاريخ البحري.
نهاية مأساوية
الغريب أنه وبعد هذا التاريخ الطويل من الإنجازات والنجاحات التي حققها بيري في مجالات القتال البحري ورسم الخرائط العالمية وعلوم الملاحة، إلا أن نهايته كانت مأساوية من الطراز الأول، حيث نفذ فيه حكم الإعدام عام 1554 عن عمر يناهز 84 عامًا.
تباينت الروايات بشأن أسباب الإعدام، أبرزها تلك التي تشير إلى وشاية تعرض لها عند السلطان عن طريق أعدائه الذين اتهموه بالخيانة والتخاذل، محملين إياه فشل حملته ضد البرتغاليين بعد تعيينه قائدًا للأسطول العثماني بعد وفاة خير الدين بربروس.
حيث خرج بيري على رأس أسطول من مدينة السويس المصرية إلى عدن، ومن بعدها البصرة، لكنه لم يفلح في فتح قلاعها الحصينة بعد سيطرة البرتغاليين عليها، فيما تعرض أسطوله لصدمات عدة أسفرت عن تحطم بعض السفن، فقرر العودة إلى مصر.
استغل أعداء بيري تلك الواقعة للتخلص منه، وكان على رأس أعدائه والي البصرة (قباذ باشا)، الذي أرسل خطابًا عاجلًا لديوان السلطان سليمان القانوني، متهمًا بيري بالخيانة، لتصدر الأوامر المباشرة بإعدام بيري ريس فور وصوله لمصر وبالفعل أُعدم في مصر عام 1554.
وبصرف النظر عن أسباب الإعدام، فإن بيري ريس يعد أحد الأركان الأساسية في بناء الأسطول العثماني، وكلمة السر في وصول صيت وسمعة الإمبراطورية البحرية العثمانية للعالمية، لما قدمه من أعمال رائدة، سواء على مستوى الخرائط أم كتابه القيم، فضلًا عن المعارك التي خاضها وحقق فيها عشرات الانتصارات.