ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأت جذوة الأمل والحماس تخبو، بعد أن كانت قد اشتعلت مع إعلان الاستقلال قبل أربعة أشهر، والذي كان فرانكلن من بين الموقعين عنه، لتحل محلها المخاوف من خسارة المعركة أمام القوة العسكرية الغاشمة للجيش البريطاني.
وقد أدرك فرانكلين حينها أن مهمته واضحة ومحددة، وليست بالسهلة. فهو يتوجب عليه استخدام خصال الذكاء والإقناع والحكمة، إلى جانب حنكته السياسية، من أجل إقناع الفرنسيين بدخول الحرب والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية الوليدة. وقد مثلت شعبية فرانكلين وقوته في الإقناع، إلى جانب الانتصار في إحدى ساحات القتال في الأراضي الأمريكية، عوامل حاسمة أقنعت فرنسا بدخول هذه الحرب في 1778.
وقد وفرت فرنسا المال والجنود والأسلحة إلى جانب القيادة العسكرية و الإسناد البحري، من أجل ترجيح الكفة لصالح الولايات الأمريكية، وتمهيد الطريق أمام الجيش القاري لتحقيق الانتصار النهائي، الذي تم اقتلاعه في يوركتاون بعد خمس سنوات من ذهاب فرانكلين إلى فرنسا.
وعندما أعلن الجنرال البريطاني تشارلز كورنواليس استسلامه إثر حصار يوركتاون في فيرجينيا في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1781، سارت قواته المهزومة وسط ممر شكلته القوات المنتصرة. وكانت تقف على أحد جانبي الممر القوات الأمريكية، وفي الجانب الآخر الفرنسية، في مشهد عكس الدور الحاسم الذي لعبه الدعم الفرنسي.
ويعود تاريخ الحروب بين البريطانيين والفرنسيين إلى القرن الثاني عشر، واحتدمت الصراعات بسبب سعي انجلترا وفرنسا وإسبانيا لبسط نفوذها وتوسيع إمبراطورياتها الاستعمارية بداية من أواخر القرن الخامس عشر.
وقد تكبدت فرنسا هزيمة مذلة في آخر هذه المواجهات، وهي حرب السبع سنوات بين 1756 و1763، التي تضمنت الحرب الفرنسية والهندية في أمريكا الشمالية. وقد خسرت فرنسا حينها أغلب نفوذها في شمال القارة، بعد أن اضطرت للتنازل لإنجلترا عن أغلب أراضيها بما فيها كامل كندا.
ومع تزايد حالة العصيان في المستعمرات البريطانية في أمريكا في ستينات وسبعينات القرن الثامن عشر، رأت فرنسا أن مصلحتها تتمثل في الوقوف إلى جانب الثوار الأمريكيين، واعتبرت أن حراكهم هو فرصة ذهبية لها لتحجيم قوة خصمها البريطاني. فشرعت مباشرة في توفير الدعم السري لهم، من خلال تزويدهم بالبارود الذي كانوا في أمس الحاجة إليه منذ ربيع 1776.
وقد لاقى إعلان الاستقلال ترحيبا واسعا في كافة أنحاء فرنسا، وحظي فرانكلين باستقبال حار لدى وصوله إلى باريس في شهر كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام. كما ساهمت جاذبية فرانكلين وشخصيته المميزة في زيادة شعبيته، حتى أنه بات نجما مشهورا في خضم جهوده الرامية لكسب المزيد من التأييد للقضية الأمريكية.
وأثناء الأسابيع النهائية من العام 1776، التي طغت عليها مشاهد الدمار ومشاعر الخوف، والتي كتب عنها توماس بين قائلا “الأوقات التي تختبر أرواح الرجال”، تمكنت واشنطن من اقتلاع انتصارات معجزة في ترنتون و برينستون، منحت أملا جديدا للجيش القاري الذي كان يعاني من الارتباك. كما أن الدعم الفرنسي السري توسع ليشمل إرسال المدافع الخفيفة والبنادق والذخيرة والمال، وأنواع أخرى من المساعدات.
وفي فرنسا ازداد الدعم الشعبي لما اعتبر النضال الأمريكي من أجل الحرية، وحظي بدعم قوي من الأرستقراطي جيلبر دي موتييه، ماركيز لافاييت الذي دفع المال للوصول إلى الأراضي الأمريكية في 1777، وقاتل ببسالة لافتة في صفوف الجيش القاري، وأصبح جنرالا تحت قيادة واشنطن.
وعندما تمكن الجيش القاري بقيادة الجنرال هوراشيو غيتس من إلحاق الهزيمة بالبريطانيين في معارك ساراتوغا في 19 أيلول/ سبتمبر و7 تشرين الأول/ أكتوبر 1777، كان تسعة من كل عشرة جنود أمريكيين يحملون أسلحة فرنسية، وكانت كل قطعة سلاح مذخرة بالبارود الفرنسي، بحسب ما تشير إليه الدراسات التاريخية. كما أن المدافع الفرنسية الميدانية الخفيفة لعبت دورا حاسما في هذا الانتصار المصيري، الذي قاد نحو الاستسلام التاريخي للجنرال البريطاني جون برغوين وكامل جيشه.
هذا النجاح الباهر في معارك ساراتوغا منح فرانكلين ما كان يأمل في الحصول عليه، وهو الدعم الفرنسي العلني في هذه الحرب. حيث وافق الملك لويس السادس عشر على دخول مفاوضات أفضت إلى اتخاذ هذا القرار. وقد شارك فيها من الجانب الأمريكي فرانكلين، واتفق البلدان على اثنين من المعاهدات، تم توقيعهما في السادس من فبراير/ شباط 1778، ونصتا على المشاركة المباشرة لفرنسا في الحرب.
في ذلك اليوم كان جيش واشنطن يعاني في وادي فورج، حيث كان أغلب الجنود قد لقوا حتفهم أو بصدد الفرار في ظل قساوة الظروف المناخية في أيام الشتاء البارد. أما البقية فقد كانوا فقط يحاولون البقاء على قيد الحياة. ولكن مع حلول الأول من آيار/ مايو، عندما وصلت الأخبار الإيجابية من باريس، كانت برودة الشتاء قد انقضت والأحوال تبدلت. فقام واشنطن بجمع كامل وحداته في وادي فورج لإقامة احتفالات عسكرية. وقد تضمن هذا الاحتفال توصية من واشنطن لقواته بترديد شعار “عاش ملك فرنسا” عند تلقي إشارة منه.
كما قامت فرقة عسكرية فرنسية بتنفيذ عمليات على الأراضي الأمريكية بين 1778 و1779، ولكن الدعم الذي صنع الفرق بشكل فعلي جاء في 1780، مع وصول الجنرال الفرنسي جون باتسيت دونتيان دي فيمور، كونت روشامبو الذي رست سفنه في سواحل رود أيلند، وكان برفقته أكثر من خمسة آلاف جندي فرنسي.
ورغم أن هذا القائد لم يكن يتكلم الانجليزية، فقد جمعته علاقة وطيدة بواشنطن. وتمكن الرجلان من تشكيل فريق ناجح، وتم الدمج بين القوتين العسكريتين فيما وصفه واشنطن بأنه “جيش مدفوع بروح واحدة”، توجه جنوبا نحو فيرجينيا للمبادرة بالهجوم، مع مخطط للإيقاع بالجنرال البريطاني تشارلز كورنواليس وقواته البالغ تعدادها 8 آلاف رجل كانت تخيم في يوركتاون. وكانت قوات لافايات متمركزة هناك بشكل مسبق، لسد طريق الهروب.
واعتمد نجاح هذه الخطة على إسناد القوات البحرية الفرنسية. وقد طلب القائدان كونت روشامبو وواشنطن الدعم من الأسطول الفرنسي في جزر الهند الغربية بقيادة الأميرال فرانسوا جوزيف بول دي غراس، الذي كان يبحر نحو فرجينيا، وكانت الحسابات العسكرية تشير إلى أنه مع نجاح دي غراس في افتكاك السيطرة على خليج تشيسابيك من الأسطول البريطاني الذي كان يحمي كورنواليس، فإن الجيش البريطاني سوف يضطر للاستسلام.
وفي 9 أيلول/ سبتمبر 1781، في معركة كايبس التي تعد واحدة من المعارك البحرية الأكثر تأثيرا في مسار الثورة الأمريكية، مني الأسطول البريطاني بالهزيمة وتعرضت سفنه لضرر بليغ، فضطرت للتراجع نحو نيويورك. وتم تطويق كورنواليس من كافة الجهات وبدأ حصار يوركتاون. وفي 19 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام استسلم كورنواليس، ومثلت هزيمته ضربة قاصمة للآمال البريطانية في هذه المواجهة، فتحت الباب نحو النهاية الرسمية للحرب في 1783.
واعتبر لافاييت واحدا من العديد من الأبطال الفرنسيين لهذه الحرب، إلا أن اسمه كان الأكثر بروزا في صفحات التاريخ الأمريكي، خاصة بعد عودته إلى الولايات المتحدة للقيام بجولة وداعية دامت 15 شهرا، بين 1824 و1825. وقد قام هذا القائد العسكري الذي بلغ حينها سنا متقدمة بزيارة الولايات الأربع وعشرين لهذه الدولة الفتية، وحظي باستقبال يليق بالأبطال في كل المحطات التي مر بها، كما يذكر التاريخ أنه كان آخر جنرال فرنسي يبقى على قيد الحياة، من بين الذين شاركوا في حرب الاستقلال الأمريكية.