منذ أن شرع السيسي في تطبيق إستراتيجيته للاقتصاد السياسي، التي تعتمد على الاقتراض ومشاريع الإنشاءات، من أجل تحقيق ثلاثة أهداف هي تثبيط معدلات البطالة وربط مصالح الدول الكبرى اقتصاديًا ببقائه وتوريط الجيش في تصوراته عن التنمية بما يضمن له أطول مدة ممكنة في الحكم بعيدًا عن خطر المؤسسة العسكرية، ظهر على السطح ملف يمكن تسميته: علاقة النظام بالعمران.
يمكن حصر أشكال نزاع المجتمع مع النظام في ملف العمران ضمن عدة أسباب، من بينها رغبة الدولة في القضاء على العشوائيات وما يترتب على ذلك من تخريج الأهالي من منازلهم وأراضيهم إلى منازل بالإيجار، ورغبة الدولة في السيطرة على حركة العمران واستعادة هيبة قوات الأمن، ما أنتج تدافعًا اجتماعيًا في بعض الأماكن مثل جزيرة الوراق ونزلة السمان، ونزع ملكية بعض المناطق من سكانها لتنفيذ مشروعات منفعة عامة كما حدث مع توسعة الطريق الدائري الأخيرة في المنيب، بالإضافة إلى تنفيذ مشروعات سياحية في بعض المناطق ذات الطبيعة الاجتماعية الراقية بما يهدد هويتها الحضارية كما حدث في منطقة الزمالك، ومشروعات تسهيل الانتقال للعاصمة الإدارية التي بددت المعالم التاريخية لمنطقة شرق القاهرة مثلما يحدث في منطقة مصر الجديدة، وأخيرًا تطوير القاهرة التاريخية عمرانيًا بما يؤدي إلى التعدي على التراث القديم لما قبل الدولة الحديثة، كما كانت الحال في مصر القديمة.
تندرج الأزمة الاجتماعية التي برزت خلال الأيام الأخيرة ضمن حقل رغبة الدولة في تسيير الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة عبر مشروعات بنى تحتية تؤثر على الطابع الاجتماعي والحضاري والتاريخي لمنطقة مصر الجديدة، وسط رفض شعبي واسع من السكان الذين توارثوا الانتماء إلى هذه المنطقة لجيلين على الأقل، وتعنت ومراوغات من الدولة.
غضب شعبي
بدأت القصة هذه المرة عند أعلن النظام ممثلًا في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي أوكلت العمل كالعادة إلى إحدى الشركات الخاصة (المقاولين العرب) لبناء كوبري بطول كيلومترين في منطقة مصر الجديدة، شرق القاهرة، يبدأ من ميدان الإسماعيلية مرورًا بشارع الأهرام إلى نادي هيليوبليس.
على الفور وفي المقابل، شرع المجتمع المحلي هناك في التعبير عن رفض المشروع الهندسي، عبر التحدث إلى القنوات الإعلامية الداخلية التي تحوي سياسة تحريرية متسامحة مع مثل هذه المشاكل، خاصة أن سكان هذه المنطقة من الطبقات الراقية التي لا تضمر أي عداء سياسي للنظام، أو عبر شبكة الإنترنت من خلال تدشين عريضة رفض إلكترونية وقع عليها العشرات من أبناء المنطقة.
بالتوازي مع هذه الجهود، تفاعل ممثلو المنطقة في مجلس النواب مع الأزمة، فأرسل عمرو السنباطي النائب عن الدائرة بالمجلس استفسارًا إلى المحافظة عن المشروع، ونزل إلى موقع المعدات لمعاينة الوضع مع بعض أهالي المنطقة المهتمين بالحفاظ على الطابع الحضاري لمصر الجديدة.
أما النائب الثاني عن المنطقة، طارق شكري، فقد صرح لوكالات محلية برفض المشروع بناءً على رفض الأهالي، إذ ينبغي مراعاة أن الاحتياج النظري إلى توفير سيولة مرورية في إحدى المناطق قد يؤدي إلى طمس معالم هذه المنطقة، وعمل تكدسات موازية خلال مدة الإنشاءات أو بعد الإنشاء بسبب المجتمعات التجارية الموازية التي تنشأ على ضفاف مثل هذه المشروعات كما ذكر النائب.
أسباب الغضب
ذكرَ أبناء الدائرة عدة أسباب لشعورهم بالحنق والرفض تجاه هذا المشروع الهندسي، التي على رأسها أنه ليس المشروع الأول الذي تنفذه الدولة في هذه المنطقة لتسيير الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة ويتسبب في إيذاء المنطقة جماليًا، ما خلق نوعًا من عدم الثقة بين المجتمع المحلي والدولة.
وفقًا لعريضة التوقيعات المتداولة بين السكان، فإنهم قالوا: “لقد عانينا نحن سكان مصر الجديدة كثيرًا خلال الـ15 شهرًا الأخيرة أثناء تنفيذ منظومة الكباري التي ساهم أغلبها في تخفيف السيولة المرورية للسيارات العابرة من مصر الجديدة، وتحملنا، بأسى شديد، التفريط في مترو مصر الجديدة التراثي و96 فدانًا من المنطقة الخضراء والأشجار في الحي وكثير من ذكرياتنا من أجل مشاريع الطرق القومية”.
السبب الثاني والأبرز لاعتراض السكان على المشروع، الذي لا يغفله أي معترض في سياق بيان أسباب رفض إنشاء الكوبري، هو أن التصاميم الأولية للمشروع تكشف أنه سيقطع الرؤية إلى حد كبير عن أحد أبرز المعالم الحضارية للمنطقة، وهي كنيسة “البازيليك”.
كنيسة البازيليك أو كنيسة البارون أو كاتدرائية العذراء مريم المشتركة دشنها رمزيًا البارون إمبان في حي مصر الجديدة، وصممها المهندس ألكسندر مارسيل مصمم قصر الاتحادية الرئاسي وقصر البارون، وقد وضعت تصاميمها، كما يقول الخبراء، لتكون “أفقًا” للمنطقة، كما هي الحال بالنسبة لقوس النصر في حي الشانزيليزيه ومسلة ميدان الكونكورد، وقد حضر وضع حجر أساسها ملكة بلجيكا بالإضافة إلى طيف واسع من السفراء والأساقفة الأوروبيين عام 1911، كما دفن فيها البارون بعد أن ربطها عبر نفق سري بقصره وفقًا لمقولات محلية.
من أبرز ما يمكن ملاحظته في هذه الأزمة، أن هناك إصرارًا من جانب السكان المحليين على استيفاء طريق الاعتراض على هذا المشروع
من ناحيةٍ فنية، فإنه ليس ثمة سبب ملح لتدشين مشروع ستكون أضراره بهذا الشكل اجتماعيًا وجماليًا، فـ”لو الهدف مروري، فمن الأولى منع مخالفات المقاهي والمطاعم على الأرصفة، ومنع ركن السيارات أكثر من صف، وعمل جراچ تحت الأرض في شارع صلاح الدين”، كما يقول شكري أسمر، أحد السكان الرافضين للمشروع.
كما أن القانون نفسه يمنع إدخال تعديلات هندسية بهذا الشكل في هذه المنطقة، لأنها تعتبر منطقة تراثية من الفئة “أ”، بموجب القاعدة القائلة بأن كل مبنى تجاوز عمره 100 عام، وله خصوصية تاريخية، يعد أثرًا، وبموجب قرار مجلس الوزراء عن المنطقة عام 2014، ومن ثم فإن الإصرار على تنفيذ المشروع، يعد أيضًا استهانة مضاعفة بالعقد الاجتماعي من جهة الشروع في تنفيذه دون حوار اجتماعي حقيقي مع السكان المحليين، ومن جهة الاستهانة بالقرارات الفنية التي أصدرتها الحكومة نفسها في وقت قبل ظهور هذه المشروعات القومية الجديدة وفقًا لعريضة التوقيعات.
تفاقم أزمات العمران
من أبرز ما يمكن ملاحظته في هذه الأزمة، أن هناك إصرارًا من جانب السكان المحليين على استيفاء طريق الاعتراض على هذا المشروع، بشكل غير عنيف بطبيعة الحال، إلى نهايته، وأن هناك شعورًا عامًا بجدوى المعركة وضرورة خوضها هذه المرة.
تفسر بعض المنصات المهتمة بالعمران هذه الحالة، بأن هناك غضبًا شعبيًا متراكمًا من سلوك الدولة في هذا الملف، جرى تكثيفه في هذه الأزمة، فعلى رأس المناطق التي تضررت مؤخرا من سياسة الدولة منطقة العباسية التي تشهد حاليًّا تدشين كوبري يخترق المنطقة وهدم قصر برسوم حنا التراثي الذي شيد عام 1865.
وفي خضم مشروع تطوير القاهرة التاريخية، يجري بناء جسر يربط منطقة صلاح سالم بمحور الحضارات مخترقًا القاهرة التاريخية، وسينتج عن أعمال بنائه هدم 47 عقارًا تراثيًا وبعض المقابر ذات الأهمية الثقافية، كما تجري أعمال إزالة مناطق عرب اليسار والحطابة بدعوى أنها مناطق عشوائية، رغم أنها مسجلة كتراث عالمي، وذلك بعد هدم أجزاء من “قرافة المماليك” التي تحوي قبابًا أثريةً لا يوجد مثلها في مصر ولا في العالم، كما يقول متخصصون.
غضب سكان مصر الجديدة وإصرارهم على مقاومة المشروع ناجم فيما يبدو من الشعور بالغبن من عواقب هذه المشروعات الهندسية التي تهدف إلى تيسير الانتقال للعاصمة الجديدة على حساب مناطقهم
وفي هذا التوقيت أيضًا، يخوض أهالي منطقة الزمالك الراقية حراكًا اجتماعيًا مع نفس الجهات السياسية والتنفيذية، بعد إسناد مشروع إقامة “العجلة الدوارة” (عين القاهرة) بحق الانتفاع (25 عامًا) إلى إحدى الشركات السياحية، في حديقة المسلة التاريخية، بطول 120 مترًا وقيمة 500 مليون جنيه تقريبًا، بما يهدد الطابع التاريخي لحديقة المسلة التي تحوي قطعًا أثريةً نادرةً، والسمت الهادئ للحي بفعل أعداد الزوار المتوقع وفودها إلى المشروع الترفيهي، التي يقدرها أصحاب المشروع بعشرات الآلاف سنويًا، حيث تعد هذه اللعبة الترفيهية، التي ستمكن الراكب من رؤية القاهرة من نقطة شاهقة، من أكبر عشرة مشروعات مشابهة في العالم.
وبشكل عام، يعتبر الهدم من أجل توسعة الطريق إستراتيجيةً قديمة جرت تجربتها في الولايات المتحدة وأوروبا بالسبعينيات، ولم تثبت نجاحها، إلا في جذب تدفقات اجتماعية محددة من أصحاب السيارات الخاصة الفارهة، كما أنها تؤثر سلبًا، على المدى البعيد، على الصحة والبيئة، بسبب زيادة التلوث وتعريض حياة المارة للخطر وقطع مساحات واسعة من الرقعة الخضراء، كما جرى في مدينة نصر، ويمكن استبدالها بما يعرف بـ”السياسات البديلة”، على غرار التوسع في مشروعات النقل العام ذات الطابع الذكي المعتمدة على الطاقة النظيفة.
ومن زاوية أخرى في نفس السياق، فإن غضب سكان مصر الجديدة وإصرارهم على مقاومة المشروع ناجم فيما يبدو من الشعور بالغبن من عواقب هذه المشروعات الهندسية التي تهدف إلى تيسير الانتقال للعاصمة الجديدة على حساب مناطقهم التي ستتراجع أسعارها وقيمتها الحضارية والتاريخية في نهاية المطاف، حيث يقول أحد السكان ملخصًا خصوصية هذه الواقعة: “الناس متضايقة المرة دي، عشان المنطقة دي زي وسط البلد بتاعت القاهرة، وكأن مصر الجديدة كلها بقت تحت الكوبري”.
رد الحكومة
اللافت هنا أن هذه ليست المحاولة الأولى لبناء هذا الجسر، فقد حاولت الحكومة تمرير المشروع في وقت سابق، وعندما اعترض السكان تراجعت الحكومة، لكن فيما يبدو، اعتمدت السلطات على عامل الوقت وسياسة الأمر الواقع لطرح المشروع من جديد.
يقول عبد الفتاح حسين أحد السكان الرافضين للمشروع ملخصًا هذه السياسة: “اعترضنا على الأمر، وتم إيفادنا برسالة واضحة من المسؤولين أن صوتنا اتسمع ولن يتم تنفيذ الكوبري، لكن فوجئنا منذ يومين بمهندسين من المقاولين العرب يوجدون في ميدان الإسماعيلية للبدء في التنفيذ..(..) هناك 100 عمود كوبري تقريبًا، والمعدات وصلت الأربعاء وبدأت العمل يومي الخميس والجمعة”.
تراوغ الحكومة أيضًا من أجل تمرير هذا الجسر وغيره من المشروعات المشابهة، في أمريْن: الأمر الأول هو إعادة النظر في تعريف الأثر من حيث كونه المبنى الذي مر عليه 100 عام ويمثل خصوصية تاريخية معينة، حيث قال وزير الآثار المصري إنه بهذه الطريقة، سوف نعتبر كل عقارات البلد آثارًا، وهو أمر غير معقول بطبيعة الحال.
بعض الأجهزة في الدولة تساند موقف السكان مثل الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة
الأمر الثاني، هو إبراز المنافع العامة التي ستعود على المجتمع المحلي من وراء هذه المشروعات، وبالأخص تطوير البنى التحتية، وقد ظهرت هذه الإشارة بجلاء في زيارة السيسي الأخيرة، يوم الجمعة الماضي، لمتابعة مشروعات البنى التحتية التي ستساعد في الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة، حيث ذيل بيان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السفير بسام راضي بفقرةٍ تشدد على “الإسراع في معدلات التنفيذ والانتهاء من تلك المشروعات لتخفيف الضغط المروري على الشوارع الرئيسية وسرعة نقل المواطنين وتوفير الوقود، والتنسيق بين جميع جهات الدولة بشأن استغلال العمليات الإنشائية الحالية للطرق في نطاق تلك المشروعات لمد شبكات صرف وشبكات مياة صحية بديلة للشبكات القديمة المتهالكة، طبقًا لأعلى المواصفات ومعايير الجودة خدمة لسكان تلك المناطق”.
ووفقًا لأحد أعضاء مجلس النواب عن الدائرة المخطط إقامة المشروع بها، فإن بعض الأجهزة في الدولة تساند موقف السكان، مثل الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة، الذي فوجئ بعودة خطط إقامة هذا الجسر، لكن الواضح، أن صوت هذا الجهاز أقل إسماعًا من صوت معدات الهيئة الهندسية للجيش وشركات المقاولات المنفذة لهذه المشاريع.
البدائل
ردت مونيكا حنا، المتخصصة في هذا المجال، على تصريح وزير الآثار الخاص بحدود تعريف ما ينبغي الحفاظ عليه من العمران باعتباره ذا قيمة تاريخية، قائلة إن هناك هيمنة لتصور معين عما ينبغي الحفاظ عليه وتقديره تاريخيًا، وهو ما نطلق عليه اليوم “أثرًا” الذي يشير إلى كونه قطعةً تنتمي إلى العصر الفرعوني غالبًا، وهذا المفهوم زرعه بالأساس المكتشفون الأجانب لمصر، بغرض تسهيل السطو المادي والرمزي على هذه الآثار، بحجة كونها تراثًا إنسانيًا أو عملية تسمى Cultural Cappropriation.
في المقابل من الاهتمام بالأثر وحده على أساس هذه الصورة الذهنية، هناك عدم اهتمام بما يسمى “التراث” الذي لا يقتصر على القطع المنتمية إلى العصر الفرعوني، ويضم أشكالًا مادية أخرى لها تجليات ثقافية مثل العمران، ويدخل في تعريفه عوامل أعقد من العمر، مثل القوة الاجتماعية، فما اتفقت جماعة إنسانية على اعتباره تراثًا لأسباب غير عصبية يمكن التعامل معه على هذا الأساس، وفقًا لاتفاقات اليونسكو عام 1970 وعام 1972.
هناك اتجاه عام في الحكومة لسحب الجسر، مؤقتًا، على خلفية تنامي الرغبة في تلافي أي احتجاجات اجتماعية في هذا الظرف الداخلي الصعب
وبناءً على هذا التصور السائد حتى قبل تقنين اتفاقات اليونسكو، قامت دول مثل إيطاليا بالحفاظ على مواقع قديمة والعناية بها باعتبارها تراثًا، ومنع بيعها أو التفريط فيها، مع السماح بممارسة أنشطة بسيطة فيها، شريطة ألا تغير من هويتها مثل مصنع كهرباء الديزل ومنازل محولجي القطارات البالغ عددها 30 منزلًا وفنارات وزارة الدفاع، حسبما وثقت حنا.
أما سكان مصر الجديدة، فإنهم يخططون للتصعيد المتدرج من أجل حماية منطقتهم، فإذا فشل التفاوض مع مجلس الوزراء والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، فإن هناك نيةً لترخيص وقفة احتجاجية سلمية من وزارة الداخلية اعتراضًا على المشروع، ثم تحريك ورقة القضاء المستعجل أو مجلس الدولة، على حد قولهم.
وبحسب مصادر خاصة لـ”نون بوست” من قلب هذا المشروع، فإن هناك اتجاهًا عامًا في الحكومة لسحب الجسر، مؤقتًا، على خلفية تنامي الرغبة في تلافي أي احتجاجات اجتماعية في هذا الظرف الداخلي الصعب الذي ظهرت صعوبته في مضمون مداخلة السيسي مع الإعلامي عمرو أديب مساء السبت التي قال فيها، من ضمن ما قال، إن الدولة تبني الجسور بغرض التيسير على الأهالي فقط لا الصدام معهم، ثم زيارته لعشوائيات عزبة الهجانة يوم الأحد، لكن السلطات تبحث عن طريقة ناعمة لسحب المشروع لإظهار الأمر أنه توافقٌ مع السكان، لا رغبة لعدم التصعيد في الوقت الحاليّ.