قبل يومين، عُقدت القمة الإفريقية الـ34 افتراضيًا، وخصصت لبحث النزاعات الداخلية وأزمة فيروس كورونا وانتخاب قيادة الاتحاد للسنوات الأربعة القادمة، حدث مهم كهذا لم يحضره الرئيس التونسي قيس سعيد، رغم أن إحدى صلاحياته القليلة “السياسة الخارجية”، ما جعل العديد من التونسيين يؤكدون تراجع دبلوماسية بلادهم في ظل اهتمام الرئيس بافتعال المشاكل الداخلية مع شركائه في الحكم.
غياب متواصل
غياب قيس سعيد عن القمة الإفريقية ليس استثناءً، فمنذ توليه رئاسة تونس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، لم يشارك إلا في عدد قليل من المؤتمرات والفعاليات والمنتديات الإقليمية والقارية والعالمية.
بداية غاب الرئيس سعيد عن المنتدى الاقتصادي الروسي الإفريقي في مدينة سوشي الروسية، الذي يعد أكبر حدث في تاريخ العلاقات الروسية الإفريقية، حيث سيساهم في تطوير مجالات التعاون بين روسيا والقارة السمراء في مختلف المجالات.
نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2019، غاب الرئيس التونسي عن قمة ألمانيا-إفريقيا للاستثمار التي خصصت 70 مليار يورو للاستثمار في القارة السمراء، في الوقت الذي تحتاج تونس دعمًا خارجيًا كبيرًا للنهوض باقتصادها المتهالك.
بعد ذلك، غاب قيس سعيد عن منتدى السلام في باريس بشأن التنمية المستدامة، الذي يهدف إلى المضي قدمًا في إحلال السلام عبر النهوض بالحوكمة العالمية وتعزيز جميع السبل التي من شأنها تبديد التوترات الدولية على غرار التعاون بين الدول لمواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية.
غياب أو تغييب تونس عن الملف الليبي ناتج عن سذاجة الدبلوماسية في التعامل مع هذا الملف وقلة درايتها بالوضع هناك
تواصَلَ الغياب وبقي كرسي تونس شاغرًا أيضًا في المؤتمر الحواري المتوسطي في نسخته الثالثة الذي احتضنته العاصمة الإيطالية روما بمبادرة من وزارة الخارجية الإيطالية وعدد من مراكز الأبحاث السياسية والإستراتيجية الأوروبية، وناقش المؤتمر إستراتيجية الأمن المشترك في منطقة البحر المتوسط ومحاربة الإرهاب ومواجهة أزمة المهاجرين، فضلًا عن الطاقة والتجارة الدولية.
بداية 2020، كان الجميع ينتظر مؤتمر برلين بشأن الأزمة الليبية، لكن الرئيس التونسي فضل عدم الحضور كون الاستدعاء وصل إليه متأخرًا ولم يشارك في التحضيرات، رغم أن الشأن الليبي له تداعيات مباشرة على تونس.
في يناير/كانون الثاني 2020، واصل قيس سعيد سياسة الكرسي الفارغ واختار عدم المشاركة في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في سويسرا، الذي يشارك فيه كبار رجال الأعمال والسياسيين في العالم، فضلًا عن عدد من المشاهير، وينتهز الكثير منهم هذه الفرصة لعقد اجتماعات خاصة تتناول قضايا مثل الاستثمار في بلدانهم، ولإبرام صفقات تجارية.
في فبراير/شباط 2020، غاب الرئيس عن القمة العادية الـ33 للاتحاد الإفريقي التي عقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ثم غاب أيضًا عن القمة الصينية-الإفريقية رغم أنها عقدت عن بعد عبر تقنية الاتصال بالفيديو.
فوضى التعيينات والإقالات
فضلًا عن سياسة الكراسي الشاغرة، عرفت الدبلوماسية التونسية منذ تولي قيس سعيد الرئاسة ارتباكًا كبيرًا، ظهر جليًا في مسألة التعيينات والإقالات، فخلال أقل من سنة تم إقالة وزيري خارجية (خميس الجهيناوي ونور الدين الري الذي عينه بنفسه) في حكومتين إحداهما لتصريف الأعمال والأخرى مستقيلة.
كما تم إعفاء العديد من السفراء على غرار إقالة سفير ورئيس البعثة التونسية في منظمة الأمم المتحدة قيس قبطني في سبتمبر/أيلول 2020، التي علم بها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حسب تصريحه لوكالة الأنباء الفرنسية، وقبله أعفى سلفه السفير المنصف بعتي وكلاهما من اختياراته.
هذا الأمر أثر على مكانة البلاد في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، خاصة أن تونس انتخبت لمدة سنتين (2020- 2022)، لشغل مقعد بمجلس الأمن الدولي، كعضو غير دائم، لكن هذا الارتباك أثر تأثيرًا سلبيًا على هذه الخطة.
حتى الحركة الدبلوماسية عرفت تعطلًا لفترة طويلة حيث بقيت 16 سفارة في دول تربطنا بها علاقات اقتصادية وثقافية كبيرة، بلا سفير، ومن أهمها فرنسا التي بقيت بلا سفير لأكثر من تسعة أشهر قبل أن يتم في سبتمبر/أيلول الماضي تعيين وزير العدل السابق محمد كريم الجموسي سفيرًا لتونس في باريس.
المسألة الليبية
ظهر الارتباك جليًا في الملف الليبي أيضًا، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يجتمع الفرقاء الليبيون في تونس لبحث حل لأزمة بلادهم المتواصلة منذ سنوات اختاروا الاجتماع في المغرب وسويسرا ومصر وحتى الاجتماع اليتيم الذي تم في تونس كان لأسباب لوجستية فقط.
غياب أو تغييب تونس عن الملف الليبي ناتج عن سذاجة الدبلوماسية في التعامل مع هذا الملف وقلة درايتها بالوضع هناك، حيث شكك الرئيس في أكثر من مرة في حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، وتحدث في لقاء مع الرئيس الفرنسي ماكرون عن الشرعية المؤقتة لحكومة الوفاق، ودعا لدستور تضعه القبائل على الطريقة الأفغانية.
فُهم من كلام سعيد حينها مغازلة الفرنسيين ووقوفه مع طرف ليبي (الانقلابي خليفة حفتر) ضد آخر (حكومة الوفاق الشرعية)، وهو ما يتناقض مع الموقف الرسمي التونسي المحايد تجاه الوضع القائم في هذا البلد العربي الشقيق.
اهتم الرئيس بتسجيل النقاط داخليًا ضد البرلمان والحكومة التي اختار رئيسها دون كل اقتراحات الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس نواب الشعب
قبلها استقبل في ديسمبر/كانون الأول 2019، وفدًا ممثلًا للقبائل الليبية تبين فيما بعد أنهم لا يمثلون كل المشائخ الليبية وأقرب لخليفة حفتر، وذلك نتيجة النقص الفادح في المعلومات والتحليل والدراسات بشأن هذا الملف عند الرئاسة.
ليس هذا فحسب، بل تجاهل قيس سعيد العديد من المحطات المهمة في ليبيا – التي تعتبر عمقنا الإستراتيجي – آخرها انتخاب سلطة تنفيذية جديدة في البلاد في ختام المؤتمر السياسي المنعقد في جنيف، فلم يهنئ الليبيين بهذا الانفراج المهم في أزمتهم.
الاهتمام بصراعات داخلية على حساب الدبلوماسية الخارجية
يعطي الدستور التونسي صلاحية السياسات الخارجية لتونس، لرئيس الجمهورية، إلى جانب الدفاع الوطني والأمن القومي، إلا أن قيس سعيد لم يتمكن من إثبات وجوده بالكامل على الجبهة الدبلوماسية، ما جعل الدبلوماسية التونسية في أحلك حالاتها منذ الاستقلال وبداية بناء الدولة الوطنية.
في الوقت الذي كان على الرئيس سعيد الاهتمام بالدبلوماسية الخارجية لدعم تونس في هذا الظرف الصعب الذي تعيش على وقعه نتيجة فيروس كورونا وانهيار المنظومة الاقتصادية في البلاد، اهتم ببعض المسائل الثانوية حتى يثبت وجوده داخليًا.
اهتم الرئيس بتسجيل النقاط داخليًا ضد البرلمان والحكومة التي اختار رئيسها دون كل اقتراحات الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس نواب الشعب التي نالت ثقة المنتخبين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، رغبة منه في الاستحواذ على صلاحيات الجميع.
أراد قيس سعيد وضع يديه على صلاحيات رئيس الحكومة في تجاوز للدستور الذي أقسم على احترامه، وتجاهل الصلاحيات اليتيمة التي خُصصت له وهي السياسية الخارجية، ما جعل البلاد في موقف لا تُحسد عليه رغم أنها تشغل كرسي عضو غير دائم في مجلس الأمن.
هذا الأمر أثر كثيرًا في صورة تونس خارجيًا، ما جعل مكانتها بين الدول تتراجع، وهو ما ظهر جليًا في مؤتمر برلين بشأن ليبيا، إذ لم تتم دعوتها لحضور المؤتمر إلا قبل ساعات قليلة من انطلاقته وذلك بضغط من بعض القوى الإقليمية.