ترجمة وتحرير: نون بوست
قد ينظر بقية العالم إلى المملكة العربية السعودية كمملكة تعود إلى حقبة القرون الوسطى حيث لا تزال المرأة تكافح من أجل التمتع بأبسط حقوقها، في حين يتولى رجال الدين إدارة المحاكم حيث تُقطع رؤوس المحكوم عليهم بشكل روتيني بالسيف في الأماكن العامة. في المقابل، لطالما اعتز النظام الملكي السعودي، مثل جيرانه في دبي وأبوظبي، بطموحه الذي يسعى إلى تحقيق مستقبل عالي التقنية. من جانبه، وضع آخر ملك سعودي خططا لتشييد ست مدن جديدة في الصحراء، وُصفت جميعها بأنها خطوات تحولية نحو عالم ما بعد النفط.
في الوقت الراهن، أعلن السعوديون عن رؤية خيالية قد تتوج كل جهودهم السابقة. في كانون الثاني/ يناير، أصدر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فيلما قصيرا يوضح فيه خططه المستقبلية لمشروع بناء “ذا لاين”، وهي لمحة عن مدينة ما بعد الحداثة تقع على الساحل الشمالي الغربي للمملكة. وستكون منطقة حضرية ضيقة يبلغ طولها 106 ميلا بلا طرق ولا سيارات ولا تلوث.
يخطط محمد بن سلمان، لضخ 500 مليار دولار في “ذا لاين” وبقية المشاريع من هذا القبيل، وتعتبر قيمة هذا المبلغ كبيرة حتى بالمعايير السعودية. وقد أطلق على “ذا لاين” اسم “ثورة حضارية” يسكنها مليون شخص “من جميع أنحاء العالم”. لكن ما هي الأسباب التي تفسر اعتبار “ذا لاين” كوجهة تستقطب السكان من جميع أنحاء العالم؟ ولماذا ينبغي عليك أن تأخذ المدينة هذا الشكل؟
عندما تشاهد الفيديو الترويجي لولي العهد ستلاحظ الشكل السعودي الذي يتميز بالغطرسة، حيث يعد مزيجا بين التفوق الديني والعظمة الملكية. ويبدأ الفيلم بمونتاج سريع مستعرضا أعظم الإنجازات العلمية والتقنية في القرن العشرين، بما في ذلك صورة للملك المؤسس للمملكة العربية السعودية، كما لو كان مبتكرا مثل ستيف جوبز.
تومض تواريخ هذه الإنجازات على الشاشة بخط كلاسيكي مشيرة إلى أول بث إذاعي تجاري (1920) وظهور التلفزيونات الملونة (1953) وإجراء أول عملية زرع كلى ناجحة (1954) وهبوط أول رجل على سطح القمر (1969) بالإضافة إلى ظهور الإنترنت. وبعد الإشارة إلى تألق اليوتيوب والواقع الافتراضي، تختفي الصور من الشاشة لتحل محلها الكلمات المدونة باللون الأبيض على خلفية سوداء: “ما التالي؟”
ظهر محمد بن سلمان مرتديا ثوبه الأبيض الطويل، ليلقي خطابا وجيزا أشبه بأسلوب مؤتمرات “تيد”، بينما نرى خلفه نموذجا طبوغرافيا لما يشبه قشرة القمر السوداء. ويخترق هذا النموذج خط رقيق من الشعاع الأخضر المتوهج، حيث كنت أتوقع للحظة ظهور غودزيلا وهو يخوض معركة مع الأمير، الذي يُعرف بوحش الفيلم الياباني، وليد الخوف والإثارة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية إزاء القوة المتنامية للتكنولوجيا. في المقابل، من المفترض أن يمثّل هذا الشعاع الأخضر “ذا لاين”.
لا يسري التواضع في جينات محمد بن سلمان، ولن يتوقف عن مضايقة منتقديه وزجهم في السجن مثلما أنكر تورطه في مقتل خاشقجي
مع تقديم بن سلمان لهذا العالم الجديد الرائد، وهو يتحدث عن عدم استغراق الرحلات أكثر من 20 دقيقة! وبلوغ انبعاثات الكربون صفر! تشعر أن صفاقته أشبه بالطابع الميتافيزيقي الخارق للطبيعة، حيث يبدو أنه يعتقد أن الطبيعة نفسها تحت إمرته. لا يعتبر هذا الأمر غير مألوف نظرا لأن محمد بن سلمان يروج لأفكار غريبة بالشكل نفسه منذ سنة 2017، عندما قدم نيوم لأول مرة، وهو التطور المستقبلي الأوسع الذي يعد “ذا لاين” جزءا منه.
يعدّ الاسم عبارة عن مجموعة من الكلمات اليونانية والعربية لكلمة “جديد” و”مستقبل”. عموما، وُصفت رؤية “نيوم” باعتبارها “طريقة جديدة للحياة منذ الولادة إلى الممات تصل إلى الطفرات الجينية لزيادة القوة البشرية ومعدل الذكاء”، وفقا لمقال نشر في صحيفة “وول ستريت جورنال” سنة 2019. وسيكون استمطار السحاب طريقة لجلب المطر إلى الصحراء. كما يتضمن المشروع تخطيطا جادا وواقعيا لتحلية المياه والطاقة البديلة والزراعة الصحراوية، كما أخبرني علي الشهابي، عضو المجلس الاستشاري لنيوم. في المقابل، طغى على تلك الأفكار التركيز على القطارات فائقة السرعة والروبوتات التي تعوض الخادمات والشواطئ ذات الرمال المتوهجة.
ستكون الغطرسة الكامنة وراء هذه المقترحات، التي تغذيها أجيال من الرجال المؤيدين (بما في ذلك المستشارون الغربيون ذوي الأجور العالية)، مألوفة لأي شخص قضى وقتا في المملكة العربية السعودية. ربما كنت تتوقع المزيد من الحذر من محمد بن سلمان، على الأقل في الوقت الراهن خاصة وأن هذا الرجل يعدّ متهما بإصدار الأمر بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي وقع استدراجه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول سنة 2018، ثم خنقه وتقطيعه بمنشار من قبل فريق أُرسل من الرياض. من جهته، تجرأ خاشقجي على كتابة مقالات انتقادية في صحيفة “واشنطن بوست”. وصدمت تفاصيل مقتله الوحشي العالم وجعلت محمد بن سلمان منبوذا. في المقابل، ندد ولي العهد بجريمة القتل ونفى تورّطه في ارتكابها.
لا يسري التواضع في جينات محمد بن سلمان، ولن يتوقف عن مضايقة منتقديه وزجهم في السجن مثلما أنكر تورطه في مقتل خاشقجي. في المقابل، سمحت له جرأته بالسيطرة على المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية، ووضع حدًا لترويج المملكة منذ فترة طويلة للعقيدة الإسلامية السامة. كما أن تخفيفه للقيود الصارمة على الحياة الثقافية، جعلته يتمتع بشعبية كبيرة، خاصة بين الشباب.
في الواقع، لا يعدّ الفيلم الترويجي الغريب لمحمد بن سلمان مجرد انعكاس لطموحاته الملكية، حيث لاق حبه للتكنولوجيا صدى لدى العديد من الشباب السعودي. في الحقيقة، لا يمكن إلقاء اللوم على هذه الفئة التي نشأت مدنهم بين عشية وضحاها من مناطق غامضة من الصحراء التي تحولت فجأة لأغنى دول العالم بعد أن كانت تصنف من بين أفقر دول العالم. ولسائل أن يسأل؛ لماذا لا يؤمنون بسيارات الأجرة الطائرة والأقمار الاصطناعية؟
يشير الجزء الأخير من فيديو “ذا لاين” إلى ملاحظة مدهشة: صور الطرق السريعة الحضرية المزدحمة والجسور التي تذكرنا بفيلم 1982 البائس “كويانسقاتسي”، الذي وصف الحداثة على أنها خيانة للأرض. في المقابل، ستنقذ “ذا لاين”، بحسب ما ورد في الفيديو، البشرية من هذا الكابوس، وستقضي على التنقلات والتلوث وتحافظ على 95 بالمئة من الطبيعة داخل حدودها.
لا يعدّ الفيلم الترويجي الغريب لمحمد بن سلمان مجرد انعكاس لطموحاته الملكية، حيث لاق حبه للتكنولوجيا صدى لدى العديد من الشباب السعودي
في المقابل، سيُقصي الأمير آلاف الأشخاص الذين يعيشون في وئام مع الطبيعة في المنطقة نفسها: ذلك المجتمع القبلي الموجود منذ قرون الذي سيندثر بسبب هذا المشروع. أنتج أحد رجال القبائل مقاطع فيديو من نوع مختلف احتجاجا على عمليات الإخلاء، وهو ما يعدّ مغايرا لما التقطه محمد بن سلمان. وخلال السنة الماضية، قُتل الرجل بالرصاص خلال مواجهات مع قوات الأمن السعودية.
يمكن لأي شخص قضى وقتا في المدن الحالية في المملكة العربية السعودية أن يتحمس لفكرة البدء من جديد والتخلص من رجال الدين الذين يتولون إدارة مؤسسات فاسدة تقاوم التغيير. لكن يعدّ المشهد السعودي مليئا بالفعل بالمشاريع العملاقة الفاشلة أو المهجورة. من جانبهم، علّق بعض السعوديين على فيلم محمد بن سلمان بكلمات جريئة تؤكد على الحاجة إلى تجديد البلدات والأحياء الموجودة في البلاد بدلا من وضع المليارات في مثل هذه المشاريع. وفي مقال كتبه مع مؤلف مشارك قبل بضعة أشهر من مقتله، اقترح جمال خاشقجي ذلك.
بعد أن أنهى بن سلمان تقديمه للمشروع، برز صوت أنثوي دافئ يصف الحياة في “ذا لاين” التي ستكون البديل المثالي للواقع الحضري المرير، وتُعرض أمامنا صور تبعث على الإحساس بالسعادة على غرار قمم الجبال التي يكسوها السحاب، ومد الأمواج على الساحل البكر. تعتبر الكلمات الأخيرة للفيلم، التي تصاحبها وجوه لأشخاص من أعراق مختلفة، غير منطقية حيث جاء فيها: “موطن للجميع، مرحبا بكم في ذا لاين”.
عندما سمعت هذه الكلمات، لم يسعني إلا أن أتساءل عن المرأة التي رددتها. هل ستفكر حقا في الانتقال إلى مدينة صحراوية نائية، لتخضع للمراقبة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع ولأهواء أمير قاتل؟ أظن أنها فعلت ما فعله الكثيرون ممن يعملون لدى السعوديين؛ فقد قالت كلماتها، واستلمت الشيك ولاذت بالفرار.
المصدر: نيويورك تايمز