خلال 10 سنوات مضت كان لكل مدينة سورية قصة وحكاية، ربما تتشابه الكثير من فصول تلك الحكايات في هذه المدن، لكن امتازت كل منها بقصة تعبر عن مأساتها ومعاناتها من ظلم النظام وإجرامه، ومع مرور الوقت لم تعد هذه المحافظات تتعرض لطغيان قوات الأسد فحسب، وإنما تعدد الفاعلون وكثرت الأيدي العابثة.
كانت محافظة الحسكة بداية الثورة السورية بمنأى عن الاحتجاجات والمظاهرات، لكن هذا لا يعني أنها كانت بعيدةً عن التغيرات والغضب على النظام، وكغيرها من المدن فيها من يؤيد جيش النظام ومن يعارضه، ومع الوقت شهدت عدة احتجاجات كبيرة في أريافها، لكن جغرافية المنطقة تلك كانت تفرض ضبابية واضحة على اتجاه المدينة أو حتى مواقف أهلها، وهنا يجدر الذكر أن المحافظة وكل ما يتبع لها ذات تنوع عرقي وطائفي كبير، ففيها المسلمون والمسيحيون والعرب والأكراد والآشوريون والكلدان، وإن كانت النسبة الأكبر هي للعرب المسلمين.
شهدت محافظة الحسكة أحداثًا كبيرة خاصة تلك التي كانت مع بدء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على المناطق الشرقية في سوريا، وفي عام 2015 حاول التنظيم مهاجمة المحافظة للسيطرة عليها، لكن ذلك الهجوم فشل وبقي مركز المدينة تحت سيطرة قوات الأسد.
السطور التالية تبحث أهمية هذه المحافظة التي كانت مهمشة قبل 2011 وأصبحت اليوم ضمن اهتمامات أطراف الصراع، وكيف عادت مجددًا إلى واجهة الأحداث.
أهميتها
تقع محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، وتنقسم إلى 4 مناطق إدارية بالإضافة إلى 14 ناحية، ومن أهم مدنها القامشلي واليعربية والشدادي والمالكية وتل حميس وعامودا ورأس العين والقحطانية وتل براك. توجد فيها آلاف القرى المنتشرة، وبالنظر إلى التركيبة السكانية الكلية فإن معظم السكان في الحسكة من العرب مع وجود أقلية كردية كبيرة وأقلية سريانية.
تعتبر الحسكة أكبر نقطة للنفط في البلاد، حيث تنتشر فيها حقول رميلان والجبسة، ويمر من المحافظة نهر الخابور حيث يقسمها إلى قسمين ويتحد مع نهر الفرات قرب مدينة دير الزور، ويعمل أغلب سكان المحافظة بالزراعة وتمتاز بزراعة القمح والقطن، كما تضم مواقع أثرية متنوعة مثل حموقار التي يعتبرها علماء الآثار من أقدم مدن العالم، وتل حلف وتل براك وتل شاغربازار.
ووفقًا للباحث عبد الوهاب عاصي: “للمدينة أهمية جيوسياسية كونها قريبة من شبكة الطرق الدولية والمعابر الحدودية التي تصل سوريا بالعراق، وهي عبارة عن قاعدة عمليات للسيطرة على كامل الجزيرة السورية وشرق الفرات، وبالتالي الحصول على الموارد الرئيسية لسوريا المتمثلة بالطاقة والقمح والقطن”.
بالإضافة لذلك، تكمن أهمية المدينة أيضًا -بحسب عاصي- “بكونها مركز المحافظة وحفاظ النظام السوري فيها على مربع أمني، ما يبقيه قادرًا على استعادة جميع الملفات السيادية التي خرجت عن سيطرته منذ بدء النزاع قبل عقد من الزمن، ومع أن الإدارة الذاتية الكردية جعلت مدينة عين عيسى المجاورة مركزًا لها، لكنها حافظت في نفس الوقت على وجودها في مدينة الحسكة كبديل رئيسي حال فقدت السيطرة على عين عيسى”.
بداية الثورة
بقيت الحسكة متأخرة عن الحراك الثوري المنطلق في عدد من المدن في مارس/آذار 2011، رغم خروج بعض المتظاهرين منذ بداية الأسبوع الثاني للثورة، ويرجع ضعف الحراك الاحتجاجي والمظاهرات في هذه المدينة إلى عدة أسباب، حيث يعتبر التنوع الديموغرافي سببًا كبيرًا من الأسباب التي جعلت الحسكة بمنأى عن الالتحاق بركب الثورة بالزخم المأمول.
رغم قلة الاحتجاجات، فإن حي غويران الشعبي ذا الغالبية العربية كان الحاضنة الاجتماعية للثورة وجرت فيه مظاهرات كان ينضم إليها مؤيدو الثورة في الحسكة الذين لا يستطيعون الخروج باحتجاجات في أحيائهم، ومثله كان حي المفتي وجهة الأكراد للمشاركة في التظاهرات، بينما بقيت الأحياء الأخرى هادئة.
في بقية مدن المحافظة كالقامشلي وعامودا والدرباسية، كان وجود الأحزاب الكردية نشطًا، ما ساعد على خروج مظاهرات مستمرة، لكن هذه المظاهرات أخذت الطابع الكردي مع الأيام، وشهدت هذه المناطق مظاهرات كبيرة كان لها وقعها في بدايات الثورة السورية.
ومن الأسباب التي أدت لعدم الانخراط الكبير بالثورة لدى العديد من البلدات والمدن التابعة لمحافظة الحسكة أن العرب يتوزعون بين الريف والمدن، وهم على خصومة مع الأكراد، ويعتقدون أن الثورة فرصة يغتنمها الأكراد لتحقيق حلمهم في الانفصال، لذلك كانوا يوالون النظام ويعتقدون بقدرته على وقف الحلم الكردي، لكن قسمًا آخر من العرب في تلك المناطق أيد الثورة، على أن إسباغ المظاهرات باللون الكردي جعلهم يحجمون عن المشاركة لكي لا يزيدوا الزخم الكردي.
يضاف إلى تلك الأسباب الداخلية، سبب خارجي يتعلق بتحول المحافظة إلى ملجأ آمن لأعداد ضخمة من السوريين، مما حدا بالناشطين اتخاذ قرار بالتحول إلى العمل الإغاثي.
بالعموم، عانت الحسكة كغيرها من ويلات الحرب، ووفقًا للصحفي السوري فراس علاوي الذي تحدث لـ”نون بوست” فإن الأوضاع فيها بشكل عام “مشابهة لأوضاع السوريين في الداخل، يعني تشبه أوضاع دمشق وحلب، حيث يوجد غلاء شديد في الأسعار.. من ناحية أخرى فإن أسعار المحروقات منخفضة عن غيرها لأن ميلشيا قسد تبيع بها المحروقات التي تأخذها من دير الزور”.
معارك داعش
عام 2015 حاول تنظيم داعش الاستيلاء على مدينة الحسكة لتوسيع منطقته التي تشمل جزءًا كبيرًا من المنطقة الشرقية، ونجح التنظيم حينها بالدخول إلى بعض أحياء المدينة، ما استدعى القوات العسكرية الموجودة هناك لخوض معركة دفاعية لرد الهجوم العنيف عليها، وكانت القوات المدافعة منقسمة بين قوات النظام السوري ومليشيات الوحدات الكردية، وبعد الدفاع تم محاصرة التنظيم والقضاء على وجوده لترجع السيطرة كما كانت، ورسم حدود واتفاقيات ضمنية بين النظام والوحدات لوجود كل طرف والمناطق التي يحكمها.
الصراع المستمر
المناوشات بين قوات النظام والميلشيات الكردية في محافظة الحسكة وما يتبعها من مدن وقرى لم تهدأ بدورها، خاصة أن تلك المنطقة الغنية بالنفط تخضع لاستقطابات دولية عالية المستوى، فالحسكة التي تقع على الحدود مع تركيا والعراق منطقة مهمة جدًا لأمريكا وروسيا وتركيا، وكل طرف من هؤلاء يحاول الدفع بتوابعه لبسط السيطرة أكثر فأكثر.
وفي هذا السياق يقول الصحفي فراس علاوي: “تدخل المدينة ضمن دائرة صراع المشاريع الروسية الأمريكية، فالروس يدعمون النظام والأمريكان يدعمون قسد، كما توجد أهمية اقتصادية للمدينة كونها تضم عدة حقول نفط، ومجموعة من حقول الغاز وتتصل بالرقة ودير الزور جغرافيًا، ويمكن القول بوجود صراع جيوسياسي بين النظام وتركيا والولايات المتحدة وروسيا”.
بداية عام 2021 شهدت الحسكة تصعيدًا بين ميلشيات قسد وقوات النظام السوري، وتعود بداية الخلاف إلى التصعيد التركي وإرسال تعزيزات عسكرية إلى حدود مناطق شرق الفرات، فكانت أنقرة تتجهز للسيطرة على منطقة عين عيسى وتل تمر ما استدعى استنجاد قسد بالقوات الروسية وقوات النظام للحفاظ على المنطقة، وطلبت قسد من النظام أن تنتشر قواته في محيط مدينة عين عيسى، عسكريًا فقط، دون التدخل في الشؤون المدنية.
سعى النظام في مفاوضاته أن تتخلى الوحدات الكردية عن عين عيسى لصالحه لإدارتها بشكل كامل، إلا أن قسد رفضت هذه المطالب، لأنه في حال تنفيذها ستتمكن قوات الأسد من تضييق الخناق عليها والتحكم بتحركاتها، هذا الرفض الكردي قابله النظام بالتصعيد في مناطق تل رفعت وريفها وأحياء الأشرفية والشيخ مقصود، فحاصر هذه المناطق وشدد الخناق عليها.
ردًا على أفعال النظام وقواته لجأت قسد إلى فرض حواجز عسكرية في محيط المربع الأمني التابع لجيش الأسد في الحسكة وأحياء أخرى بمدينة القامشلي، تصاعدت التوترات وشهدت الحسكة حملات اختطاف طالت شخصيات مهمة من الطرفين، بالإضافة إلى بعض الاشتباكات العسكرية في نقاط متعددة بين الجهتين.
في شرحه للأحداث التي جرت يقول الصحفي فراس علاوي: “لا نستطيع أن نقول عن الأحداث الأخيرة إنها معارك، إنما هي صدامات ومحاولات ضغط وسيطرة، قسد حاصرت المربع الأمني الذي توجد به قوات النظام، وهنا حاول النظام فك الحصار بطرق سليمة عبر حاضنته الشعبية، وحلت المشكلة بتدخل روسي، هذه ليست المشكلة الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن لن تتحول لحرب مفتوحة إلا إذا كان هناك صراع بين الأمريكان والروس ويستخدم كل طرف أداوته على الأرض”.
تجاوز الظرف الإقليمي والدولي المعارض لمنطقة آمنة وفق التصور التركي، والقبول بدخول طرف ثالث – غيرها والولايات المتحدة – متوافق إلى حدٍ كبير مع الرؤية التركية في تلك المنطقة
إثر هذه المناوشات والتصعيد وبمبادرة روسية تم الاتفاق بين قوات النظام وقوات الميليشيات الكردية على عدة بنود لإنهاء الخلاف الحاصل، وتم رفع الحصار عن أحياء في مدينتي الحسكة والقامشلي، وينص على أن “تفك قوات الأمن الداخلي (الأسايش) الحصار عن المربعين الأمنيين الخاضعين للجيش السوري في الحسكة والقامشلي، مقابل فك الحصار عن مخيمات الشهباء والشيخ مقصود في حلب والخاضعين للإدارة الذاتية من الجيش السوري” وفقًا لوسائل إعلام روسية.
مهمة لروسيا
الإعلام الروسي بدوره بدأ يروج منذ فترة ليست بعيدة إلى “انجرار روسي للمعارك ضد الأكراد”، حيث تحدثت إحدى الصحف باحتمالية وقوع صدام مسلح بين قوات روسيا وقسد، خاصة أن روسيا أرسلت تعزيزات إلى تلك المنطقة لتعزيز مواقعها بعد المناوشات الحاصلة هناك.
لكن ناشطين من محافظة الحسكة تداولوا وثيقة تتحدث عن تفاهم أمريكي جرى مع روسيا، من شأنه أن يحد من مساندتها لنظام الأسد حال اندلعت اشتباكات بينه وبين قسد، إضافة إلى إخراج النظام من مراكز المدن في كل من الحسكة والقامشلي، والسماح لروسيا بالحفاظ على نقاطها شرقي الفرات، وأن يكون مطار القامشلي بإدارتها، مع التزامها بفتح مكتب لقسد في مطار القامشلي.
إلى ذلك أجرت موسكو خلال الفترة الماضية زيارات لبعض وجهاء الحسكة في إطار التأسيس للمرحلة الجديدة، فيما أجرت اللجنة الأمنية التابعة للنظام اجتماعات مكثفة تمخض عنها العديد من القرارات التي تصب في مواجهة هذا السيناريو إذا حدث.
شركاء لأمريكا
كما أن هذه المحافظة مهمة للروس، فإن أمريكا تضعها أيضًا نصب أعينها، وعلى الرغم من أن دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق سحب جنود بلاده من المنطقة ووضعهم لحماية حقول النفط، فإن الدوريات الأمريكية ما زالت تتجول هناك وعلى صدام دائم مع الدوريات الروسية وبعض مؤيدي النظام السوري وتقيم مراكز عسكرية وأمنية، فقد باتت المنطقة تعج بعشرات القواعد، حيث تمتلك القوات الأمريكية 13 قاعدة ونقطة عسكرية، في حين يمتلك الروس خمس قواعد مدججة بالعناصر والأسلحة.
تعمل واشنطن على بناء شركاء أو تابعين لها في المنطقة عبر استقطاب القوات الكردية وتشكيل جماعات مسلحة، وتسعى أمريكا إلى منح المكون العربي وضعية خاصة داخل قوات قسد، حتى لا يشعر بالتهميش تحت قيادة الأكراد، كما حرصت إدارة ترامب على تشجيع الأكراد للتفاوض مع تركيا، بهدف تغيير المعطيات لغير صالح الروس.
تحاول قسد الاستفادة من الدعم الأمريكي قدر الإمكان، وارتفع عندها الشعور بالثقة بعد تعيين شخصيات مثل بريت ماغورك الداعم للوحدات الكردية بإدارة الرئيس الامريكي جو بايدن، ووفقًا للصحفي علاوي “حاولت قسد أن تفرض أمرًا واقعًا جديدًا خاصة أنها شعرت بالخذلان بمنطقة عين عيسى بعد أن حاولت عقد صفقة مع النظام والروس لحمايتها من التدخل التركي، وحاولت نقل الصراع من عين عيسى إلى الحسكة”.
تركيا والحسكة
كادت تركيا أن تصل لحدود محافظة الحسكة لولا أن أوقفت الاتفاقيات الدولية هذا الأمر، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بدء القوات التركية عملية عسكرية في منطقة شرقي الفرات أطلق عليها اسم “نبع السلام” لدحر الميليشيات الكردية في هذه المنطقة وتأمين الحدود التركية وخلق منطقة آمنة واسعة يستفيد منها السوريون بشكل عام.
بحسب ورقة بحثية منشورة على موقع قناة “الجزيرة” فإن منطقة شرق الفرات التي تضم محافظة الحسكة بكل مدنها وقراها تشكِل بالنسبة لتركيا مُهددًا لأمنها القومي نتيجة وجود حزب “بي كا كا” و”بي واي دي” على حدودها، إضافة إلى “تحول هذا المُهدِد الأمني إلى ورقة للضغط عليها في إطار صراع المحاور الدائر في الشرق الأوسط، خاصة من محور الإمارات والسعودية إضافة إلى فرنسا وموقفه الداعم لقوات قسد”.
وعلى الرغم من أن تركيا لم تحقق هدفها المعلن بالكامل من عملية “نبع السلام”، وهو إقامة منطقة آمنة على كامل الشريط الحدودي بطول 460 كيلومترًا وبعمق 32 كيلومترًا، فإنها حققت خطوتين تبدوان بالغتي الأهمية بأقل تكلفة، وهما الدخول عسكريًا إلى المنطقة وقطع الطريق على احتمال تشكيل كيان إداري كردي، عبر استكمال فصل أجزائه، الذي بدأته بعمليات سابقة غرب الفرات.
“تجاوز الظرف الإقليمي والدولي المعارض لمنطقة آمنة وفق التصور التركي، والقبول بدخول طرف ثالث – غيرها والولايات المتحدة – متوافق إلى حدٍ كبير مع الرؤية التركية في تلك المنطقة، وهو موسكو والنظام السوري، حيث يُعد منع إقامة كيان كردي في شمال سوريا مصلحة مشتركة بين هذه الأطراف جميعًا، كما أن التنسيق التركي-الروسي السابق على مستوى الملف السوري والمستمر حتى اللحظة، يشكل عامل طمأنة لأنقرة”.
بالمحصلة: تقع محافظة الحسكة اليوم بين براثن عدّة أطراف معتدية على أهلها وخيراتها، وكل طرف يهمه ما يستطيع تحصيله من الثروات الدفينة بعيدًا عن تنمية المدينة وتحسين وضع أهلها الذين على الرغم من غنى مدينتهم إلا أن الأزمات الاقتصادية تلاحقهم، فيما لم يستطع أي طرف من فرض الاستقرار والأمان طوال السنوات الماضية.