ترجمة وتحرر نون بوست
شيء غريب حصل يوم الجمعة في جنيف، المدينة التي ما كنت لتربطها هذه الأيام بتقدم يتحقق في الشرق الأوسط. أخفق المرشحون المفضلون لدى الجهات الدولية في الحصول على أصوات المندوبين المشاركين في المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة.
بدلا من ذلك، تم انتخاب قيادات تعتبر نسبيا أقل شهرة بالنسبة للبعض ولكنها أقرب إلى الجمهور داخل ليبيا، وهؤلاء سيشكلون حكومة تناط بها مهمة التحضير للانتخابات في نهاية هذا العام.
جميع قوائم المرشحين للانتخابات في المنتدي الذي ترأسته الأمم المتحدة كانوا يسعون لتجاوز الانقسامات بين الشرق والغرب والجنوب، ولكن ليست تلك هي القضية.
كان الجميع يتوقعون أن يصبح عقيلة صالح، رئيس البرلمان الذي يتخذ من الشرق مقرا له، رئيسا للمجلس الرئاسي، ولكن ذلك لم يحدث.
لدى عقيلة صالح سجل طويل يحتاج لأن يتغلب عليه قبل أن يقدم نفسه على أنه الرجل الذي يمكن أن يقود ليبيا نحو السلام والوحدة.
فقد دعم القائد الشرقي خليفة حفتر في محاولته الفاشلة لاقتحام طرابلس. وكان يرغب في نقل العاصمة الليبية من طرابلس إلى سرت، في وسط البلاد، حيث تتمركز حاليا قوات حفتر المدعومة من قبل المرتزقة الروس.
وعقيلة صالح هو الذي جمع رؤوس القبائل ليسمعوا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وهو يهدد بغزو ليبيا. وكان عقيلة صالح قد حث مصر على التدخل فيما لو شنت القوات العسكرية المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني على مدين سرت، المدينة التي انسحبت إليها قوات حفتر المهزومة في شهر يونيو / حزيران عندما انهارت حملته على طرابلس.
كان عقيلة صالح هو رجل مصر، ولقد لعب دورا مركزيا في مشروع تنصيب مخلوق مستنسخ من السيسي رئيسا على ليبيا. ولذلك عندما خسر الانتخابات في سويسرا، كان رد الفعل الأولي في مصر حالة من السخط.
ولا أدل على ذلك مما غرد به مصطفى بكري، المقدم التلفزيوني الذي يعكس في العادة ما يفكر به السيسي نفسه، قائلا إن الصفقة التي أشرفت على إبرامها الأمم المتحدة سيطاح بها بالقوة.
كتب بكري يقول: “النتائج التي أسفرت عنها نتائج الانتخابات الوهمية وغير الشرعية لانتخاب رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي في ليبيا أقل ما يقال إنها مؤامرة ضد الشعب الليبي”.
وأضاف: “حفتر، لقد أعادوا الإخوان إلي صدارة المشهد، ولكن تناسوا في كل ذلك أن الجيش الليبي هو الرقم الصعب في المعادلة، وأنه قطعا لن يسمح بهذا العبث الذي استدرجوا إليه المستشار عقيله صالح، ثم راحوا ينفذون المؤامرة ضده، حتي ينالوا من الجيش وقيادته”.
والحقيقة هي أن جماعة الإخوان المسلمين حمت رهاناتها، فحزب الجماعة ساند عقيلة صالح بينما ساندت حركتها الفائزين. ولكن بعد لحظات من التأمل، غيرت القاهرة رأيها إذ قام السيسي بتهنئة الفائزين من خلال اتصال هاتفي مع مذيع تلفزيوني آخر والتحدث معه على الهواء.
فمنذ أن انهزمت قوات حفتر وردت على أعقابها من مشارف طرابلس بفضل التدخل العسكري التركي فقد السيسي الثقة فيه، وأجرى مسؤولون في المخابرات المصرية محادثات سرية مع نظرائهم الأتراك حول سبل المضي قدما بدون جنرال الحرب.
كان عقيلة صالح جزءا من الاتفاق، ومعه كذلك وزير الداخلية في حكومة طرابلس فتحي باشاغة المدعوم من قبل الأتراك، والذي يبدو أنه كان يحظى كذلك بمباركة فرنسا. وعندما أخفقوا، أصدر المرشحون الخاسرون، بما في ذلك عقيلة صالح، بيانات أعربوا فيها عن دعمهم للمجلس الرئاسي الجديد.
فائزون غير متوقعين
كان الفائزون غير المتوقعين في هذه المنافسة جميعا قد احتلوا مواقع خلفية في الأحداث العاصفة التي أوصلتهم إلى السلطة مؤقتا.
يقدم رئيس الوزراء الجديد عبد الحميد دبيبة نفسه على أنه رجل أعمال وتكنوقراط. فهو ينحدر من عائلة ثرية من مصراتة، وترعرع في قطاع الإنشاءات في عهد القذافي.
كان ابن عمه علي دبيبة مقربا من الدكتاتور الليبي ويشغل منصب رئيس منظمة تنمية المراكز الإدارية. وعندما انطلقت الثورة كان عبد الحميد واحدا من الممولين الرئيسيين للقوى الثورية. وفي عام 2017 كان جزءا من وفد مصراتة الذي زار موسكو وغروزني.
ولما كان كل معسكر في ليبيا يعاني من الانقسام، فقد كان ترشحه بمثابة تسوية بين مرشحين آخرين من مصراتة هما باشاغة وأحمد امعيتيق.
يترأس القائمة الفائزة محمد المنفي، والذي ينحدر من طبرق، وكان يعارض معركة بنغازي ويعارض الحملة على طرابلس، ولطالما كان من أشد نقاد حفتر.
عينته حكومة الوفاق الوطني سفيرا في اليونان قبل أن تطرده أثينا بسبب تأييده لاتفاق الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
نائباه الاثنان لم يكن لهما كثير اهتمام بالسياسة من قبل.
أحدهما، واسمه موسى الكوني، هو شقيق الروائي الشهير عالميا إبراهيم الكوني. وهذه العشيرة معروفة ولها شعبية في الجنوب.
لماذا فاز هؤلاء ولم يفز المتصدرون للمشهد من حاملي ندوب المعارك؟
بات واضحا أن عقيلة صالح لم يتمكن من إعادة كتابة تاريخه. فمن بين القائمتين اللتين وصلتا إلى الجولة النهائية، أنجذب المندوبون الليبيون نحو القائمة الأقل إثارة للخلاف، وضاعف من أثر ذلك العداوات التي أوجدها لنفسه عقيلة صالح في طبرق.
كما أن حلفاءه السابقين في الشرق أزعجهم منه تخطيطه لنقل العاصمة، لأنه لو حصل ذلك لغدت العاصمة في قبضة حفتر.
أشادت الأمم المتحدة، التي تنفست الصعداء، بانتخابات الجمعة، كما أشادت بها المبعوثة الأممية المنتهية ولايتها، ستيفاني ويليامز، التي اعتبرت ما حصل إنجازا تاريخيا.
مهزومون بلا روح رياضية
بمجرد أن اتضحت النتائج، سارع الجميع إلى هواتفهم. كان أول من هاتف رئيس الوزراء المؤقت ورئيس المجلس الرئاسي هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ولكن حتى الخاسرون في هذه الصفقة سريعا ما حاولوا القفز من المركب.
تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع المنفي ودبيبة، كما وصلت الأول رسالة تهنئة من الحكومة اليونانية التي كانت قد طردته حينما كان سفيرا فيها. لكم تبدلت الأمور.
ولكن هذه بالتأكيد لن تكون الكلمات الأخيرة في الصراع الليبي على السلطة.
فمع أن مصر لم تفتأ تنأى بنفسها عن حفتر، إلا أن الجهة الرئيسة الأخرى الداعمة له، أي دولة الإمارات العربية المتحدة، لم تفعل. ولا كذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ما تزال قوات المرتزقة التابعة له تدافع عن سرت وعن قاعدة الجفرة.
الخاسرون في هذه الصفقة -الإمارات العربية المتحدة وروسيا وفرنسا- لا يبدون أدنى تقدير للحكام المنتخبين ديمقراطيا والمتمتعين بشرعية شعبية في شمال أفريقيا، ولا يصدر عنهم ما يشير إلى استعدادهم للتخلي عن خططهم في ليبيا.
بات الآن حفتر، الذي أعلن نفسه في أبريل/ نيسان حاكما على ليبيا “بتفويض شعبي”، خارج العملية السياسية، ناهيك عن أنها عملية معترف بها دوليا مثل هذه التي تجري حاليا.
فيما لو تعرقلت العملية السياسية تارة أخرى فإن بإمكان حفتر أن يراهن على القوة العسكرية لإملاء إرادته، أو على الأقل لمنع إجراء انتخابات على مستوى القطر.
أمام دبيبة الآن ثلاثة أسابيع ليشكل خلالها حكومة يوافق عليها البرلمان.
ليس هذا مضمونا، وفي مقابلته الأولى مع وكالة الأناضول التركية لم يكن رئيس الوزراء المؤقت في حالة تصالحية مع ذلك الجزء من البرلمان الذي مازال في طبرق.
فقد جاءت إجابة دبيبة على النحو التالي: “الخيار بيد الشعب الليبي، والشعب رحب بهذه الحكومة. أعتقد أن البرلمان جزء من الشعب ولا أظن أنه سيكون لهم خيار آخر.”
يوم السبت اشترطت الحكومة التي تتخذ من الشرق مقرا لها ويرأسها عبدالله الثاني – والمتحالفة مع حفتر – أن يتوقف نقل السلطة إلى الحكومة الانتقالية على موافقة برلمانية.
كثير من نواب البرلمان الذين توجهوا إلى طبرق ما لبثوا أن عادوا إلى طرابلس، جزئيا للاحتجاج على استخدام عقيلة صالح لهم كمنصة لتنفيذ أجندته الخاصة. كما أنهم لم تعجبهم فكرة نقل العاصمة إلى سرت، ولم يكونوا في رفضهم لها أقل حدة من أهل طرابلس.
ولذلك، ثمة فرصة في أن يسمح البرلمان، والذي يمثل شريحة عريضة من الليبيين، لرئيس الوزراء المؤقت بتشكيل حكومة.
ولكن فيما لو أخفق في إجازة الإدارة الجديدة، فسوف يحال الأمر إلى المندوبين الخمسة والسبعين الذين صوتوا لهذه القائمة يوم الجمعة لكي يقرروا. بشكل أو بآخر، ثمة شعور عام بأن هذه الحكومة الانتقالية سوف تنطلق.
إلا أنها ستكون مؤقتة. ولا يسمح لأي من الذين انتخبوا يوم الجمعة بالمشاركة كمرشحين في الانتخابات العامة التي من المقرر أن تجرى نهاية العام. أما عقيلة صالح والآخرون فإمكانهم خوض غمار تلك المعركة.
ولن فيما يتعلق بالسعي لإنهاء الحرب الأهلية في ليبيا يعتبر ذلك خبرا سارا، حتى لو كان مقيدا بشروط كثيرة.
القوة في مقابل القوة
ما كان شيء من ذلك ليحدث لو أن حفتر تمكن من الاستيلاء على طرابلس بالقوة، فقد كانت قواته على بعد سبعة كيلومترات فقط من مركز المدينة.
لو قدر له ذلك لانتهى الأمر إلى تنصيب سيسي آخر في ليبيا تنهال الإشادات من المجتمع الدولي به (وخاصة من قبل فرنسا وروسيا) باعتباره الزعيم الأنسب لليبيا. ولكانت إيرادات النفط وعقود التسليح تدفقت على خزائنهم.
إن الشيء الوحيد الذي أوقفه، عدا عن مقاومة المليشيات الليبية، هي الطائرات التركية المسيرة. كانت القوة في مقابل القوة.
وهذا يتناقض مع ما ينظر له الإسلاميون السياسيون والثوريون الليبراليون العلمانيون الذين يؤمنون بأن العنف يمكن فقط أن يجابه بالمسيرات السلمية وبالتنازل، وأنك حينما تشهر السلاح في وجه المستبدين فأنت بذلك تحقق لهم مرادهم.
نعم، هم على حق من الناحية الأخلاقية. ولكن التمسك بالقيم الأخلاقية العليا وحدها ما كان لينقذ طرابلس من براثن حفتر.
لو تحقق لحفتر مراده لتكررت جرائم الحرب التي وثقها موقع ميدل إيست آي في ترهونة وتقوم المحكمة الجنائية الدولية حاليا بالتحقيق فيها، ولشهدت طرابلس في قبضته من الجرائم ما هو أنكى وأفظع.
أثناء الثورة الأمريكية لعبت القوة المدعومة من قبل فرنسا دورا مركزيا في النضال لنيل الاستقلال من المستعمرين البريطانيين. وأثبتت القوة في الأيدي العقلانية أنها حاسمة في ردع الطغاة وحماتهم من المستعمرين.
فيما لو نجحت العملية السياسية في ليبيا، فسوف يكون لليبيا المستقرة أثر كبير على جارتيها تونس ومصر، وكلاهما يعتمد على البلد لتعزيز الاقتصاد فيهما.
ما بين مصر وليبيا وتونس، هناك اهتمام مشترك بحسم هذا القتال. دعونا نأمل في أن يسود ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي