في لحظة عاصفة من زمن ثورة الـ11 من فبراير/شباط الشبابية الشعبية السلبية 2011، كنت واحدًا من آلاف الثوار نمضي في أحد أكبر شوارع العاصمة صنعاء، في مسيرة اشتبكت بكمين كبير للشرطة المدججة بالأسلحة والآليات العسكرية المدرعة والقناصة المنتشرين على أسطح المنازل والمباني الحكومية.
أفرغ الجنود رصاصاتهم دون تمييز وفتحوا خراطيم المياه العادمة علينا، تساقط الثوار في هذه المسيرة جراء الرصاص المنهال عليهم، والمحصلة كانت أن هؤلاء الثوار وكالعادة هم الطرف الذي يقدم التضحيات، فيما ينصرف القاتل المدجج بالسلاح من المعركة يحدوه الأمل في كسر شوكة الثوار والحد من عنفوانهم وصولًا إلى إجهاض الثورة.
لكن الثورة مضت في طريقها إلى أقصى مدى محققة أحد أهم أهدافها وهو إسقاط الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
ومثلها مثل بقية ثورات الربيع العربي، عانت الثورة اليمنية من حالة الاعتساف المتعمدة لإرادتها وقيمها وأهدافها، عبر إتمام استحقاقاتها السياسية عن طريق التوافق الذي أبقى الدولة العميقة وأدواتها قادرةً على تغيير الواقع وفقًا لمخطط جرى تمويله وتنفيذه بأموال الدول المجاورة.
وفي خضم انخراط الأنظمة الشمولية بالإقليم في مهمة إدارة وتوجيه الثورة المضادة للربيع العربي، كانت أدوات الدولة القديمة في اليمن كما في مصر وتونس وليبيا، جاهزة لأداء الدور التالي وهو احتواء الثورة وتقويض مكاسبها السياسية.
كان ثوار فبراير يستجمعون قواهم في كل من محافظة تعز ومأرب، للتعامل مع التقدم العسكري للانقلابيين الحوثيين وحليفهم صالح
الرئيس الذي انقلب على نفسه
يمثل الرئيس هادي القادم من الجنوب، نموذجًا للرؤساء الذين اعتلوا هذا المنصب عن طريق الصدفة البحتة، لذلك لم يكن مستعدًا لأداء دوره ولم يكن لديه خيال القادة الاستثنائيين بقدر ما كان مرتهنًا لترسبات 17 عامًا من العمل في ظل الرئيس صالح كنائب له بلا صلاحيات ولا كرامة، الأمر الذي أبقاه مستعدًا للتماهي مع أكثر السيناريوهات سوءًا وهو إدخال البلاد في دوامة الفوضى، مدفوعًا بالرغبة في الانتقام من النخب الشمالية.
لذا يمكن القول إن هذا الرئيس كان أحد الأطراف الرئيسة التي سهلت مهمة الانقلابيين ظنًا منه بأن الضمانات التي تلقاها من الرياض وواشنطن، سوف تحمي سلطته في صنعاء من إمكانية انحراف مسار الانقلابيين باتجاه الانقضاض عليها، لكن الذي حدث هو أن الانقلابيين قرروا بشكل نهائي التخلص من الرئيس وحكومته وتأسيس سلطة جديدة جلبت النفوذ الإيراني بأيسر الإمكانات، ووضعت المواجهة بين طهران والرياض في مسار جديد وأكثر حسمًا.
وعلى الرغم من نجاح انقلاب الحوثيين وشريكهم صالح بصنعاء في إنهاء نفوذ النظام الانتقالي لثورة فبراير برئاسة هادي، فإن مخطط الثورة المضادة بمرجعيتها الإقليمية، قرر الإبقاء على سلطة هادي، شرعيةً وممثلةً حصريةً لليمن، رغم المسار الشاق الذي قطعه هذا الرئيس وهو يواصل الهروب من صنعاء إلى عدن ومن عدن إلى مسقط ومنها إلى الرياض.
كل هذه التطورات، عززت من خيار الحرب الذي بقي وسيلة الانقلابيين لاستكمال السيطرة على محافظات البلاد، ومثل أحد الخيارات الحاسمة من جانب السعودية وحلفائها الإقليميين، الذين رأوا أن مسار تدخلهم قد انتهى إلى تموضع خطير للنفوذ الإيراني في اليمن.
وإلى جانب ذلك كان ثوار فبراير يستجمعون قواهم في كل من محافظة تعز ومأرب، للتعامل مع التقدم العسكري للانقلابيين الحوثيين وحليفهم صالح، استعدادًا لخوض معركة مصيرية كانت فرصها في تحقيق أهدافها تكاد تكون معدومة، والمحصلة هي أن الحرب باتت المسار العنفي الذي لا فكاك منه من أجل استمرار صمود الثورة ورجالها ونظامها السياسي.
رغم التشابه في مسار الثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي، فإن الواقع في اليمن يبدو مختلفًا، لأن الثورة المضادة في الحقيقة كانت قفزةً إلى المجهول بالنسبة لمن خطط لها ونفذها
الثورة تتموضع في جبهات القتال
لا يخطر على بال يمني اليوم أن استعادة المبادرة والمضي في مسار التغيير، يمكن أن يجري بواسطة الثورة السلمية المضادة والتجمهر في الميادين، وإن كانت عملية تحريك الحشود لا تزال تكتسب زخمها الخاص من كونها تجدد الثقة بحماس الناس لتغيير المعادلات السيئة المفروضة عليه من الأطراف الداخلية والخارجية.
لقد أعادت الثورة تموضعها في جبهات القتال وهي الطريق الوحيدة المتاحة اليوم لهذه الثورة من أجل الحفاظ على مكاسبها وهزيمة الذين استهدفوها وإفشال مخططات الثورة الإقليمية المضادة التي تدخلت من جديد على الساحة اليمنية، بصفتها طرفًا يدعم السلطة الشرعية ويسعى إلى دحر الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران.
في الحقيقة يدرك ثوار فبراير/شباط أن إعادة التموضع في الجبهات ليس أمرًا سهلًا، ففي الوقت الذي يوجهون فيه بنادقهم صوب الانقلابيين، لا يكاد يتوقف التحالف الذي يدعي أنه يدعمهم عن استهدافهم.
ومع ذلك ورغم الملابسات الخطيرة التي تكتنف العلاقة بين ما يسمى تحالف دعم الشرعية بقيادة السعودية والسلطة الشرعية وجيشها الوطني والمقاومة، وكلاهما يمثل امتدادًا لثوار فبراير/شباط، فإن المتمسكين بأهداف الربيع اليمني يعززون موقفهم باستمرار ويكتسبون جلدًا وخبرةً وإرادةً أصلب في مواجهة الاستهدافات متعددة الأطراف، على نحو يبقي المسار المسلح هو الطريق المتاح لهم لاستعادة الدولة واستكمال تحقيق أهداف الثورة.
لماذا يبدو الأمر مختلفًا؟
رغم تشابه مسار الثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي، فإن الواقع في اليمن يبدو مختلفًا، لأن الثورة المضادة في الحقيقة كانت قفزةً إلى المجهول بالنسبة لمن خطط لها ونفذها، ويعزى ذلك إلى أن المؤثرين الإقليميين قرروا تنفيذ الانقلاب على ربيع اليمن بواسطة شريكين كل منهما يحمل مشروعًا سياسيًا مناقضًا للآخر بانتظار الوصول إلى النتيجة التي يريدونها وهي إعادة إنتاج نظام صالح.
كان الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح وشبكة ولاءاته في الدولة يأملون في الحصول على نتيجة كهذه، أما الحوثيون فقد كان مشروعهم خليطًا من إحياء إرث الإمامة الزيدية التي تؤمن بالأحقية الحصرية بالحكم لسلالة بعينها من الناس، مع تأثير قوي للنموذج الثوري والعقائدي الإيراني في الحركة الحوثية التي تم بناؤها وفق نموذج الحرس الثوري وحزب الله في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة 11 فبراير/شباط 2011.
ولست بحاجة إلى تأكيد أن انتصار المشروع السياسي للحوثيين في صنعاء بعد مقتل صالح في الـ4 من ديسمبر/كانون الأول 2017، مثل انتصارًا للثورة الإسلامية في إيران، التي وضعت إمكانات دولة متخمة بالثروة البشرية، بيد جماعة موالية لها، وهو هدف لم تكن إيران تحلم به، في وقت لا تزال فيه الرياض تواصل استهداف حلفائها الذين تحاول تقديمهم على أنهم الكتائب المتقدمة في معركتها ضد إيران الشيعية.
لا يمكن للسياسة أن تفقد دورها ولا يمكن للثورة بروحها التي سادت في ربيع العرب أن تفقد قيمتها الأخلاقية وتأثيرها العظيم في استنهاض الجماهير
صيغ سياسية جديدة
يمثل استمرار المعارك بين الثوار المنضويين تحت سلطة الدولة الشرعية والانقلابيين دليلًا على أن تحقيق الانتصار عبر الحرب هو خيار مشترك بين الثوار والانقلابيين الحوثيين والمتمردين الانفصاليين في جنوب البلاد، في ظل غياب أي مؤشر على أي تنازل محتمل من هذه الأطراف لصالح السلام والاستقرار.
وبما أن السلاح هو وسيلة التغيير الجيوسياسي في الساحة اليمنية، فإن ما يحتاجه الثوار اليوم هو ما يلي:
– اجتراح صيغة سياسية جاذبة يمكن أن تبث روحًا جديدة في المعركة الدائرة حاليًّا وتوسع دائرة التضامن الوطني معها، وهذا الأمر قد يتوافر من خلال تأسيس تجمع سياسي جديد يضم نخبة من القادة المؤثرين والمتمتعين بالإرادة القوية التي تسمح بالتدخل في الظروف الصعبة لقيادة المواجهة مع المتمردين والانقلابيين والنفوذ الإقليمي السيئ.
– السعي الجاد لترميم الجبهة الوطنية المتصدعة التي يقف أعضاؤها من أحزاب وقوى سياسية وجماعات وتكتلات على أرضية مشتركة من الإيمان بوحدة الدولة اليمنية ونظامها الجمهوري الديمقراطي التعددي، لكنهم يخضعون لعملية استقطاب تحول دون توحدهم وانخراطهم في المعركة بأهداف موحدة.
– مواصلة خوض المعركة السياسية والإعلامية دفاعًا عن ثورة 11 من فبراير/شباط وقيمها وأهدافها السياسية والإصرار على تمسك أي نظام سياسي بهذه القيم والأهداف.
لا يمكن للسياسة أن تفقد دورها ولا يمكن للثورة بروحها التي سادت في ربيع العرب أن تفقد قيمتها الأخلاقية وتأثيرها العظيم في استنهاض الجماهير، لكننا نحتاج اليوم إلى سلوك الطريق الأقصر للوصول إلى أهدف الربيع ومكاسبه المستباحة من بقايا الأنظمة الشمولية وداعميهم.