مدينة زيورخ في 9 نيسان/ أبريل 1917: 32 مهاجرا روسيّا في محطة القطار بانتظار المغادرة، لكنهم ليسوا وحدهم هناك. ترتفع ضدهم صيحات تصفهم بـ”الخونة والأوغاد والخنازير”، بينما يُنشد مناصروهم نشيد “الأممية”. أُغلقت المحطة لفترة قصيرة، ثم انطلق القطار.
كان القيصر فيلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا قد استأجر القطار لنقل المهاجرين الرّوس بهدف دعم الثورة الروسية. من بين المسافرين، فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بـ”لينين”. بمساعدة ألمانيا، غادر لينين منفاه في سويسرا، وبعد أسبوع وصل إلى بتروغراد، التي تغيّر اسمها لاحقا إلى لينينغراد، ثم إلى سانت بطرسبرغ.
قالت القيادة العسكرية الألمانية متحدثة عن لينين “إنه يعمل وفقا لرغباتنا”.
في روسيا، كانت ثورة شباط/ فبراير قد انتهت، وأُطيح بالقيصر نيكولاس الثاني من العرش، وتولّت حكومة مؤقتة مقاليد السلطة، ولم تكن ثورة تشرين الأول/ أكتوبر قد اندلعت.
حِراب بروسية وسواعد بروليتارية روسية
حظيت عودة لينين إلى روسيا باهتمام كبير في برلين. أرسلت قيادة الجيش الألماني رسالة إلى وزارة الخارجية تقول فيها: “كانت عودة لينين إلى روسيا ناجحة. إنه يعمل وفقا لرغباتكم”. ومن المفارقات السياسية، أو هكذا يبدو، أن تلتقي مصالح القيصر فيلهلم الثاني مع لينين الشيوعي. كان هدف الإمبراطور الألماني هو تقويض أركان الإمبراطورية الروسية، والتي كانت في حالة حرب مع ما يسمى بقوى المركز، أي ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، منذ سنة 1914.
كانت استراتيجية برلين واضحة، وهو أن يقوم لينين والبلاشفة بزعزعة استقرار روسيا، وبالتالي تخفيف عبء القتال على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الأولى. كانت الإمبراطورية الألمانية تعتمد على قاعدة دبلوماسية قديمة، عدو عدوي هو صديقي؛ وحققت الخطة نجاحا كبيرا.
نشأت الفكرة مع إسرائيل لازاريفيتش غيلفاند، وهو يهودي روسي، وكان يحمل اسما حركيا شيوعيا هو “بارفوس” أو “الصغير”. استخدم بارفوس نفوذه في نهاية سنة 1914 ليقدّم للسفير الألماني في القسطنطينية فكرة التحالف بين “الحِراب البروسية والسواعد البروليتارية الروسية”، واعتبر أن مصالح ألمانيا والثوار الروس متطابقة. بعد بعض التردد، حصلت فكرة بارفوس على التأييد في برلين.
الرأسماليون والبلاشفة
جاء غيلفاند إلى ألمانيا لأول مرة سنة 1891. كتب في الصحف اليسارية بأسماء مستعارة مختلفة والتقى بالشيوعيين البارزين في ذلك الوقت، أمثال روزا لوكسمبورغ وكارل كاوتسكي ولينين وليو تروتسكي. مع ذلك، فإن الرفاق لم يثقوا به بسبب أسلوب حياته المعادي للاشتراكية.
بعد الأحد الدامي في 22 كانون الثاني/ يناير 1905، عندما أطلق الحرس الإمبراطوري النار على المتظاهرين في سانت بطرسبرغ وقتل أكثر من 200 شخص، كان غيلفاند وتروتسكي من بين أوائل المنفيين الروس الذين عادوا إلى البلاد، وقد تقلدا منصبين في مجالس السوفييت، لكن الشرطة اعتقلتهما فيما بعد.
إسرائيل لازاريفيتش غيلفاند.. “الصغير” الذي أشعل شرارة الثورة؟
سُجن غيلفاند في سيبيريا، إلا أنه تمكن من الفرار. وبعد نجاح نشاطه التجاري في القسطنطينية، أصبح رجلا ثريا وامتلك بنكا، مما جعل أصدقاءه الشيوعيين ينفضّون من حوله. كتب تروتسكي “نعيا لصديق مازال على قيد الحياة”. ومع ذلك، فإن اندلاع الحرب سنة 1914 أتاح لبارفوس فرصة لممارسة نفوذه. وبعد أن التقى بالسفير الألماني إلى الدولة العثمانية، تم استقباله بمقر وزارة الخارجية في برلين في شباط/ فبراير 1915.
الثورة الروسية في 23 صفحة
كتب الشيوعي الروسي، صاحب التجربة الصحفية في ألمانيا والنجاح التجاري في القسطنطينية، تصوّره لثورة روسيّة وقدّمه لوزارة الخارجية الألمانية. كانت خارطة طريق لما حدث بالفعل بعد بضعة أشهر فقط. في 23 صفحة مطبوعة، شرح غيلفاند كيف يمكن أن ينجح الانقلاب المدعوم من الخارج. من وجهة نظره، كان الأمر يتعلق بالمال وعمليات التخريب وإسقاط الحكومة. بعد شهر، وافقت الخزانة الإمبراطورية الألمانية على تقديم مليوني مارك “لدعم الدعاية الثورية في روسيا”.
كان غيلفاند نشطا أيضا بصفته الشخصية. لم يكن هناك أي فصل تقريبا بين مصالحه التجارية وأهدافه السياسية. لقد كان المستفيد الأكبر من الحرب، حيث تعامل مع الجميع وفي كل القطاعات، الأسلحة والمعادن والكونياك والكافيار والقماش. كان الطريق إلى الشرق مقطوعا بسبب الحرب، لذلك قام مساعدوه بتهريب البضائع عبر قرية سويدية على الحدود مع فنلندا، والتي كانت في ذلك الوقت دوقية كبرى داخل الإمبراطورية الروسية، ودفعوا رشاوى لحرس الحدود.
فيلهلم الثاني، في الوسط، قرر إنفاق المال لإضعاف عدوه.
تشير عبارة “أحمل لكم التحيات من أولغا” إلى أن الثوار الروس كانوا يحصلون على أكثر من مجرد الدعم الدعائي، فقد وصلت إليهم الأسلحة والديناميت. بفضل هذه “الهدايا من ألمانيا”، غرقت السفن في أرخانغلسك وأُضرمت النيران في الموانئ. كذلك، ساعد السفير الألماني في كوبنهاغن، الكونت أولريش فون بروكدورف رانتزاو، على دعم خطة غيلفاند، حيث كان يرى أن دعم الشيوعيين أمر مشروع إذا ساعد في تدمير روسيا وحلفائها.
ثورة في ألمانيا بأموال روسية؟
حققت خطة غيلفاند الماكرة أهدافها في النهاية. في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، حدث الانقلاب الذي عُرف باسم “ثورة أكتوبر”. أُطيح بالحكومة المؤقتة واستولى السوفييت على السلطة. وفي وقت لاحق، أنهت روسيا التحالف العسكري الثلاثي مع فرنسا وبريطانيا. بالنسبة لروسيا، كانت هذه نهاية الحرب فعليا. أنفق القيصر فيلهلم الثاني حوالي نصف مليار يورو (582 مليون دولار) لإضعاف عدوه خلال الحرب العالمية الأولى.
لعب بارفوس دور الوسيط مباشر لتنفيذ خطة القيصر الألماني. وصفت السياسية الماركسية الألمانية، كلارا زيتكن، الرجل الذي ساعد على إنجاح ثورة لينين بأنه “عميل الإمبريالية”. توفي غيلفاند بجلطة دماغية في برلين سنة 1924، عن عمر يناهز 57 سنة، والتزم كل من السوفييت والإمبراطورية الألمانية الصمت حيال الدور التاريخي الذي لعبه.
فقد لينين مصداقيته لفترة وجيزة بين الشيوعيين الروس بسبب حصوله على دعم رأسمالي، ولكن بعد مقتل القيصر وعائلته في 17 تموز/ يوليو 1918، أصبح في وضع أفضل. في مؤتمر حزبي، قال إنه غالبا ما يُتهم بأنه قاد ثورة ناجحة بمساعدة أموال ألمانية، وأوضح أنه لم يُنكر ذلك أبدا، لكنه استدرك قائلا: “أود مع ذلك أن أضيف أننا سنقوم بثورة مماثلة في ألمانيا بأموال روسية”.
المصدر: دويتشه فيله