ها هي إسرائيل تخسر معركة الرأي العام في بريطانيا. ليس هناك أفضل من السفير الإسرائيلي إلى بريطانيا ليتتبع تراجع الدعم الذي تحظى به إسرائيل. ولد دانيال توب وتعلم هنا، وما عليه سوى أن يقارن الآراء المتعاطفة مع إسرائيل أيام شبابه بالأحكام الباردة وغير المجاملة التي تصدر اليوم بحقها.
لقد ذهبت أدراج الرياح تلك الصورة الوردية لإسرائيل والتي تقدمها على أنها جزيرة للديمقراطية في بحر العرب اللاعقلاني والعنيف. وذهب معها الاعتقاد بأن إسرائيل ترغب في التفاوض لو أنها فقط تجد شريكاً تتفاوض معه. وذهبت كذلك فكرة أن ثمة تعادل في الصراع، وأن ما يجري هو معركة بين قوى متكافئة.
وليس هذا بسبب تأثير جالية مسلمة أكبر حجماً. بل من المرجح أن كل البريطانيين اليوم لديهم دراية بالأربع عشرة ألف وحدة مستوطنة التي أقرت إسرائيل إنشاءها خلال التسعة أشهر التي كانت خلالها تتفاوض مع الفلسطينيين، ويتساءلون أين ستقام الدولة الفلسطينية بوجود أكثر من 600 ألف مستوطن في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، ويعلمون بالخطاب الإسرائيلي العنصري واللامبالي تجاه غير اليهود، ويرتعبون من التكلفة الباهظة التي يتكبدها المدنيون الفلسطينيون بسبب التعريف الذي حددته إسرائيل لأمنها.
وكلما أصرت إسرائيل على أن يختار مؤيدوها بين ليبراليتهم وصهيونيتهم كلما ازداد ضعف حجتها بأن الاثنين يمكن أن يتعايشا معاً. لقد فقد البريطانيون الثقة بأن ثمة حل قريب، بينما يطرأ تبدل على ما تعنيه إسرائيل في أذهان حلفائها. لم تعد إسرائيل قضية وإنما أصبحت عبئاً ثقيلاً.
ولذلك لم يأت مفاجئاً قرار البرلمان بالتصويت يوم الإثنين على الاعتراف بفلسطين دولة، كما لم تكن مفاجأة تلك المظاهرات التي لم تشهد بريطانيا أضخم منها أبداً حول هذا الصراع خلال الحرب الأخيرة على غزة، كما لم تكن مفاجأة أيضاً استقالة الوزيرة بوزارة الخارجية الليدي وارسي، أعلى سياسية بريطانية تقدم استقالتها احتجاجاً على موقف المملكة المتحدة “الذي لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً” تجاه غزة. والسيدة وارسي ليست من نمط جورج غالاوي، أي لم تكن سياسية على هامش المشهد السياسي، بل تبقى سياسية في قلب الاتجاه العام، وقد حاول جذبها إليه كل من الحزبين السياسيين الرئيسين الآخرين بعد استقالتها.
ولذلك فإن مناشدتها الاعتراف بدولة فلسطين، والتي نشرت في صحيفة الأوبزرفر يوم الأحد، تحمل ثقلاً سياسياً وأخلاقياً:
{قالت الوزيرة السابقة في وزارة الخارجية للأوبزرفر: هناك انعدام في الإرادة السياسية وبوصلتنا الأخلاقية مفقودة. لا توجد مفاوضات، ولا يوجد في المدينة جديد. بطريقة أو بأخرى علينا أن ننفخ الروح من جديد في هذه المفاوضات، وأحد الطرق التي بإمكاننا اتباعها لتحقيق ذلك هي الاعتراف بدولة فلسطين}
سيكون التصويت رمزياً، فالدولة الفلسطينية مفهوم افتراضي, ولقد تم الاعتراف بها حتى الآن من قبل 134 دولة، كان آخرها السويد. ولكن، لا يمكن أن يوصف بالرمزية أو مجرد النظرية ذلك الضغط الذي يمارسه اللوبي المؤيد لإسرائيل على أعضاء البرلمان البريطاني من كل الأحزاب السياسية حتى ينضبطوا وينضووا ضمن ما يطلبه منهم ذلك اللوبي. تمارس هذه الضغوط بشكل خاص على حزب العمال الذي يقوده إد ميليباند، وذلك أن التصويت لصالح الاعتراف سيشكل خطوة تاريخية من التحدي في وجه حليف تعود على أن يملي شروط الحوار.
لم تعد مقنعة حجج إسرائيل وأمريكا بأن الاعتراف بدولة فلسطين والتحركات التي يقدم عليها محمود عباس بتردد وتلكؤ واضح في سبيل الانضمام إلى مؤسسات الأمم المتحدة مثل المحكمة الجنائية الدولية، سوف تؤثر سلباً على نتائج المحادثات البناءة بين الطرفين. لا توجد محادثات بناءة، ثم أي أثر سلبي على نتائج الحل التفاوضي من الإعلانات الشهرية عن إقامة مستوطنات جديدة، والتي – على النقيض من التحركات داخل الأمم المتحدة – تتشكل واقعاً صلباً على الأرض، ولا تتكبد إسرائيل شيئاً من تكاليفها؟ من الذي يقوم بأعمال تنزع الشرعية عن دولة إسرائيل أكثر من دولة إسرائيل ذاتها؟ وكما قال وزير الخارجية السابق وليم هيغ نفسه: إلى متى يمكن أن يستمر هذا الحال دون أن يموت حل الدولتين. كل الدلائل تشير على أنه مات فعلاً، ولن يطول بنا المقام قبل أن نسمع بصدور شهادة الوفاة بشكل رسمي.
كشفت السيدة وارسي النقاب عن أنها حصلت على دعم من “أعلى المستويات” داخل وزارة الخارجية على موقفها بعد الاستقالة. لقد وصفت بدقة القبضة الشريرة التي تحكمهاعلى صناعة السياسة مجموعة صغيرة من السياسين “الذين لا يفسحون المجال لا للرأي العام ولا لآراء الوزراء ولا لآراء البرلمانيين ولا لأراء الناس العاملين في هذا النظام”.
لسنا بصدد جدال حول النتائج، وحول ما إذا كانت المحصلة حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين. إنما يتعلق الأمر بقدرة إسرائيل على التحكم بالنقاش الدولي تصميماً وتسييراً، وقدرتها على ضمان ألا يجري النقاش سوى ضمن أضيق المعايير تعريفاً، وضمان أن تستمر في الاستمتاع بالحصانة من المساءلة على ما تقوم به من أعمال وضمان التخلص من الضغط الدولي الممارس عليها حتى ترعوي.
إن الاحتلال، كما قال عباس نفسه، لا يكلف المحتل شيئاً. وإن الاستراتيجية التي يتوجب على جميع أعضاء المجتمع الدولي انتهاجها من الآن فصاعداً هي تحويل الاحتلال إلى شيء مكلف. وما من شك في أن نقاش الإثنين وما سيتبعه من تصويت سيشكل بداية مهمة في هذا الاتجاه.
المصدر: هافينغتون بوست / ترجمة عربي 21