ما زالت الانشقاقات داخل الأحزاب السياسية التركية تعصف بالمشهد السياسي للبلاد، فقد أعلن مرشح الرئاسة السابق عن حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) محرم إنجه، رغبته في الاستقالة من الحزب ونيته تأسيس حزب سياسي جديد، وذلك بالتزامن مع استقالة 3 من نواب الحزب المعارض في البرلمان بسبب خلافاتهم الداخلية وعدم رضاهم عن الإدارة الحاليّة بقيادة كمال كليتشدار أوغلو وابتعاد الحزب عن المثل والمبادئ التي أسس عليها، كما يرون، لينخفض بذلك عدد ممثلي الحزب في البرلمان من 138 إلى 135 نائبًا.
سبق ذلك تفكك أحزاب أخرى وظهور لاعبين جدد على الساحة السياسية، مثلما حدث داخل حزب العدالة والتنمية عندما شكل رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو حزب “المستقبل”، وتشكيل وزير الاقتصاد السابق علي باباجان حزب “التقدم والديمقراطية”، وما سبقه من انشقاق ميرال أكشنار عن حزب الحركة القومية أواخر 2017 وتشكيلها لحزب “الجيد” الذي نجح بدخول البرلمان عام 2018.
وبالمجموع، شهد العام المنصرم تأسيس 23 حزبًا سياسيًا جديدًا ليصل عدد الأحزاب السياسية الفاعلة في تركيا اليوم لـ99 حزبًا، وهي التحالفات التي ظهر قسم كبير منها نتيجة للاستياء السياسي في الوسط والأوضاع الاقتصادية والأصوات المنادية بانتخابات مبكرة.
بداية الخلاف
سطع نجم إنجه إبان فترة الانتخابات الرئاسية عام 2018 عندما قدمه حزب الشعب الجمهوري كمنافس للرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات، ورغم خسارته أمام أردوغان، فإنه حصل على أكثر من 30% من أصوات الناخبين الأتراك مسجلًا بذلك رقمًا قياسيًا على مستوى الأصوات التي حصل عليها الحزب منذ فتره طويلة، ما جعله واحد من اللاعبين الأساسيين بالساحة السياسة.
لم يصدر زعيم الحزب كليتشدار أوغلو تعقيبًا سواء عن استقالة إنجه ونيته تأسيس حزبه الجديد أم رد على الانتقادات الموجهة إليه
وما إن وضعت الانتخابات أوزارها، استغل النجاح والشعبية المتزايدة التي حققها خلال فترة الانتخابات وانتقد قيادة الحزب وطالب برئاسته، متهمًا رئيس الحزب كليتشدار أوغلو بالجبن وأنه لا يجرؤ على خوض الانتخابات بنفسه، كما أنه يتبع سياسات ديكتاتورية يقمع من خلالها معارضيه داخل أروقة الحزب، ما استدعى من كليتشدار أوغلو إعاده ترتيب الصفوف داخل الحزب وإزاحة إنجه والموالين له من دوائر صنع القرار.
بعد فشل خطط إنجه بالسيطرة على الحزب وإحداث التغيير من الداخل، وفشل المبادرات المختلفة لرأب الصدع وإنهاء الخلافات، بدأ حراكًا شعبيًا تحت مسمى “حركة وطن” بهدف التواصل مع أفراد المجتمع والسماع لهمومهم ومشاكلهم تمهيدًا منه لإعلانه تأسيس حزبه الجديد.
وعقب إعلان استقالته صرح قائلًا “أفصل طريقي عمن يتوسلون الديمقراطية من الولايات المتحددة الأمريكية، أفصل طريقي عمن يستجدون الدعم من الأعداء السابقين لحزب الشعب الجمهوري، أفصل طريقي عمن انحرفوا عن مبادئ وقيم أتاتورك”.
في المقابل حافظ حزب الشعب الجمهوري على صمته، إذ لم يصدر كليتشدار أوغلو تعقيبًا سواء عن استقالة إنجه ونيته تأسيس حزبه الجديد أم رد على الانتقادات الموجهة إليه، لكن يرى داعمو الحزب أن إنجه يخدم مصلحة أردوغان من خلال محاولته تقسيم الحزب وعرقلته عن إعادة ترتيب صفوفه وتحالفاته في مسعاه للإطاحة بأردوغان وتحالفه في الانتخابات المقبلة.
ويعتبر الحزب الذي سيشكله إنجه، الحزب الثالث الذي يخرج من رحم حزب الشعب الجمهوري، وذلك بعد تشكيل القيادي السابق في الحزب يلماز أوزتورك حزب “التجديد” وتشكيل حزب “التغير” من القيادي المنشق مصطفى ساريغول.
وبحسب تصريح إنجه، فإن عددًا لا بأس به من قيادات الحزب ورؤساء البلديات المحلية ونواب البرلمان من الحزب نفسه ومن أحزاب أخرى سينضمون إليه، ليشكل بذلك ثالث أكبر جناح معارض داخل البرلمان بعد جناحي حزب “الشعب الجمهوري” وحزب “الجيد” وذلك قبل خوضه لأي انتخابات.
ثقل الحزب الجديد في الشارع التركي
في تصريحه عقب الاستقالة قال: “الناخبون لحزب الشعب الجمهوري ينتخبون الحزب ليس لأنهم راضون عن الحزب وسياسته بل لأنه لا يوجد بديل آخر”، وأضاف قائلًا “حزبنا الجديد سيكون البديل في مواجهة حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان”، وأكد بأنه لن ينضم بأي شكل من الأشكال لتحالف أردوغان وأنه في حال استمرت الانتخابات القادمة لجولة ثانية فإنه وحزبه سيدعمون المرشح المنافس لأردوغان.
يحاول إنجه من خلال تصريحاته استمالة الأصوات الانتخابية الداعمة للعلمانية والمتمسكة بفكر وقيم أتاتورك
ومع ذلك، ما زال الوقت مبكرًا لقطع هكذا وعود، إذ إن المناخ السياسي التركي قابل للتغير بشكل دراماتيكي، كما حدث سابقًا مع إنجه نفسه، عندما صرح خلال الانتخابات الرئاسية عام 2018 بأنه لن ينافس كليتشدار أوغلو على رئاسة الحزب وحدث العكس بعد انتهاء الانتخابات مباشرة، إضافة إلى ما حدث أيضًا بين زعيم حزب الحركة القومية وأردوغان، فقد حصل خلافات حادة بين الطرفين قبل عقد التحالف الحاليّ، وكذلك بين وزير الداخلية التركي الحاليّ صويلو وأردوغان.
ولكن لا شك بأن إنجه يحاول من خلال تصريحاته استمالة الأصوات الانتخابية الداعمة للعلمانية والمتمسكة بفكر وقيم أتاتورك، إذ عنون ذلك بقوله: “أنا أستقيل من الحزب لإنقاذ عهدة وأمانة أتاتورك”، كما أنه يقدم نفسه كبديل لشرائح وأطياف شعبية متنوعة لم تعد مقتنعة بأداء قياداتها في ظل الوضع الاقتصادي غير المستقر في البلاد.
هل يصب ذلك بمصلحة أردوغان وتحالفه؟
على الرغم من عدم القدرة على الجزم بمدى فاعليه وجماهيرية الحزب الجديد، فإنه من المؤكد سيشكل تحديًا وإشغالًا لجناح المعارضة بشكل عام وحزب الشعب الجمهوري بشكل خاص، ومكسبًا من نوع ما لحزب العدالة والتنمية وتحالفه، وذلك لأن إنجه سيضعف الحزب بشكل مباشر من خلال إنقاص عدد أعضائه وناخبيه، وبشكل غير مباشر من خلال إضعاف علاقته مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ووضعها تحت الأضواء، الأمر الذي سيزعزع قواعد الحزب العلماني وموقفه من تصدر جناح المعارضة كون العلاقة موضع شبهات بالأساس، إذ يُهاجم ويُتهم الحزب من حين لآخر بعقد التحالفات مع الإرهابين.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن تأثير إنجه وحزبه سيكون محدودًا كون الانشقاق والتفكك طال جميع الأحزاب الرئيسية ما سيفرض عليها جميعًا إعاده حساباتها السياسية وهيكلة تحالفاتها الانتخابية وربما استحداث تحالفات جديده تلائم مستجدات المرحلة القادمة.
وبحسب إنجه فإن نظام الحكم الحاليّ هو نظام رئاسي وليس برلمانيًا وانقسام الأصوات بين أحزاب المعارضة لن يضر بخطط المعارضة لإسقاط أردوغان وتحالفه، إذ إنه سيدعم المرشح المنافس لأردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات.
إن كل ما يجري من استقالات وما سيلحقها من تفكك لن يصب بخانة أردوغان وتحالفه في الانتخابات المقبلة، لأن فوزه يعتمد بشكل أساسي على إقناع فئة الشباب الذين سيصوتون لأول مرة في الانتخابات ويصل عددهم لأكثر من 7 ملايين ناخب، وهم من ترعرعوا في عهد أردوغان، ولكنهم الأكثر تحديًا بالنسبة له، فعلى العكس من الأجيال السابقة، لم تستفد هذه الفئة من إنجازات الرئيس والتطورات التي حققها في البلاد، وإنما دخلوا إلى سوق العمل في ظل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي حاليًا، ولذلك يعد تركيز جهود أردوغان وتحالفه في مخاطبتهم بما يتناسب مع قضاياهم ومطالبهم الخطوة الأهم في اجتذاب أكثر الكتل تأثيرًا في التفاعلات السياسية التركية.