في عمق الصحراء، حيث محافظة مأرب الغنية بالنفط، يقود محافظها الشيخ سلطان العرادة المعركة، نيابة عن اليمنيين كما قال في اجتماع أخير له ضم قيادات الأمن والجيش في المحافظة، تزامنًا مع هجمات تنفذها الجماعة الحوثية للسيطرة عليها، وترى الفرصة سانحة للعودة إليها، بعد أن أُخرجت منها في العام 2015، عقب انقلابها بأشهر على الدولة في اليمن، التي كانت تعيش فترة انتقالية وتسوية سياسية هشة، أعقبت ثورة الربيع “11 فبراير/شباط 2011” التي أثمرت الحوثية، الجماعة الصغيرة التي كانت منزوية في إحدى مديريات محافظة صعدة، شمال البلاد.
سلطان العرادة، على رأس السلطة المحلية بمأرب التي باتت تمثل الحكومة الشرعية والدولة اليمنية، إضافة إلى محافظة شبوة جنوب شرق وجزء من محافظة تعز جنوب غرب البلاد، وهي المناطق التي ما زالت تدين بسلطتها لشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي يتخذ من العاصمة السعودية الرياض مقرًا له، على الرغم من الدعوات المتكررة لفخامته بالعودة إلى الداخل اليمني.
يبدو أنه لم يرتب لذلك بعد أو لم تحن الفرصة للعودة وترتيب الوضع في البلاد التي أصبحت تتوزعها القوى الداخلية التابعة لأجندة إقليمية متصارعة في العلن، كما هو بين السعودية وإيران، أو في الظل بين الإمارات والسعودية أيضًا، وذلك على النفوذ والأرض والموانئ والسواحل الممتدة.
معارك هي الأعنف منذ بدء الحرب التي دخلت عامها السادس منذ أشهر، مصحوبة بالقذائف والطائرات المسيرة التي ترسلها جماعة الحوثيين المسلحة حممًا على المدنيين في مدينة مأرب ذات التجمع السكاني الأكبر في اليمن، بعد موجة نزوح كبيرة إليها، بحسب منظمات دولية، منها الهجرة العالمية.
يظهر الناطق الرسمي للجيش في إحدى القنوات العربية مطالبًا حكومة بلاده بدفع رواتب جيشها الذي يخوض المعارك ويدافع عن آخر قلاع الدولة اليمنية، كما توضح تغريدات اليمنيين بمختلف انتماءاتهم السياسية، في صورة ثانية لما بقي من الدولة في اليمن، بعد عشر سنوات من ثورة 11 فبراير/شباط 2011، عام ثورات الربيع العربي.
جحيم الإمارات
الصورة الأولى التي هي لأحد الحكام المحليين “العرادة” بمحافظة مأرب، تقابلها صورة أخرى لمحافظ عدن، المحافظة الاقتصادية والمدينة الأهم، التي أعلنها الرئيس هادي عاصمة مؤقتة، إلا أنها لم تعتبر كذلك منذ تحريرها من الحوثيين في يوليو/تموز 2015.
ظهر مؤخرًا محافظها المعين من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وهو المحسوب على المجلس الانتقالي الجنوبي، أحمد لملس، في رحلة استجمام بين ثلج موسكو، العاصمة الروسية، في زيارة لم تأت عبر البروتكولات الدبلوماسية للدولة اليمنية، بل كانت وفق ترتيبات المجلس الانتقالي الجنوبي الذي ينتمي إليه لملس، وهو المجلس الذي رعته الإمارات منذ إنشائه أواخر العام 2107، ليرث التركة الأكبر من الأرض اليمنية.
تحكمت الإمارات في الموانئ والمطارات والمنافذ، متسببة بخسائر مالية كبيرة لخزينة الدولة اليمنية تصل إلى ستة مليارات دولار
وهي المحافظات الجنوبية التي تعد الأغنى في النفط والمساحة، إذ يمتد الساحل لأكثر من ألفي كيلومتر، حيث الثروة السمكية الأكبر في الوطن العربي، وأصبح مالًا سائبًا أسال لعاب أبو ظبي وأخواتها، فأرادت الاستئثار به، مع جزر في عمق البحر تعدّ الأجمل في العالم، منها مجموعة “أرخبيل سقطرى” الساحرة في المحيط الهندي، ذات المواقع الإستراتيجي المتحكم بتجارة الملاحة الدولية، ناهيك بباب المندب، حيث غادر مربع باب اليمن إلى جنة العالم، وأصبح باب اليمن إلى جحيم الإمارات التي ما زالت ترسل مرتزقتها إليه، وإلى المناطق القريبة منه، مشكلة ما يشبه المقاطعة والمستعمرة تحت مسمى الساحل الغربي، الذي اقتطعت أراضيه من تحت إدارة محافظتي تعز والحديدة، لتوكل المهمة لجنرالات من أسرة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، منهم عمار عبد الله صالح.
اتفاق الرياض.. المعمد بالدم
أواخر العام الماضي، مررت الرياض اتفاقًا معمّدًا بالدم، كانت قد أبرمته قبل عام بين الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية، بعد معارك شرسة في عدن، وظلت قوات الطرفين، على المدخل الشرقي للمدينة، تفصل بينهما أمتار قليلة، يتناوشان القصف بين الحين والآخر، وبموجب هذا الاتفاق تعود الحكومة الجديدة بعد تشكيلها إلى عدن، إلا أن العودة لم تكن سهلة، فكل شيء في المدينة تحت رحمة عيدروس الزبيدي وشلال علي شائع، الحاكمين الفعليين لها، كونهما يديران قوات الأمن المتحكمة فيها، التي بين الحين والآخر تقتحم مباني الوزارات وتعيث فيها فوضى، بل وتعمل على إغلاقها ورفع علم الانفصال، علم دولة اليمن الجنوبي التي كانت قبل العام 1990، عام تحقيق الوحدة اليمنية.
يرافق الوزراء الحكوميين أمنيون وجنود تابعون للانتقالي، يتلقون مرتباتهم، كما توضح عدد من التقارير من الإمارات التي ما زالت تتحكم في المشهد، وإن بدت السعودية كأنها تريد أخذ زمام الأمور إلا أنها لم تستطع حتى اللحظة، تمكين الحكومة من أداء عملها، التي ما زالت تحت رحمة الانتقالي ومليشياته المسلحة التي تحترف العنف وتراه طريقًا للتعامل معها.
على الرغم من أنه – أي الانتقالي – أصبح شريكًا فيها عبر أربع وزارات مهمة، سعت الإمارات إلى أن تكون متحكمة فيها، ومنها وزارة النقل، حيث من اختصاصها الموانئ والمطارات والمنافذ التي تسيطر عليها وتعمل على إغلاقها من ست سنوات، متسببة بخسائر مالية كبيرة لخزينة الدولة اليمنية، تصل إلى ستة مليارات دولار، منها ميناء بلحاف النفطي، حيث منشأة تصدير الغاز المسال الذي حرم منه اليمن طيلة السنوات الماضية، ولم تعمل الإمارات على تسليمه للحكومة لتعود إلى الاعتماد على نفسها وإدارة الملفات الاقتصادية والتنموية في البلاد التي توقفت فيها التنمية تمامًا.
محافظة حضرموت، شرقًا هي الأكبر مساحة في اليمن والأكثر هدوءًا واستقرارًا، فلم تصلها آلة الحرب، إلا أن آلة التفكيك السياسي وصلت إليها باكرًا
حكومة لم تستقر حتى اللحظة، وهي التي يقول عنها رئيسها المعين “معين عبد الملك” بأنها حكومة كفاءات سياسية، إلا أنها حكومة محاصصة حزبية ومناطقية وفئوية، للإمارات حصة كبيرة فيها، كما يقول اليمنيون أنفسهم، كما لها في محافظي المحافظات ممن ينفذون ما ترى دون مناقشة أو إبداء رأي، بينما آخرون متأرجحون بين تنفيذ قرارات رئيس الجمهورية وأخرى تأتيهم من الانتقالي الذي كثيرًا ما يلوح بعصا القوة والعصيان.
حضرموت.. هدوء كامن
محافظة حضرموت شرقًا هي الأكبر مساحة في اليمن، والأكثر هدوءًا واستقرارًا، فلم تصلها آلة الحرب، إلا أن آلة التفكيك السياسي وصلت إليها باكرًا، إلا أنها لم تنجح كثيرًا لتركيبة المحافظة المسالمة والداعمة دومًا للاستقرار، لذا تحاول التكيف مع أي سلطة، فظلت صورة الرئيس هادي كرمزية دائمة، إلا أن الإمارات وضعت لها موضع قدم في مينائها الأهم وفي مطار الريان، المطار الدولي الذي وضعت على بواباته أبو ظبي، مغلق إلى أجل غير مسمى، على الرغم من أنه لم توجد أي دواعي لإغلاقه، لا أمنية أو غيرها، فالحرب تبعد عنه ألوف الكيلومترات.
بين الحين والآخر ومع الدعوات الانفصالية التي يرفعها الانتقالي، تظهر أصوات مقابلة تعبر عنها مكونات عدة في حضرموت، تنادي بفصل المحافظة عن بقية محافظة الجنوب، لا يريدون تكرار تجارب سابقة، وهناك لافتة، يرى الكثير من أبناء المحافظة، أن الأنسب هو إعلان إقليم حضرموت ضمن دولة فيدرالية “اليمن الاتحادي” بحسب مخرجات الحوار الوطني، الذي قسم اليمن إلى ستة أقاليم، ويرون أنها تجربة قد يكتب لها النجاح بعد تجربة أنظمة الحكم الأخرى.
علمًا بأن مؤتمر الحوار الوطني، كان بعد عامين من الثورة اليمنية، وجاء وفق مبادرة خليجية كانت سببًا بكل الانقسام الحاصل، بحسب خبراء في الأزمة اليمنية، بأن الحوثيين وحليفهم السابق صالح، رئيس حزب المؤتمر، كانوا من الرافضين للصيغة الجديدة، وعلى الدستور المنتظر فكانت فرصتهم للانقضاض على السلطة وتفويت الأمر على من يريد إخراج السلطة والتحكم بالثروة من يدهم، إلى توزيع عادل لكل فئات الشعب في مختلف الأقاليم.
المهرة.. لا تخلو من التجاذبات
إلى ذلك لم تنج محافظة المهرة التي تقع في ركن قصي من شرق اليمن، بمحاذاة سلطنة عمان، التي حافظت على سلطة الدولة وشرعية عبد ربه منصور هادي، إلا أن القوى الأخرى تتنازع الحضور، بدءًا من قوات سعودية هي الأكبر في اليمن، التي استعانت مؤخرًا بقوات بريطانية كما قالت مصادر إعلامية مختلفة وصلت إلى المحافظة، التي ظلت في استقرار أمني دفع بمئات الألوف من اليمنيين للقدوم إليها، ناهيك بأنها ظلت أيضًا المنفذ المفتوح للمسافرين خارج البلاد، عبر منفذها مع منطقة صلالة العمانية، إضافة إلى أنه ميناء بري لدخول البضائع المختلفة إلى البلاد.
الانتقالي الجنوبي لم يرد أن يكون خارج اللعبة في المهرة، فبين الحين والآخر، يعلن تبرمه من الشرعية في المحافظة ومن الانتشار العسكري السعودي على حد سواء، ومؤخرًا ظهر في فعاليات مختلفة رافعًا لافتة اتفاق الرياض، داعيًا إلى وجوب تمثيله في السلطة المحلية والأمنية في المحافظة، وهو ما ترفضه مكونات أخرى كونه بابًا إلى دخول المحافظة للعنف والفوضى، ومقدمة لأن يفرض الانتقالي حكمة الفردي، ناقلًا نموذج عدن وأرخبيل سقطرى إلى المحافظة وبدعم إماراتي.
منذ وصول إيرلو ظهر تحكم طهران بصورة أكبر في العاصمة صنعاء، التي منها يدير الحوثيون أغلب المؤسسات الإيرادية
وفي العودة إلى مأرب، الأرض التي مثلت تربة خصبة لعودة الدولة، حيث استوطنها اليمنيون من كل المحافظات، وفيها يعيش محافظون ومديرون أمنيون وقيادات محاور عسكرية، للمحافظات الأخرى اليمنية، منها أمين أمانة العاصمة صنعاء ومديري المكاتب التنفيذية فيها، التي تقع تحت سيطرة الحوثيين، التحق بهم في الربع الأول من العام الماضي، محافظ محافظة الجوف المجاورة لمأرب، هو وكل المسؤولين المحليين فيها، بعد سقوطها مجددًا في قبضة الحوثي، بعد أن كانت المحررة وتخضع للسلطة الشرعية.
في مأرب يوجد مسؤولو المكاتب التنفيذية لمحافظات صعدة وإب وعمران وصنعاء وريمة بميزانيات مختلفة، على حلم العودة إلى محافظاتهم سلمًا أو حربًا، بحسب ما تقرره القيادة السياسية للبلاد، التي لم تحزم أمرها بعد للملمة شتاتها، التي أصبحت تتوزعها المنافي، وتتقاذف بها أمواج الصراعات الإقليمية، التي هي الأخرى وصلت إلى قناعة ضرورة الحل السلمي للأزمة اليمنية، لكن بأي صيغة، لا أحد يعلم، إلا من هم على الأرض، ممن أيديهم على الزناد، أو تلك التي تسحب قاذفات المدافع والصواريخ، مشعلة النار بلا هوادة، في حرب يريدها العالم أن تتوقف، لكن وفق أي نموذج لا يعلمون، ينتظرون ما يقرره الرئيس الأمريكي الجديد بايدن الذي افتتح ولايته، بما لم يكن بحسبان الجميع.
صنعاء.. مستعمرة إيرانية
ما بقي من الأرض ومؤسسات الدولة المركزية والأخرى في المحافظات ذات الكثافة السكانية، تتحكم بها قبضة الجماعة الحوثية، التي تنفذ فيها سياسة خاصة بها أقرب إلى السياسة الإيرانية، خصوصًا بعد وصول أحد المسؤولين الإيرانيين إليها، تحت مسمى سفير وهو حسن إيرلو الذي دخل إلى البلاد بطريقة لم تكشف، نظرًا لإغلاق التحالف العربي المنافذ الجوية والبرية والبحرية على البلاد، وما تحط من طائرات في مطار صنعاء الدولي إلا بعد تفتيشها في مطارات سعودية.
فمنذ وصول إيرلو ظهر تحكم طهران بصورة أكبر في العاصمة صنعاء، التي منها يدير الحوثيون أغلب المؤسسات الإيرادية، التي لم تعمل على تحريرها الحكومة اليمنية حتى اللحظة، ومنها مؤسسات قطاع الاتصالات والإنترنت الذي يدر أموالًا طائلة على الحوثيين، لتمويل حربهم، إضافة إلى قطاعات أخرى، واقتصاد حرب مواز، أصبح عنوانًا آخر للأزمة اليمنية.