في مفارقة يلحظها المتابع لأحوال النساء في قطاع غزة، نجد أنه كلما ازدادت الضغوطات والتحديات ازداد الإبداع والإنتاج النسوي، والأمر يقاس هنا على الإنتاج الأدبي للنساء اللواتي يواجهن بأقلامهن وفكرهن سيلًا من الصعوبات، منذ لحظة الكتابة الأولى حتى يجسدن إبداعاتهن على ورق بين يدي القارئ.
ملجأ وحاجة
“الأدب هو حالة تفريغ لما تحتويه النفس، لدى من يستطيعون البوح بالكلمات، لذلك وسط هذا الغليان المجتمعي الناتج عن التداعيات السياسية التي يعاني منها الشارع الفلسطيني، فإن البوح يكون ضروريًا وملجأ وحاجةً ومتطلبًا، خصوصًا إذا كان المضطهد امرأةً تمتلك المقدرة على اجترار الوجع بالكتابة”، تقول الكاتبة والشاعرة الفلسطينية كفاح الغصين لـ”نون بوست”.
وترى الغصين أن المرأة الفلسطينية إضافة إلى همها السياسي العام فإن لديها هموم المرأة الخاصة، التي تتعرض للظلم والقمع المجتمعي وإفرازات المجتمع الشرقي التي تعمل على وأد الكثير من الزهور قبل أن تتفتح على بوابات الحلم، فتقول: “لذلك نجد لدى الأديبات إصرار على الكتابة وولادة المؤلفات التي من خلالها يعبرن عن إصرارهن على عدم الموت المجتمعي وبقائهن على قيد الحلم، على هيئة إنتاجات وإصدارات تختلف عن بعضها من حيث عُمق المكتوب ونُضج المعروض وثقافة الكاتبة”.
وتؤكد الكاتبة فلورندا مصلح أن المشهد النسوي الأدبي في غزة يعتبر مستوى ناضجًا من الفكر، حيث برزت ولمعت أسماء الكثير من الأديبات المتألقات في غزة مؤخرًا بمجال الشعر أو الروائية أو القصص القصيرة.
النساء يجدن في الأدب وسيلة لتفريغ الهموم والتعبير عن ظروفهن المعيشية بغض النظر عن أشكال هذا التعبير
تقول مصلح: “برأيي الإنتاج النسوي الأدبي مناسب تمامًا لهذه المساحة الصغيرة من الأرض رغم كل الصعوبات والعقبات والظروف الإنسانية والمعيشية”، مضيفة “النساء يجدن في الأدب وسيلة لتفريغ الهموم والتعبير عن ظروفهن المعيشية بغض النظر عن أشكال هذا التعبير وإن كان سيرى النور وتتم طباعته وتوزيعه أم يبقى حبيس الأدراج، المهم الهدف الأول وهو التعبير عن مكنونات الذات ثم السعي لإخراجها للنور والبحث عن سبل لدعم هذا الإصدار”.
وحدها
ولعل في عنوان ديوان الشاعرة كوثر النيرب “تبكي وحدها” تلخيص لمآسي النساء في المدينة المحاصرة، هذه المآسي التي فجرت طاقات من الإبداع عند الكثيرات ودفعتهن إلى خوض تجارب جديدة في حياتهن التي لا يتحكم الحصار فقط فيها، وإنما تحدد معالمها جملة من العادات والتقاليد.
والشاعرة كباقي نساء مدينتها تمر بذات الظروف، لكنها تتغلب على ذلك بل وتقف له بالمرصاد عبر نصوصها الأدبية، فتقول النيرب عن ديوانها: “يحتوي الديوان على 19 قصيدة نثر، تنوعت بين الوطني والعاطفي، لكن جميعها تحمل هدفًا واحدًا وهو حب الحياة والإصرار على العيش رغم مأساوية الظروف في غزة”.
الشاعرة التي تعلم اللغة الإنجليزية أيضًا في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا ترى أن الشاعرة انعكاس للمجتمع، وهي ابنة الحالة التي تعيشها، لذلك ركزت كتاباتها على المعاناة التي يعيشها الناس في غزة، وخصوصًا النساء اللواتي يعتبرن أكثر من يدفع فاتورة الحالة السياسية الراهنة، وهذا يظهر في قصائد الشاعرة ووصفها من ناحية، وكيف انعكس الأمر عليها وعلى مستوى إبداعها وإنتاجها من ناحية ثانية.
تقول النيرب لـ”نون بوست”: “رغم أن الكتابة موهبة وعلم وإبداع، لكن الكاتبة تحتاج أيضًا للجو النفسي الملائم، وهذه أبسط المعيقات التي نواجهها، فانقطاع الكهرباء مثلًا في أثناء الكتابة ليلًا هو بمثابة انقطاع للوحي وللحالة المزاجية”، متسائلة بتهكم: عن أي إبداع نتحدث مع العتمة والحر وأصوات المواتير؟! وتستدرك بالقول “ومع ذلك نبدع”.
عثرات
عن المعيقات التي تواجه الأديبات في رحلتهن الكتابية تقول الشاعرة الغصين: “غياب التمويل هو حاجز يحول دون تنفيذ الأفكار الجيدة، فيمنع مبدعات حقيقيات بطباعة أعمال قد تكون ذات جودة أدبية أعلى من المعروض للعديدات، أيضًا التمويل يحد من انتشار الأدب الجيد الذي يحتاج لطباعة ونشر وتسويق ومعارض ومنتج بمواصفات عالية”.
الحصار يحرمهم من فرص الخروج لمعارض الكتب العربية التي تقدم فرصة للاحتكاك مع أدباء وأديبات من الوطن العربي
وتضيف “قلة التمويل وغياب الدعم الرسمي من وزارة الثقافة خصوصًا في ظل الانقسام وإغلاق المعابر والحصار هي أسباب تحد من السفر للمشاركات الخارجية والانخراط مع تجارب العالم الخارجي، إضافة إلى أننا لا نستطيع السفر للتعاقد مع دور النشر خارج غزة، وإذا نجحنا في ذلك لا نستطيع إدخال سوى نسخ معدودة، ولو قررنا النشر داخل القطاع لا نستطيع إرسال الكتاب للخارج لتسويقه”.
وبالإضافة لكل تلك المعيقات تقول الكاتبة مصلح: “الحصار يحرمنا من فرص الخروج لمعارض الكتب العربية التي تقدم فرصة للاحتكاك مع أدباء وأديبات من الوطن العربي، إضافة إلى ذلك فإن أغلب دور النشر في غزة لا تدعم الإنتاج الأدبي لأنها دور ربحية، لذلك فإن الكاتبة تتكلف ماديًا بشكل كبير حتى تستطيع نشر كتابها”.
ومع ذلك تؤكد مصلح أنه رغم حجم المعيقات، فإن الأدبيات نجحن وتغلبن وتصدرن المشهد الأدبي مؤخرًا.
نكهة التجربة
ما تقوله الأديبات الفلسطينيات وما يطرحهن من أفكار هو انعكاس للحالة الفلسطينية، حيث تشير الشاعرة الغصين إلى أن الأفكار التي تطرحها الأديبات في إصداراتهن الجديدة غالبيتها تصب في سياق الضياع الذي يعيشه المواطن الفلسطيني ضائع البوصلة بسبب الانقسام وقلة الحيلة وغياب الأفق.
وتقول: “الإصدارات تأتي غالبًا بنكهة تجارب كاتباتنا وهي بمجملها تجارب غفت على الانقسام واستيقظت على الخيبة، والأفكار التي تطرحها الأديبات تدعو للتحرر والخروج من عنق زجاجة الحصار، وأيضًا تحدي الموروث التقليدي الذي يحد من جموح الثائرات من الكاتبات”.
وتضيف: “نحاول تغيير الصورة النمطية للمرأة الفلسطينية التي تتجسد في التقوقع والانكسار والانصياع لقوانين العائلة والمجتمع، ونجحنا في ذلك، فالفتاة الآن تسافر لكل دول العالم بمفردها، السفر للدراسة أصبح عادة والسفر للسياحة أيضًا لم يعد فيه عائق لدى الكثير من العائلات، الفتاة الآن تسكن في الخارج بمفردها، وتمارس إثبات الذات دون حواجز، واختلفت منظومة التقاليد نوعًا ما بين الأجيال، لذلك صورة المرأة النمطية اختلفت كثيرًا بفعل الإنتاج النسوي على كل الأصعدة”.
صالون “نون الثقافي”
منذ العام 2002 واسم صالون نون يصدح في سماء الأدب الفلسطيني كأول تجربة في قطاع غزة لصالون أدبي نسوي يتبنى المبدعات ويناقش الإصدارات الأدبية، فتقول الأديبة الدكتورة مي نايف لـ”نون بوست”: “هذا الصالون على غرار صالون مي زيادة التي كانت تقيم صالونًا أول يوم ثلاثاء من كل شهر ونحن في صالون نون في بداية الشهر نقيم جلسة أدبية يحضرها مثقفون وأدباء وكتاب”.
وتضيف نايف التي أسست الصالون مع رفيقتها الأديبة فتحية صرصور: “الصالون يعتبر ابننا، نحن أنفقنا عليه من جيبنا الخاص، كان وما زال هدفنا الارتقاء بالواقع الأدبي بشكل عام والنسوي بشكل خاص”، وتشير إلى نشاطات الصالون الشهري، إذ تتمثل في استعراض الإصدارات ومناقشتها وتقديم المبدعات الجديدات للجمهور.
ترى الدكتورة فتحية صرصور أن صالون نون هو فكرة وستستمر رغم صعوبة الإمكانات في ظل غياب الدعم الأدبي بشكل عام من وزارة الثقافة ومن المؤسسات الأهلية، فتقول: “إجمالًا الأدب النسوي وليس فقط صالون نون أمامه عقبات ومع ذلك نصر على النجاح بل ونؤمن بدورنا في دعم الإنتاج الأدبي النسوي، مضيفة: “طباعة الكتب تحتاج لنفقات تفوق قدرة الكثيرات، فغالبًا لا تملك الكاتبة المال لضيق الحال والالتزامات المالية لأسرتها، نحن نحاول تقديم تلك المبدعات للجمهور وتقديم أعمالهن وقراءتها كنوع من الدعم لهن”.
وتشير الدكتورة صرصور لنفسها كحالة، فهي لديها ما يزيد على عشرة كتب بحاجة لطباعة، لكنها لا تجد من يدعمها وهي أنفقت كثيرًا على كتبها السابقة قائلة: “رغم تميز كل الأعمال الأدبية للنساء خلال الفترة الأخيرة، وهذا ما بدا من احتفالات توقيع الكتب وحجم الحضور والاحتفاء بالكاتبة وكتابها، يبقى في القلب غصة، فعشرات بل مئات الإنجازات والإبداعات ما زالت بحاجة لمن يتبناها في طباعتها ونشرها لتصل إلى القارئ لئلا تظل هذه الكتابات حبيسة الأدراج والشاشات الصغيرة”.
رغم تلك التحديات، تبقى هذه النماذج القليلة والمعدودة إضافة نوعية للإنتاج الأدبي العام في القطاع، ودليل على جهود المرأة الفلسطينية في الانخراط في كافة المجالات التي ظلت ذكورية بالكامل لعقود طويلة.