تواصل الجزائر مساعيها الحثيثة لدفع دول الساحل والصحراء الإفريقية للاستغناء عن فرنسا والضغط عليها لإخراج جيشها من المنطقة، لما خلفه وجودها هناك من تداعيات كبيرة على دول المنطقة التي تشهد اضطرابات أمنية وسياسية منذ سنوات.
الاعتماد على القدرات الذاتية
آخر هذه المساعي، ما جاء على لسان اللواء محمد قايدي رئيس دائرة التحضير بالجيش الجزائري، الذي دعا دول الساحل الإفريقي، إلى تجسيد تعاون عسكري يعتمد حصرًا على الإمكانات الخاصة بجيوش المنطقة التي تشهد وجودًا عسكريًا فرنسيًا كبيرًا.
محمد قايدي الذي مثل قائد الأركان الفريق سعيد شنڨريحة في اجتماع لقادة أركان جيوش منطقة الساحل عقد في بداية الأسبوع الحاليّ بدولة مالي، أكد “ضرورة تضافر الجهود في إطار تعاون واضح وصريح بين الدول الأعضاء، يرتكز خاصة على تبادل المعلومات وتنسيق الأعمال على طرفي الحدود، بالاعتماد، أولًا، على الوسائل والقوى الذاتية”.
وأفادت وزارة الدفاع الجزائرية في بيان لها “حرص الجزائر على المحافظة على التعاون في إطار هذه المجموعة لتبادل التحاليل والآراء بكل حرية بشأن المواضيع المتعلقة بالمجال الأمني في منطقتنا، وحضر الاجتماع رؤساء أركان ثلاث دول أخرى بالمنطقة وهي مالي وموريتانيا والنيجر لدراسة وتقييم الحالة الأمنية في المنطقة وتبادل التحاليل بشأنها”.
يُفهم من كلام اللواء محمد قايدي، وجود رغبة جزائرية ملحة في معالجة دول الساحل لمشكلة الجريمة المنظمة والإرهاب بأنفسهم وإمكاناتهم الذاتية
تأتي هذه الدعوة في إطار المبادئ الجزائرية، فقد ظلت الجزائر تطالب خلال السنوات الماضية بضرورة رفض أي تدخل أجنبي عسكري لمواجهة الأزمات الأمنية في المنطقة، فضلًا عن ضرورة خروج الجيوش الأجنبية من المنطقة.
وتشهد منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، توترات أمنية نتيجة عوامل عديدة أهمها أنها مساحة ممتدة لا تكاد تفصل بينها حدود طبيعية تضاريسية، بل هي – في أغلبها – حدود هندسية عشوائية موروثة عن المرحلة الاستعمارية، وشاسعة وصعبة الضبط.
كما يتزايد الصراع فيها على الموارد الطبيعية من غاز وبترول ومعادن مختلفة، ما أثر على دول المنطقة، وتقدر مساحة إقليم الساحل الإفريقي بأكثر من 10 ملايين كيلومتر مربع، 64% من هذه المساحة عبارة عن صحراء جرداء والـ30% البقية صالحة للزراعة، ويسكن الإقليم نحو مئة مليون إفريقي موزعين على قبائل وأعراق متعددة وبلغات مختلفة، ويعتبر الإقليم أحد أفقر المناطق بالعالم رغم ما يمتلكه من ثروات طبيعية مهمة.
رسالة إلى فرنسا
يُفهم من كلام اللواء محمد قايدي، وجود رغبة جزائرية ملحة في معالجة دول الساحل لمشكلة الجريمة المنظمة والإرهاب بأنفسهم وإمكاناتهم الذاتية، وهو ما يمثل رسالة مباشرة إلى قصر الإليزيه، وفق المحلل السياسي الجزائر فاتح بن حمو.
يؤكد بن حمو في تصريح لـ “نون بوست”، أن الاجتماع الأخير مثل رسالة واضحة على رفض الجزائر للوجود الفرنسي في منطقة الساحل تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، مضيفًا “الوجود الفرنسي في منطقة الساحل هو أصلًا مشكلة وذريعة للجماعات المسلحة لمواصلة نشاطها”.
ويضيف المحلل الجزائري بأن “عدم وجود فرنسا في المنطقة ربما سيسهل من الحد من ظاهرة الإجرام والإرهاب هناك أو القضاء عليها مع تضافر الجهود واستنهاض روح المقاومة عند دول الساحل واستغلال إمكاناتها الذاتية الكبيرة في هذا الشأن”.
وتعد الجزائر الدولة الوحيدة بين البلدان الواقعة في منطقة الساحل والصحراء التي رفضت الانخراط في تحالف لمكافحة الإرهاب أنشأته فرنسا عام 2017 وضم 5 دول بالمنطقة هي: مالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو.
محاربة الإرهاب
يكمل بن حمو قوله بأن: “الجزائر لها دور محوري في منطقة الساحل خاصة في ظل الارتباطات الدينية الكبيرة التي تجمعها مع دول المنطقة والحضور الكبير للمدرسة التيجانية هناك، ما يجعل من الجزائر أحد الأسباب الرئيسية لتقهقر الجريمة المنظمة والأعمال الإجرامية التي توصف بالإرهاب”.
ويؤكد بن حمو أن بلاده ستخدم المنطقة أكثر من باريس التي يمقتها الجميع باعتبارها دولة استعمارية قديمة، ففرنسا تحضر هناك ظاهريًا من أجل مكافحة الإرهاب والحد من الهجرة غير النظامية، لكن واقعيًا تعمل من أجل استغلال ثروات المنطقة.
تعتبر الجزائر أن أي اضطراب أمني أو سياسي في منطقة الساحل خطر من الممكن أن ينتقل إليها
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اتهمت الجزائر باريس بعرقلة مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله على خلفية صفقة صوفي بترونين بين فرنسا وتنظيم أنصار الدين، التي تم بمقتضاها الإفراج عن المختطفين مقابل إطلاق متشددين في مالي، بعد أن نجحت مصالح الاستخبارات الجزائرية في إلقاء القبض على من تعتبره إرهابيًا جزائريًا كان ضمن دفعة المتشددين الذين أفرج عنهم في مالي.
وتخشى الجزائر من أن تطوقها فرنسا وتعزلها عن المنطقة، وتحييدها عن أداء دور في المسارات السياسية لوضع ترتيبات جديدة لمنطقة الساحل والصحراء، خصوصًا خلال الأزمة الأخيرة في مالي والصحراء.
صراع متواصل وتباين الأهداف
يؤكد هذا الأمر، تواصل الصراع بين فرنسا والجزائر في منطقة الساحل، فكل طرف يسعى لقيادة المنطقة بصفتها ممرًا يتوسط دول جنوب الصحراء مع الشمال، وصولًا للبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، لتحقيق أهدافها، ويعود تدخل فرنسا في المنطقة إلى الثمانينيات وتدعم عام 2013، بحجة طرد المسلحين الذي استولوا على شمال مالي، لكن منذ ذلك الوقت صعد المسلحون الهجمات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وتشارك فرنسا في عملية برخان لمكافحة الإرهاب (حلت محل عملية سرفال) في منطقة الساحل بآلاف الجنود، فضلًا عن مروحيات عسكرية ومركبات لوجستية وعربات مدرعة وطائرات نقل وطائرات محاربة وطائرات دون طيار.
ويرجع التنافس بين البلدين إلى سنوات عدة، لكنه خرج إلى العلن منذ أن أنشأت فرنسا المنظمة الأمنية الإقليمية المتخصصة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل، من أجل التنسيق بينها لمواجهة الجماعات الإرهابية، لتحل بذلك مكان “مبادرة دول الميدان” التي أنشئت بموجب اتفاق مدينة تمنراست (الجزائر) سنة 2010، وتقودها الجزائر وتضم مالي وموريتانيا والنيجر.
اعتبرت الجزائر هذا الأمر، محاولة فرنسية لخلق توازنات جديدة في المنطقة تضعها خارج مجريات الأحداث، خاصة أن التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي اقتصر على الدول الخمسة الإفريقية (موريتانيا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو ومالي) المنضوية في إطار هذا التجمع الإقليمي.
هذا التنافس ناتج عن تباين أهداف البلدين، ففرنسا وإن كان تدخلها ظاهريًا، جاء لمساعدة حكومات دول المنطقة في مجهوداتها للتوقي من خطر الإرهاب الذي يهدد الجميع، فهي تسعى واقعيًا لحماية مصالحها في هذه المنطقة الغنية بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز وجودها في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
في مقابل ذلك، تسعى الجزائر لفرض الأمن والاستقرار في المنطقة، وبناء مشروع محوري ذي وزن دولي ألا وهو مشروع القطب الإفريقي القوي والموحد عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، والقادر أن يدخل الشعوب الإفريقية في عصر التحديث والعصرنة ماديًا وثقافيًا.
كما تعتبر الجزائر أن أي اضطراب أمني أو سياسي في منطقة الساحل خطر من الممكن أن ينتقل إليها، لذلك فإنها تعمل على إيجاد حلول للأزمات التي تعرفها المنطقة دون اللجوء للحل العسكري مع استبعاد الأطراف الأجنبية.