أكاد أجزم أن الأشقاء العرب المتابعين للمعركة السياسية الجارية في تونس ملوا من متابعة التفاصيل السخيفة التي تظهر على وسائل الإعلام والسوشيال ميديا المفتوحة بكل حرية، وإذا كان العرب قد ملوا فالتونسيون وصولوا قبلهم إلى مرحلة القرف وضاقت صدورهم مما يجري.
فعلى الأرض مشاكل لا حصر لها وتنادي من يحلها ويربح التونسيون وقتًا ثمينًا قبل حلول كارثة اقتصادية واجتماعية (تونس تعد الألف الثامنة لموتى كوفيد 19)، لكن الصراع الدائر في رأس السلطة يستحوذ على الوقت والاهتمام ويدفع التونسيين إلى حالة من الجنون المنذرة بانفجار في وجه الجميع.
الرئيس لم يجب عن سؤال الإعلامي الألمعي محمد كريشان في القدس العربي: ماذا يريد الرئيس؟ ونحن هنا قبل السؤال وبعده لم نعد نعرف ماذا يريد الرئيس بل هل للرئيس إرادة غير أن يكون في مقدمة المشهد دون خطة ولا فكرة ولا حلول؟ نعرف فقط أن الرئيس يخلق المشاكل وقد انتخبه الناس ليحلها.
انتظرنا حلولًا من مناورات يوم الأربعاء وأصبحنا صباح الخميس في نفس الوضع الذي بتنا فيه ليلة الثلاثاء، فرأسا السلطة التنفيذية متمسكان بموقفهما لا يتزحزحان وعملية عض الأصابع متواصلة ولا يبدو أن أحدهما سيصرخ.
مناورات يوم الأربعاء 10 من فبراير/شباط
دعا رئيس الحكومة لفيفًا من أستاذة القانون الدستوري ليستعين بهم في حل الإشكال الدستوري المختلق عن شرعية التعديل الوزاري، ودعا الرئيس لفيفًا من النواب من كتل مختلفة ليعرض عليهم موقفه ويشرح أسباب رفضه للتعديل، وكنا نظن أن الحل سيأتي من إحدى الجهتين لكننا بتنا بلا حل، فالمناورات لم تؤت حلولًا.
تهرب أستاذة القانون من مسؤولية الحسم، فلم يقبلوا دور التحكيم ولو بنصيحة واضحة ورددوا الجملة التي يرددها الشارع قبل اجتماعهم بأن المسألة سياسية لا قانونية، لقد عرض عليهم أن يشرحوا الموقف القانوني، حيث صادق البرلمان بأغلبية معززة (أكثر من الثلثين) على التعديل والفصل الدستوري ينص صراحة على مسؤولية الحكومة أمام البرلمان وليس أمام الرئيس الذي عليه تنظيم حفل القسم لتمر الحكومة إلى أعمالها، موقفان أحدهما خاطئ، لكن فقهاء القانون عوموا موقفهم ولم يسعفوا رئيس الحكومة بحل ربما كان يود سماعه ليحسم له أو عليه.
الرئيس الذي يحتكر حماية الدستور جعل قضية المرأة قضية مركزية دون وجه حق
لقد كشفوا في الأثناء حالة عجز النخب وجبنها أمام الحل القانوني ذي الكلفة السياسية بلا شك، فهم لم يرغبوا في إظهار خلافهم مع زميلهم القديم رغم أنه في جلسة موازية كان ينعتهم بالمشعوذين في القانون الدستوري (منافسة قديمة في قاعة أساتذة كلية الحقوق على تملك الأستاذية في القانون الدستوري خرجت عفونتها في وجوهنا بعد عقود)، فهم ما زالوا هناك لا ينقصهم إلا إعادة صراعاتهم الصغيرة بشأن جدول الأوقات أيام التدريس.
في الأثناء عقد الرئيس جلسته مع نواب فرزهم على هواه، فغيب كتلًا ودعا أخرى ولم يوازن بين حجم المدعوين (4 من الكتلة الديمقراطية و2 من النهضة دون مراعاة الحجم في البرلمان).
وكعادته منذ خرج للمشهد قرأ خطابًا خشبيًا بلغة تشبه حك الحديد على الحديد ليردد موقفًا ثابتًا لا يكشف أي رغبة في حل، وبعد أن كان يتحدث عن أربعة وزراء فاسدين (دون أدلة) صار يتكلم عن شوائب في تشكيل الحكومة دون توضيح، وجعل من غياب المرأة عن التشكيل الوزاري سببًا إضافيًا لرفض القسم.
وخرج النواب يبررون له موقفه في الإعلام، ففهمنا سبب فرز هؤلاء دون غيرهم، لقد حاول نقل المشكل داخل البرلمان وأفلح فمزق الكتل النيابية المعارضة لموقفه وفي مقدمتها كتلة النهضة.
حضور المرأة في الحكومة ليس شرطًا دستوريًا، فالمناصفة شرط في القانون الانتخابي وليس في الدستور، لكن الرئيس الذي يحتكر حماية الدستور جعلها قضية مركزية دون وجه حق، فأكد مسألة كانت واضحة للناس الرجل لا يبحث عن حل بل يبحث عن مشكل.
ووصلنا صباح الخميس بنفس الوضع الذي كنا فيه صباح الثلاثاء وندخل يومًا آخر من المماحكة وتعقيد حياة الناس، ولو علم من في الحكم كم أن حياة الناس اليومية معقدة دون هذه الإضافات من قبلهم، لكن كيف لهؤلاء المعزولين في أبراجهم والغارقين في نصوصهم الجافة أن يعلموا ما يصيب الناس من تكلسهم حول النص.
تحويل الدستور إلى عقبة
يمجد المفكر عزمي بشارة الدستور التونسي فيقول عنه إنه من أفضل الدساتير في العالم وليس فقط عند العرب ويرى فيه محاسن كثيرة، لكن الدستور التونسي يتحول على يد أبناء البلد إلى عقبة في طريق من وضعه ومن وصل به إلى الرئاسة، فقد تم توثين النص رغم ما فيه من فجوات اجتهادية.
العقل القانوني التونسي كما نفهمه من متابعة النقاش يخرج النص الدستوري من التفاوض الاجتماعي (السياسي) ليحوله إلى إله معبود لا يمكن النظر في وجهه بل الانكسار أمامه بصفته نصًا مقدسًا، والرئيس يظهر بمثابة الشامان الهندي القديم الذي يملك وحده الحق والقدرة على الاتصال بروح الرب الدستوري ليشرحه للقبيلة المخدرة بقدسية الأرواح غير المنظورة، إنه السادن والقائم بالرفادة والسقاية ووحده من يتكفل بحجيج الدستور في كعبته.
هذه الأزمة أسقطت فقهاء القانون وعلمت من يريد أن يتعلم أن تقديس النصوص عقبة في طريق السياسة إنه درس من دروس الثورة
هذا عقل متكلس مبني على حتميات رياضية ربما عدنا بها إلى وضعية أوجست كونت وإلى كل قائل بالحتميات الرياضية في الاجتماع الإنساني، إنه عقل فرنسي معاد لكل براغماتية التفكير البشري التي تطورت خارج حقل العلوم الإنسانية الفرنسي. مرآة نكتشفها مرة أخرى لنمط التعليم الفرنسي المهيمن على الجامعة التونسية الذي صنع خريجيها من النخب الكافرة بالحوار والتفاوض وتقاسم المسافات.
شكلانية قانونية تعقد المشاكل ولا تقدم الحلول فلا تقدم بالإدارة ولا بالسياسة، لذلك لم يفت فقهاء القانون الذي استعان بهم رئيس الحكومة خشية أن ينعتوا بتجاوز النص، فقد وضعوا إيمانهم بشكل النص قبل إيمانهم بالوطن وبحاجة الناس، لذلك لم يتجرأ النواب أيضًا على سؤال الرئيس عن فحوى اتهامه للوزراء الأربع بالفساد، فخرجوا من عنده دون معرفة المتهمين وحجج الاتهام، فقد كان النواب أنفسهم رجال قانون لا علماء اجتماع أو علماء نفس.
لنكتب جملة متفائلة نختم بها نصًا حزينًا، هذه الأزمة أسقطت فقهاء القانون وعلمت من يريد أن يتعلم أن تقديس النصوص عقبة في طريق السياسة إنه درس من دروس الثورة، لقد سقطت كليات الحقوق وسقط خريجوها صناع التعقيد لا صناع الحلول، وسيفتح الطريق لنمط آخر من التفكير غير الشكلاني لإدارة الدولة، فالحلول العملية لا تأتي من شكل النص بل من جوهر الحياة العملية.
وهنا غاب الرئيس والنواب وفقهاء القانون وكتبوا نهايتهم بعجزهم العملي المستكين إلى روح موهومة في النصوص، ولتونس روح عملية ستخرج منتصرة على شكل النص وعلى سدنته المزيفين.