قبل فلسطين اقترحت الحركة الصهيونية العالمية وطنًا قوميًا لليهود شرق إفريقيا البريطانية وتحديدًا كينيا، عرفت تحت مسمى “خطة أوغندا” التي قوبلت بالرفض ليقترح مؤسس الصهيونية ثيودور هيرتزل خطةً بديلةً تقضي بتوطين اليهود في المغرب.
خارج تاريخ الصهاينة
تحظى “خطة أوغندا” بشهرة واسعة في التاريخ الصهيوني، يتم تدريسها في مناهج التاريخ بالمدارس الإسرائيلية، بينما لا يعرف الكثيرون عن خطة هرتزل البديلة، التي أطلق عليها “خطة المغرب” لتوطين يهود روسيا في منطقة وادي الحصان، جنوب غرب المغرب، وهو اقتراح أثير في رسالته الغامضة والسرية التي كتبها عام 1903، وكشفتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” نقلًا عن الوثائق المحفوظة في الأرشيف الصهيوني المركزي تحت عنوان “كود هرتزل”.
يقول نص الرسالة:
“عزيزي جو.. كتب لي ياساكر بأنك ضد بلاك. وبشكل غير مباشر لكي أتوخى الحذر فقط، لم أكتب له أي جواب. أرجو منك التشاور مع زانغ وياساكر بشأن النقاط التالية، على وجه الخصوص:
لا يجب علينا، من خلال بلاك، أن نسمح بالتحريض الذي حصل في روسيا، الذي جعلنا نفكر في المغرب (الاسم الرمزي روكي) كبلد متاح لنا استعماره، إذ من المحتمل أن الظروف هناك ستؤدي إلى اجتياح من طرف القوى، عاجلًا أم آجلًا.
اليوم، لا تعود هذه الأرض إلى أي طرف منهم، على الرغم من أن هناك خمس قوى تطمح إليها. يبدو طبيعيًا أنها أفضل من شمشون، لا يجب أن يعلم بلاك بأن هذا الاقتراح صادر عني.
قبل كل شيء، أرجو من ديوان محكمة هير أن يعقد مجلسًا، وعدم القيام بأي شيء قبل أن أقرأ قرارك وأوافق عليه.. صديقك المخلص بنيامين”.
رسالة مشفرة
هذه الرسالة التي وقعها هرتزل باسمه العبري بنيامين، مكتوبة بطريقة مشفرة مثل معظم الرسائل التي كان يبعث بها إلى نشطاء الحركة الصهيونية.
تحدثت هذه الرسالة عن الصحفي البريطاني المناهض للصهيونية أرنولد وايت (أبيض)، الذي أشار له هرتزل باسم بلاك (أسود).
حصل وايت على هذه الرسالة وكان من أبرز النشطاء الساعين إلى وضع حد نهائي لهجرة اليهود إلى بريطانيا، خاصة من روسيا، حتى إن القيصر الروسي عرض نهاية القرن التاسع عشر إقامة مستعمرة يهودية في الأرجنتين لتحويل مسار المهاجرين اليهود الذين تآمروا على إضعاف الإمبراطورية البريطانية.
كما سعى وايت إلى إيجاد موطن بديل حول العالم لتأسيس مستعمرة لليهود، وعلى الرغم من أن دعايته كانت معادية للصهيونية، فإن هرتزل عرف كيف يستفيد من تصريحات وايت خدمةً للمشروع الصهيوني، كما ورد في المراسلات التي تم كشفها، وجد رأس الصهيونية في المغرب خيارًا أفضل مما أسماه “شمشون” ويقصد به شرق إفريقيا.
التوطين في كينيا اقترحه السياسي البريطاني جوزيف تشامبرلين لتوطين اليهود بشرق إفريقيا، وأطلق الخطاب الصهيوني عليه “خطة أوغندا”، لكن هرتزل رفض هذا العرض.
من أوحى له؟
لم يكن هرتزل هو السباق إلى “خطة المغرب”، بل إن المقترح تقدم به لأول مرة أخوان كانا ضمن الوجوه المعروفة في الحركة الصهيونية، اسمهما باروخ ويعقوب موشيه توليدانو، وهما ابنان لأبوين هاجرا من المغرب، وحدث أن باروخ تحدث باسمه واسم أخيه مع هرتزل قبل وفاته بشهور، ثم وجه نداءه إلى الحاخام الفرنسي فيدال من فاس، المقرب من النظام الملكي والحكومة المغربية، لإقامة منطقة مستقلة لليهود في وادي الحصان.
في العام 1904 مات هرتزل بسبب التهاب رئوي بالإضافة إلى الإرهاق الذي كان يعاني منه وهو يخدم المشروع الصهيوني، إثر ذلك جُمدت “خطة المغرب” التي كانت مقترحًا لم يعقد أي مؤتمر لمناقشته كما هو الشأن بالنسبة لـ”خطة أوغندا” التي انتهت الحركة الصهيونية إلى رفضها بشكل نهائي في مؤتمرها السابع عام 1905.
من الواضح أن هرتزل كان ينظر بعين برغماتية، فقد وقف على الظروف الصعبة التي كان يعيشها اليهود في روسيا عند زيارته لها عام 1903، فضلًا عن أعمال الشغب التي اندلعت آنذاك في أوربا الشرقية واضطهاد اليهود فيها.
رأي هرتزل في الآن ذاته أن المجتمع اليهودي في المغرب مزدهر ويشارك في شتى مناحي الحياة، كما كان له موطئ قدم في اقتصاد البلاد، لأن كثيرًا من اليهود المغاربة كانوا يعملون بالتجارة.
وطن انتقالي
على ما يبدو أن مساعي هرتزل لتوطين اليهود في المغرب، لم تبلغ حد إعلان “إسرائيل” هناك، وإنما كان يروج لإقامة وطن انتقالي، خاصة أنه رفض “خطة أوغندا”، متحججًا بأن فلسطين تشتاق إلى اليهود.
كثير من اليهود المغاربة لا علم لهم بهذه الخطة، كما أكد رئيس الطائفة اليهودية في المغرب ووزير السياحة السابق سيرجيو باردوغو في تصريح لصحيفة “يديعوت أحرنوت” أنه لأول مرة في حياته يسمع شيئًا مجنونًا كهذا، أي برنامج “الدولة اليهودية في المغرب” الذي وصفه بالمقترح الوهمي، واستطرد قائلًا: “عائلتي في المغرب منذ 1492، ومنذ طرد إسبانيا أعرف كل القصص التي رويت عن الوطن القومي لليهود، لكني لم أسمع مثل هذه القصة من قبل”.
ربما كاد المغرب أن يكون موطنًا مؤقتًا لليهود، لولا موت هرتزل المفاجئ الذي أدى إلى أرشفة هذه الخطة، كما هو شأن مقترحات أخرى تقدم بها اليهود من قبل لكن تم تجميدها، مثل وطن مؤقت في سوريا والعراق.
حلم بصيغة النبوءة
قبل بروز الحركة الصهيونية، كان أول من فكر في إقامة وطن يهودي شخص أمريكي اسمه مردخاي مانويل نواه، عمل في الشرطة والجيش والصحافة والكتابة للمسرح والدبلوماسية.
لقد سعى هذا الرجل إلى إقامة “دولة أرارات” يتمتع فيها اليهود بالحكم الذاتي في بافالو بولاية نيويورك عام 1825، لكن هذا الحلم لم يتحقق.
أما هرتزل فمنح لحلمه صفة النبوءة، فقد كتب في مذكراته السرية عن حلم رآه وهو في الثالثة عشر من عمره، وادعى أنه رأى المسيح المنتظر يحمله لملاقاة النبي موسى، فأبلغه الأخير بأنه الولد الذي صلى طويلًا من أجل قدومه، وقال له المسيح المنتظر: “أخبر اليهود بأنني قادم قريبًا وسأقوم بعمل معجزات وأفعال كبيرة لشعبي والعالم أجمع”.
وبعد زيارته الأولى إلى فلسطين عام 1898، عاد هرتزل فكتب عن حق اليهود في إخراج السكان العرب ونقلهم إلى أنحاء أخرى من الإمبراطورية العثمانية.