سألني أحد الأصدقاء ما إذا قرأت منشورًا كتبه “أبو إمارات”، لكنني توقفت عند الاسم، وسألته عن هوية الكاتب “أبو إمارات”، ضحك وأجابني: محمد حبش، إذ يبدو أن هذا اللقب منتشرًا على نطاق واسع بين السوريين، لأن صاحبه معروف بمواقفه الداعمة لسياسة أبو ظبي وحكامها والتماهي مع طروحاتها في المجالات كافة.
محمد حبش الداعية السوري الشهير، ليس الوحيد في ميدان تلميع صورة أبو ظبي وقادتها أمام العالم العربي، إذ إن الإمارات تستقطب العديد من الدعاة والمشاهير للعمل على تحسين سمعتها بعد أن عاث آل زايد فسادًا في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ومن أولئك عدنان إبراهيم المثير للجدل والمتقلب في مواقفه الذي كان في وقت من الأوقات ممنوعًا من الدخول إلى الإمارات.
إذا صح الوصف، فإن “الصالون التجميلي” الذي افتتحته أبو ظبي لم يضم الدعاة فقط، بل اعتمد على المدونين الرقميين والمشاهير، وكنا في “نون بوست” قد أعددنا تقريرًا عن “تلميع صورة الإمارات والمسؤولية الأخلاقية للمؤثرين”، وفيه أشرنا إلى أن المحتوى الذي ينتجه (المؤثرون) من الإمارات في هذا التوقيت على وجه التحديد يساهم في تهميش اتفاق التطبيع وإخماد أي حساسية تجاه هذا النشاط، عدا عن دوره في توجيه تركيز المتابعين نحو حملات ترفيهية فارغة أو أنشطة ناعمة تركز على محتوى غير سياسي، وذلك بدلًا من المقاطعة أو التخفيف على الأقل من المحتوى الذي يلمع صورة الإمارات ويُظهرها في صورة دولة الانفتاح والرخاء.
وفي هذا السياق، يأتي أمثال حبش وإبراهيم ووسيم يوسف معهم في صف واحد، مع اختلاف زوايا التلميع والتجميل، لكنهم جميعًا عملوا على إرضاء آل زايد.
في أكناف أبو ظبي
الداعية السوري محمد حبش المولود في دمشق، وأحد أبناء جماعة “أحمد كفتارو” مفتي سوريا في عهد حافظ الأسد، مؤلف وباحث له العديد من المؤلفات مستفيدًا من أحمد كفتارو وجودت سعيد، وداعية تبنى “التجديد الديني” بمفهوم استنكرته جماعة كفتاروا ذاتها اللتي ينتمي إليها، وأطلق عدة مشاريع لما أسماه “تعزيز خطاب التنوير الإسلامي” وأسس “رابطة كتاب التنوير”، لكن يبدو أن هذا التنوير أعمى بصيرته عندما طبعت أبو ظبي مع الاحتلال الإسرائيلي، فلم ينبس ببنت شفة!
كان حبش مثار الجدل دائمًا في سوريا وغيرها من البلدان، حيث كان يتحدث عن أفكار صادمة للأصول الإسلامية، ممَّا عرضه للنقد الشديد من علماء الإسلام، بينما لقي قبولًا كبيرًا لدى الاتجاهات العلمانية الحداثية من المفكرين العرب.
في مقال لرابط العلماء السوريين، كتب أحمد محمد كنعان بأن الفقه الإسلامي “لم يسلم من سهام حبش الطائشة فيذهب إلى أن في الفقه الإسلامي أحكامًا لعينةً قاسيةً (هكذا؟!) كحكم الفرار من الزحف، متجاهلًا عن عمد وسوء نية أن كل القوانين الوضعية تجمع على هذا الحكم باعتباره خيانة عظمى عقوبتها الإعدام؟!”.
ويرى حبش وفقًا لكنعان “أن وصف المسلمين بالشهداء ووصف غيرهم بالقتلى هو اتجاه منحرف يمهد للتطرف والإرهاب، فالكل في اعتقاد حبش شهداء لا فرق بين جينات المسلمين وجينات غيرهم من الأمم، حسب وصفه، كأن مسألة الشهادة ترتبط بالجينات لا بالنية والاعتقاد؟!”.
يحب حبش الجدل ويرى فيه الخير، فيقول في أحد منشوراته: “نحن نكتب للتغيير لا للتخدير ومقال لا جدل فيه لا حاجة إليه”، ولسنا هنا لمناقشة فكر الرجل، فالأمر واسع وفيه أخذ ورد، لكن عندما يجتمع الفكر مع السكوت على الجرائم والأخطاء وتلميع الظالمين فلا ينفع حينئذ التفكير ولا التجديد ولا غيره.
خرج محمد حبش من سوريا إلى الإمارات عام 2012 في أمر اُعتبر انشقاقًا عن مؤسسة نظام الأسد، ويحسب له أنه رفض عنف النظام ضد المتظاهرين، إلا أنه لم يتخذ موقفًا واضحًا من أهل الثورة، فتارة ينكر حمل السلاح في وجه النظام وأخرى يجلس في أحد المؤتمرات تحت علمه، ويبرر لذلك بقوله “هناك نصف الناس في سوريا يحملون العلم الأحمر ونصفهم يحملون العلم الأخضر ومن وجهة نظري فأنا أحترم العلمين. بوصفهما تعبيرًا عن قسم عزيز من السوريين”.
يرى حبش أن الإمارات هي “بلاد اللامستحيل”
اتخذت الإمارات من محمد حبش لسانًا تنطق به، فهو شخص متكلم بارع، وفي هذا السياق يقول المحامي السوري المعارض وأحد أشهر وجوه المعارضة هيثم المالح عن حبش: “همه أن تبقى خزائن الإمارات مفتوحة له ولمراكزه البحثية التي تعمل على إيجاد دين جديد باسم التجديد، وهو لعمري تجديف في الفكر وتجريف للعقل السليم”.
في أحد مؤتمرات التسامح التي تقيمها أبو ظبي، دعا حبش الدول العربية “لتدريس نموذج الإمارات في نبذ الكراهية وترسيخ قبول الآخر في مدارسها”، لكن لمنظمة هيومن رايتس ووتش رأي مختلفٌ تمامًا عما يراه حبش، حيث يقول فينتسيل ميشالسكي مسؤول المنظمة في ألمانيا عن وصف أبو ظبي بأنها “متسامحة”، “نعم إنها سمعة مكتسبة، إلا أنها غير صحيحة، وهذه السمعة يحملها البلد بغير حق”.
يضيف ميشالسكي: “الإمارات العربية المتحدة ليست دولة متسامحة، إذ توجد هناك خروقات حقوق إنسان جسيمة خاصة فيما يرتبط بحق حرية التعبير، ومن يريد ممارسة هذه الحقوق، فإنه قد يعرض نفسه لعقوبة السجن. هناك مدافعان مشهوران عن حقوق الإنسان تم الحكم عليهما بالسجن عشر سنوات لكل واحد منهما: الأول لأنه انتقد مصر والآخر لأنه انتقد بصفة عامة وضع حقوق الإنسان في البلاد. فالدولة تتحرك بعنف كبير وبقسوة ضد المعارضين والمنتقدين”.
يرى حبش أن الإمارات هي “بلاد اللامستحيل”، جاء ذلك في مباركته بوصول أبو ظبي للمريخ، حيث قال: “مبروك للإمارات أول بلد عربي وإسلامي ينجح في الوصول إلى المريخ وخامس دولة على مستوى العالم. بلد ناجح بكل المقاييس الله يحميهم ويوفقهم. بلاد اللامستحيل بلاد عمل وأمل ونجاح وتفوق، بلاد تعتبر العالم أسرة واحدة، ويعيش فيها وافدون من 200 جنسية في كرامة واحترام، ولا وقت للنزاعات الكلامية والمذهبية”.
يتماهى محمد حبش مع سياسة أبو ظبي بخصوص قضايا إقليمية، فمثلًا في الوقت الذي أدانت فيه الإمارات عملية غصن الزيتون لطرد عصابات الوحدات الكردية من مدينة عفرين السورية، كان رأي محمد حبش: “الحرب ضد أهل عفرين عدوان وظلم”، لكن حبش يكيل بمكيالين حيث يروج لمشروع “روجافا” الانفصالي الكردي، ففي أحد منشوراته يقول: “تابعت الخطوة الجريئة لجامعة روجافا في القامشلي حول إطلاق أكاديمية الإسلام الديمقراطي، وكذلك كلية الديانة المسيحية والأزيدية. أعتقد أنها خطوة مباركة وأسلوب متقدم لفهم قيم الإسلام ومثله العليا، والاعتراف بشركائنا في الأرض والوطن”.
وتجدر الإشارة إلى أن الوحدات الكردية التي يعتبرها حبش “شركاء الوطن” هي ذاتها من هجرت عشرات القرى العربية وارتكبت المجازر وهاجمت المناطق المحررة بالمفخخات والعبوات الناسفة.
بعد هجوم الضابط المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس، كتب محمد حبش: “الحرب بين الليبيين حفتر والسراج، الرايات نفسها والمبادئ والثورة والأهداف نفسها، لكنك مرغم على لعبة القتل اقتل أو تقتل قانون إبليس لدى كل من الفريقين من الحجج والبراهين ما يملأ مكتبة كاملة، فالكل ملتزم بقتال الإرهاب وبناء الوطن الموحد والتخلص من الخونة والمرتزقة، إنها نفس الحجج ونفس البراهين ونفس البيانات، وفي النهاية الخلاف فقط في اتجاه البندقية!”.
وهنا يبدو أن حبش فاتته الكثير من التقارير التي تؤكد دعم الإمارات لخليفة حفتر الذي بدأ الهجوم ولم تكن الحرب هناك بين أخوة الهدف المشترك بل كان انقلابًا على حكومة شرعية معترف بها دوليًا، لكن ما كتبه حبش يؤكد عدم إنصافه وإنما وسيلة جديدة لتلميع رجل الإمارات حفتر.
الداعية المتقلب
“للذين غاظهم مدحي للإمارات الحبيبة أقول: فرق ما بينكم وبينها أن الإمارات عمّرت الخَرب وأما أنتم فخربتم العامر”، كانت هذه تغريدة للداعية الفلسطيني عدنان إبراهيم “يُسحّج” بها للإمارات، التي يتفق أهل ثورات الربيع العربي أن قيادة أبو ظبي كانت قائدة الثورات المضادة والشريكة في تدمير بلدانهم وضرب الديمقراطية وهو ما حصل من خلال دعم خليفة حفتر بحربه على الليبيين وإنفاق ملايين الدولارات على بشار الأسد وجيشه والمساهمة في انقلاب مصر وتنصيب السيسي رئيسًا وغير ذلك الكثير في السودان واليمن والمغرب العربي.
سيرة مثيرة للجدل لعدنان إبراهيم الذي كان يومًا ما مؤيدًا لثورات الربيع العربي بدايةً من مصر حتى إنه ندد بالانقلاب وما حصل من مجازر في ميدان رابعة، وكذا فعل مع الثورة السورية التي أيدها، لكنه نفى موالاته للثورة لاحقًا حيث قال: “قاتل الله السياسة مزقت البلدان وفرقت بين الإخوان، أنا لم أؤيد تلك الثورة من أول يوم، لأني لم أقتنع بها، وأنا أعتقد أن هذه الثورة لن تكون ثورة بريئة!”.
مثل محمد حبش يرى عدنان إبراهيم أن دولة الإمارات هي الأفضل في حقوق الإنسان على مستوى العالم العربي، إلا أن منظمة العفو الدولية ترى غير ذلك في بيان من بياناتها حيث تقول: “أخضعت السلطات، لا سيما جهاز أمن الدولة، المعتقلين، بما في ذلك الأجانب، للقبض والاحتجاز التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري، كما فرضت السلطات قيودًا على حرية التعبير، وزجت بمنتقدي الحكومة في السجون حيث احتجزتهم في ظروف مزرية”.
وبحسب المنظمة الحقوقية ذاتها: “ظلت المرأة تعاني من التمييز المجحف في القانون والممارسة الفعلية، وعلى صعيد حقوق الوافدين، ألغت السلطات المعايير الوظيفية للكفالة مما يسمح لمزيد من العمال الوافدين باستقدام ذويهم وكفالة إقامتهم في الإمارات العربية المتحدة”.
يضيف تقرير العفو “غير أن العمال الوافدين ظلوا مرتبطين بأصحاب العمل بموجب نظام الكفالة، ما يجعلهم عرضة للاستغلال وغيره من انتهاكات حقوق العمل، وما برحت دولة الإمارات العربية المتحدة تحرم الآلاف من الأفراد الذين ولدوا داخل حدودها من الحصول على الجنسية. ولم ترد أنباء عن تنفيذ عقوبة الإعدام، لكن المحاكم ظلت تصدر أحكامًا بالإعدام”.
ويرى عدنان إبراهيم بوزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد “وعيًا وأدبًا وحرصًا على الدين”، وعبد الله بن زايد هو الذي وقع اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني في واشنطن تحت رعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكنا قد أعددنا في نون بوست تقريرًا تفصيليًا عن تاريخه المليء بالنفاق والتناقض السياسي.
لا يخفى على أحد كم هاجم عدنان إبراهيم حكام الإمارات والسعودية، حيث كان يتهم آل سعود “بسرقة مليارات الأمة”، وكان يهلل لحزب الله وإيران، لكن دوام الحال من المحال، فوصل تطبيل عدنان إبراهيم إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حيث قال إن ولي العهد “ينطوي على أحلام كبيرة في المملكة العربية السعودية وحقق ما كنا نحلم فيه”.
كما أثنى إبراهيم على الخطوات التي اتخذها ابن سلمان قائلًا: “لم يشهد أي بلد عربي في المئة سنة الماضية تغيرات كما حدث في العامين الماضيين بالسعودية”، وعلى الرغم من التطبيل المتزايد ما زال عدنان إبراهيم غير مرغوب به في هذه البلدان.
نجح حبش وإبراهيم في الانضمام إلى طابور المؤثرين الذين وظفتهم الإمارات كأدوات للتعتيم على سجلها الحقوقي المشين وانتهاكاتها ضد الإنسانية، وفي المقابل تعزيز صورتها كواحدة من الدول المتقدمة في الوطن العربي، رغم أن رجال الدين كان الأجدر بهم أن يتحركوا بما يليق بمقامهم، وأن يقفوا مع الحق أينما دار مهما كانت الإغراءات والتهديدات السياسية من حولهم، وإلا كان من الأولى أن يتخلوا عن ألقابهم كي يصبحوا أكثر اتساقًا مع الأجندة الإماراتية.